هذا الجيل أصبح عنوان التحدي الأبرز للاحتلال، جيل مقدام وغير هياب، فقد الثقة بأي مسار سياسي وأصبح أكثر قناعة بأن المقاومة المسلحة هي الأنسب في مواجهة الاحتلال والاستيطان، وهو جيل يعمل، وفق تقديرات الاجهزة الامنية ومراكز البحث والمعاهد الاسرائيلية بطرق ووسائل وأهداف مختلفة عن جيل انتفاضة الأقصى...
الوضع في اسرائيل على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والأمنية مصاب هذه الأيام بحالة من الذهول، فقد جاءت التحديات أكبر من التوقعات ما دفع الاحتلال لشن عملية عسكرية وأمنية مطلع العام أطلق عليها كاسر الامواج، وهي تشمل انتشار أعداد كبيرة من القوات ضمن مهمات ثلاث رئيسية، الأولى والأساسية فيها هو الأمن في نطاق المدن، والثانية الأمن على خط التماس وجدار الفصل العنصري، أما الثالثة فهي نشاط هجومي موجه في عمق الضفة في المدن والقرى الفلسطينية، وفي الأساس ضمن نطاق مدينتي جنين ونابلس.
وقد بدأ جيش الاحتلال في الأشهر القليلة الماضية بشنّ حملات مداهمات واعتقالات طالت مختلف محافظات الضفة الغربية بتركيز على محافظتي نابلس وجنين، فما يحدث في هاتين المحافظتين يقلق المؤسسة الأمنية الاسرائيلية وفق تقديراتها أكثر من التهديد الذي يمثله قطاع غزة، أو حتى "حزب الله" على الجبهة الشمالية.
لماذا؟ لأن الضفة الغربية بما فيها القدس هي الخاصرة الضعيفة للاحتلال، حيث تعمل الخلايا المحلية للمقاومة، وهي خلايا ينظمها شبان فلسطينيون من أبناء جيل ما بعد الانتفاضة الثانية / انتفاضة الأقصى.
هذا الجيل أصبح عنوان التحدي الأبرز للاحتلال، جيل مقدام وغير هياب، فقد الثقة بأي مسار سياسي وأصبح أكثر قناعة بأن المقاومة المسلحة هي الأنسب في مواجهة الاحتلال والاستيطان، وهو جيل يعمل، وفق تقديرات الاجهزة الامنية ومراكز البحث والمعاهد الاسرائيلية بطرق ووسائل وأهداف مختلفة عن جيل انتفاضة الاقصى ونفذ حسب روايات أجهزة أمن الاحتلال بين كانون الثاني وتموز من العام 2021، أكثر من 30 عملية إطلاق نار واشتباكات مع قوات للاحتلال، وارتفعت عملياته في الفترة الموازية لها من العام 2022 إلى 91 عملية.
وتخشى المؤسسة الأمنية والعسكرية الاسرائيلية من احتمالات تصاعد هذه العمليات، ومن محاولات تقليد العمليات الناجحة، في ظل الدور الذي تلعبه هنا شبكات التواصل الاجتماعية. وبدا أن حلم استمرار الاحتلال بدون كلفة مع تسهيلات ورشوات اقتصادية للجمهور في الضفة، من شأنه أن يدفع الفلسطينيين للتسليم بالوضع القائم والتعايش معه. وقد أصبح واضحا للمستوى العسكري والأمني كما السياسي في اسرائيل أن ذلك ليس أكثر من أضغاث أحلام.
ومن هنا لجأ جيش الاحتلال بتوجيه من المستوى السياسي الى حملة " كاسر الامواج "، التي انبثق عنها نظرية سياسية عنوانها " قص العشب ". وقص العشب هذا هو الوجه الأخر لنظرية " كي الوعي "، التي رافقت ما أسمته اسرائيل في حينه عملية السور الواقي عام 2002 وكلاهما لا يصدر إلا عن عقلية فاشية وشيطانية.
يأتي ذلك ردا على إرهاصات انتفاضة، تختلف وفق التقديرات الاسرائيلية عن الانتفاضة الأولى التي تفجرت أواخر العام 1987 وعن انتفاضة الأقصى، التي اندلعت مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2000 وتمتاز بممارسة قدر كبير من الاستعداد للمواجهة العنيفة ضد قوات الاحتلال، فكل عملية اعتقال ينفذها جيش الاحتلال في الضفة الغربية باتت تواجَه بمقاومة عبر إطلاق النار وإلقاء الزجاجات الحارقة والحجارة تطاول حسب تقديرات الاجهزة العسكرية والأمنية الاسرائيلية مناطق كثيرة في الضفة، يواجه فيها جيش الاحتلال أزمة خيارات في كل ما يتعلق بأشكال المواجهة فكل اجتياح ليلي للجيش الإسرائيلي لتنفيذ اعتقال في أي منطقة فلسطينية يصطدم اليوم باستعداد عال للمواجهة من جانب خلايا تسندها جماهير عفوية تقف الى جانبها وتمدها بعزيمة اكبر.
ومن هنا جاء تقرير معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي لعام 2022 يؤكد أنّ أحد أبرز التهديدات التي تواجه الاحتلال هي الجبهة الداخلية في فلسطين المحتلة، فالوضع الأمني في الضفة الغربية حسب المعهد يغلي في ظل مخاوف من أنه ذلك من شأنه أن يؤدي وخاصة في ظل الضعف الواضح، الذي تؤشر عليه أوضاع السلطة الوطنية الفلسطينية، إلى حالة استنزاف وتهديد ستجعل إسرائيل غير قادرة على مواجهة التهديدات الخارجية وخاصرتها الأمنية رخوة.
