هل يفقد الفلسطينيون الأمل في ملاحقة حكام اسرائيل وضرورة جلبهم الى العدالة الدولية بسبب جرائم الحرب، التي ترتكبها قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين ضد الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. لا، ليس على الفلسطينيين ان يفقدوا الأمل في العدالة الدولية لمجرد وجود مدعي عام على رأس المحكمة الجنائية الدولية...
احتلت قضية إغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقله، مراسلة شبكة الجزيرة الاعلامية مساحة واسعة من اهتمامات الرأي العام الدولي على المستويات الرسمية والأهلية في جميع دول العالم وفي جميع الهيئات والمنظمات الدولية ومنظمات حقوق الانسان. رواية الهروب الاسرائيلية من المسؤولية لم تقنع أحدا وشيئا فشيئا استقرت الرواية ذات المصداقية العالية على ان شيرين قتلت برصاص جندي اسرائيلي من نوع "روجر" يستخدمه جيش الاحتلال واستهدفها بشكل مباشر ومتعمد. هذا ما قالته النيابة العامة الفلسطينية في تحقيقاتها، التي اعتمدت على سلسلة من الشواهد والوقائع والحقائق في مسرح الجريمة وتفاصيل التشريح بما في ذلك نوع السلاح ونوع الذخيرة.
غير ان بيني غانتس وزير جيش الاحتلال ما زال يحاول تسويق رواية الهروب الاسرائيلي من المسؤولية، ففي أحدث تصريحاته عبر عن رفضه لنتائج التحقيقات التي اعلنت عنها النيابة العامة الفلسطينية وادعى بأن جيش الاحتلال ما زال يجري تحقيقا في الأمر من أجل الوصول الى الحقيقة. هذا ليس بالأمر الجديد بالنسبة لإسرائيل والمسؤولين فيها عن جرائم حرب جرت وما زالت فصولها تتوالى بحق الشعب الفلسطيني منذ قيام هذا الكيان.
هذ الكيان لم يعترف يوما بجرائمه منذ قيامه، فهو لم يعترف بجرائم قتل المدنيين في الطنطورة قبل قيام الدولة، التي تكشفت لاحقا عن جرائم وحشية دفن في اثرها نحو 200 فلسطيني، بعد إعدامهم في قبر جماعي يقع حاليا تحت ساحة انتظار سيارات “شاطئ دور” ولم تعترف بجرائمها في دير ياسين وغيرها بعد قيامها وآخرها جريمة اعدام الطفل البريء زيد محمد سعيد غنيم (14 عامًا) وهو في طريقه لزيارة بيت جده في منطقة " أم ركبة " جنوب بلدة الخضر.
كانت مسألة الهروب من المسؤولية عن جرائم الحرب ممكنة في ما مضى وخاصة في السنوات الاولى لقيام هذه الدولة لأكثر من اعتبار، رغم ان هيئات دولية كالصليب الأحمر الدولي كانت قد وثقت بعضها كجريمة الحرب في دير ياسين.
أما الاعتبارات فكانت ضعف سيطرة وسائل الاعلام على الحدث وتوثيقه والأهم هروب العالم في حينه من اتهام دولة بجرائم حرب ترتكبها تحديدا ضحايا الوحش النازي في وقت لم يكن فيه قد استفاق من هول جرائم الحرب، التي ارتكبها النازيون ضد اليهود والغجر والسلاف في الحرب العالمية الثانية. الضحية تتحول الى جلاد مجرم بهذه السرعة كانت فكرة تقض مضاجع الدول والمسؤولين فيها فتجاوزوا المشهد ودور اسرائيل فيه ومسؤوليتها عنه.
ليس من المتوقع ان تعترف اسرائيل بشكل واضح وصريح بإعدام شيرين أبو عاقله بدم بارد على يد جندي اسرائيلي قناص، وإن هي فعلت فلن يكون هناك ما يستدعي فتح تحقيق جنائي، فدولة الاحتلال سوف تجد من الوسائل ما يمكنها من الادعاء بأن الأمر كان حادثا عرضيا غير مقصود، فطهارة السلاح لا تحتمل فتح تحقيقات جنائية بممارسات جيش هو الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم حسب إداعاءات تتكرر باستمرار في اسرائيل.
وعلى كل حال فالصحفية شيرين لم تكن الاولى التي ارتقت برصاص جنود الاحتلال، فعلى امتداد 22 عاما منذ مطلع القرن ارتقى نحو 48 صحفيا شهداء على أيدي جنود الاحتلال، الذين لم يوفروا على كل حال المواقع الاعلامية الأجنبية بجرائمهم بما في ذلك قصف برج الجلاء في غزة في أيار من العام الماضي المكون من 11 طابقا وتسويته بالأرض وهو الذي كان يضم مؤسسات اعلامية محلية ودولية منها مكاتب شبكة الجزيرة ووكالة اسوشيتد برس الاميركية.
وليس من المتوقع كذلك ان تخرج المحكمة الجنائية الدولية عن صمتها او بتعبير أدق ان يخرج المدعي العام الجديد للمحكمة المحامي البريطاني كريم خان عن صمته المشبوه على جريمة اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين او عاقله وغيرها من جرائم الحرب، التي تراكمت ملفاتها في المحكمة في انتظار الانتقال خطوة واحدة الى الأمام بعد قرار الغرفة الابتدائية للمحكمة في عهد فاتو بنسودا بأن فلسطين (الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967) تقع ضمن ولايتها القضائية.
هذا التقدير لما هو متوقع من المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية كريم خان هو واقعي وغير مبالغ فيه ويستند الى قراءة متأنية لملفه وسجله المهني بالدرجة الرئيسية. فكريم خان لم يأت الى المحكمة الجنائية من سلك القضاء بل من سلك محاماة له فيه تاريخ حالك بعد ان تخصص في الدفاع عن عدد من مجرمي الحرب في المحكمة الجنائية الدولية ذاتها.
أليس هو وليس غيره من تولى الدفاع عن قائمة من مجرمي الحرب في افريقيا. أليس هو من تولى الدفاع عن رئيس ليبيريا السابق، الدكتاتور تشارلز تايلور الذي دانته المحكمة الخاصة لسيراليون بالسجن 50 عاما بتهمة ارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية وعن عدد من القياديين في حركات تمرد في دارفور متهمين بارتكاب جرائم حرب في هجوم مسلح على قاعدة بعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في العام 2007، أودى بحياة 12 عنصرا من البعثة وعن وليام روتو النائب السابق للرئيس كينيا الذي نجح خان بإسقاط التهم الموجهة ضده والمتعلقة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وعن جان بيير بيمبا، نائب الرئيس السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية المتهم بجرائم حرب ارتكبها جنوده في إفريقيا الوسطى وآخرين غيرهم.
إذن هو صاحب سجل غير نظيف في المحكمة الجنائية الدولية ذاتها وهو سجل دفع 22 منظمة حقوقية أفريقية، معظمها من كينيا وأوغندا وتنزانيا، لتوجيه رسالةً للدول الأعضاء في المحكمة تتهمه بشكل صريح ومباشر بعلاقته مع الحكام الكينيين التي تجاوزت حدود المهنة وتدعو الى عدم انتخابه خلفا للسيدة بنسودا. فضلا عن ذلك ترشح السيد كريم خان او تم ترشيحه (لا فرق) وهو يدرك أنه في حال استئناف أو إعادة فتح القضايا التي لم تغلقها المحكمة الجنائية وكان له دور فيها سوف يضطر أن يوكّل غيره في مكتب الادّعاء لينوب عنه لتضارب مصالحه مع مصالح عائلات الضحايا التي لم تحسم المحكمة في أمرها.
الى جانب هذا السجل غير النظيف يبدو ان المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية السيد كريم خاص يعمل وفقا لأجندة سياسية محددة ليسدد كما يبدو فاتورة انتخابه لأصحاب الشأن والفضل. مسلسل مثير من التصفيات جرى في سياق انتخابه لهذا المنصب.
كان واحدا في قائمة من 89 مرشحا اختصرت في سباق التصفية إلى اربعة عشر مرشحا ثم إلى أربعة هو من بينهم ليرسو الامر في نهاية السباق على كريم خان، الذي حصل على 72 صوتا متخطيا الأغلبية المطلوبة والمحددة باثنين وستين صوتا، ما يعني بوضوح انه لم يكن مرشح اجماع او حتى شبه اجماع. وكان خان في هذا السباق المرشح المفضل لدى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، الأولى لشدة حرصها على طي صفحة جرائم الحرب في افغانستان فضلا عن العراق والثانية لتعطيل قرار الغرفة الابتدائية في المحكمة وولايتها القضائبة النافذة في فلسطين، حيث عملت الحكومة الإسرائيلية، حسب مصادر سياسية وإعلامية متطابقة ونافذة، من وراء الكواليس للدفع باتجاه انتخاب خان باعتباره يرفض تسييس عمل المحكمة الدولية.
ولكن هل أظهر المدعي العام الجديد قدرا من المسؤولية في نفي إدعاء تسييس عمل المحكمة. الشواهد على ذلك لا توحي بذلك بل هي جاءت تؤكد بأن السيد كريم خان يعمل وكيلا لدى كل من البيت الأبيض و 10 داوننغ ستريت في لندن.
ذلك كان واضحا من سرعة تحرك المدعي العام الجديد في الملف الاوكراني، إذ لم تمض أيام على بدء الحرب في أوكرانيا حتى سارع ليس فقط للقيام بزيارتين لاوكرانيا بل ولتشكيل فرق عمل تابعة للمحكمة الجنائية الدولية وليعلن أنه فتح تحقيقا بشأن الوضع في أوكرانيا للتحقق مما إذا كانت هناك جرائم حرب قد ارتكبت في هذا البلد بعد أن حصل على دعم 39 من الدول الأطراف في المحكمة، بينما مارس الصمت الكامل ليس فقط على جريمة إغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقله، التي شغلت وما زالت تشغل الرأي العام حتى في الدول التي قدمت له الدعم في للتحقيق في ما يجري في اوكرانيا، ناهيك عن جرائم الحرب الأخرى وملفاتها العالقة في المحكمة منذ سنوات، التي ترتكبها اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967.
هل يعني كل هذا ان يفقد الفلسطينيون الأمل في ملاحقة حكام اسرائيل وضرورة جلبهم الى العدالة الدولية بسبب جرائم الحرب، التي ترتكبها قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين ضد الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. لا، ليس على الفلسطينيين ان يفقدوا الأمل في العدالة الدولية لمجرد وجود مدعي عام على رأس المحكمة الجنائية الدولية هذا هو ماضيه المهني وهذه هي باكورة أعماله على رأس هذه الهيئة القضائية الدولية. العكس هو الصحيح، أي أن على الفلسطينيين أن يرفعوا في وجه المدعي العام الجديد بطاقة حمراء بعمل مشترك على المستويين الرسمي والأهلي.
يجب أن يعلم كريم خان ان قرار الغرفة الابتدائية في المحكمة الجنائية الدولية قرار ملزم وبأن الاراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان حزيران تقع ضمن الولاية القانونية للمحكمة، التي انضمت فلسطين لنظام روما المؤسس لها عام 2015، مع ما يتطلبه ذلك من تكثيف الجهود السياسية والدبلوماسية والقانونية لممارسة كل أشكال الضغط على المحكمة بما في ذلك تحرك المنظمات الحقوقية الفلسطينية المعنية بحقوق الانسان في عمل مشترك مع نظيراتها الاسرائيلية والعربية والاقليمية والافريقية والدولية وتأكيد استقلالية المحكمة عن الضغوط السياسية وضمان فتح جميع الملفات لتحقيق العدالة الدولية لضحايا جرائم الحرب الاسرائيلية بما فيها جريمة اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين ابو عاقله.
اضف تعليق