يبدو واضحا هنا ان دولة الاحتلال بمختلف مؤسساتها السياسية والعسكرية والأمنية تتعامل مع الاوضاع في الضفة الغربية المحتلة كمشكلة أمنية بالدرجة الرئيسية، والمسؤولون فيها لا يسألون أنفسهم عن الاسباب التي تدفع بهذه الاوضاع الى مزيد من التأزم.
هم لا يدركون أن حدة التناقض في المصالح الوطنية والمادية مع الشعب الفلسطيني قد وصلت الذروة، وعندما يصل هذا التناقض الى الذروة فمن الطبيعي أن يحدث الانفجار. تلك دروس تاريخ ومن يتجاهل دروس التاريخ سوف يجد نفسه مضطرا لإعادة انتاجه ولكن على نحو كارثي.
وفي الجانب الأمني تلقي سلطات الاحتلال باللائمة على ضعف السلطة الوطنية وعجزها وتعرب عن استعدادها لدراسة معالجة هذا الضعف بحلول هي مجرد وعود وحبر على ورق، كإطلاق سراح بعض المعتقلين، إذا كان ذلك يرمم صورة السلطة أو بزيادة تصاريح العمل في المشاريع الاسرائيلية. وهي في مجملها حلول نسبة مساهمتها في تخفيف حالة التوتر والاحتقان جدا محدودة، لأن الأسباب تكمن في ميادين أخرى مختلفة تتجاهلها حكومات اسرائيل.
فإسرائيل تواصل نشاطاتها الاستيطانية الهدامة في طول الضفة الغربية بما فيها مدينة ومحيط القدس المحتلة. هي نشاطات لا تتوقف بصرف النظر عن الفريق الحاكم في هذه الدولة. وقد أظهرت معطيات لمجلس يشع الاستيطاني، نشرت حديثا أن عدد المستوطنين في مناطق الضفة الغربية بما يشمل وادي الأردن، سيرتفع إلى نصف مليون مستوطن بحلول نهاية عام 2022 الجاري يتمركزون في 158 مستوطنة ونحو 200 بؤرة استيطانية الى جانب نحو 250 ألف مستوطن في مدينة القدس الشرقية ومحيطها.
لا فرق هنا بين حكومة يقودها بنيامين نتنياهو او حكومة يتناوب على قيادها نفتالي بينيت ويئر لبيد. فمعدل الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس في ارتفاع مضطرد، فقد أقام الاحتلال خلال العام الماضي 2021 أكثر من 22030 وحدة استيطانية، منها 14894 في شرق القدس وتضاعف العدد أكثر من الضعف مقارنة بالعام 2020 الذي وصل فيه عدد الوحدات الاستيطانية الجديدة في القدس إلى 6288 و7136 وحدة في الضفة الغربية وأصبحت المدن والقرى الفلسطينية محاطة بأسيجة استيطانية تحبس عنها الماء والهواء
وفي الوقت الذي تواصل اسرائيل بناء وتوسيع الاستيطان فإنها تقوم بهدم منازل الفلسطينيين. فقد هدمت قوات الاحتلال نحو 11900 منزل وهجّرت نحو 73 ألف فلسطيني منذ عام 1967 وحتى نهاية سبتمبر/أيلول 2021 منهم 47 ألفا و220 مواطنا مقدسيا. عمليات الهدم هذه متواصلة فقد هدمت 500 مبنى بالضفة الغربية والقدس المحتلتين منذ مطلع العام 2022، بحسب إحصاءات وثقتها منظمة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة (أوتشا)، التي حذرت في أحدث تقاريرها من خطورة سياسة هدم المنازل التي تتبعها سلطات الاحتلال بالقدس والضفة وخاصة في مناطق (ج).
أما الغطاء القانوني الذي تستند إليه سلطات الاحتلال فهو قانون الطوارئ البريطاني لفلسطين عام 1945، الذي ظل ساريا حتى بعد إقامة دولة إسرائيل التي تستخدمه بذرائع أمنية شتى. كإجراء إداري يطبق دون محاكمة ودون الحاجة إلى إظهار أدلة وهو قانون يتناقض مع المادة 64 من اتفاقية جنيف الرابعة تطالب سلطة الاحتلال بتغيير القوانين في الأراضي المحتلة، والتي لا تلبي الحد الأدنى من الضمانات الإنسانية المنصوص عليها في الاتفاقية.
وتستسهل قوات الاحتلال في علاقتها مع الفلسطينيين الضغط على الزناد في التعامل حتى مع المدنيين بمن فيهم الصحفيين وفق التعليمات الصادرة عن المستويين السياسي والعسكري لدرجة أثارت حفيظة أقرب الحلفاء الى اسرائيل. ولا تأبه حكومة اسرائيل بالمناشدات الخجولة من هؤلاء الحلفاء والتي تدعوها الى إعادة النظر في هذه التعليمات.
حتى مناشدات مبعوثي الادارة الاميركية، الذين زاروا اسرائيل مؤخرا لا تجد صدى لدى حكومة تل أبيب، التي أكد رئيسها يئير لابيد قبل أيام بلغة محمولة على موجة عالية من التحدي والعجرفة في مراسم تخرج فوج جديد من ضباط وضابطات البحرية الإسرائيلية بأنه لا أحد يمكن ان يملي لنا تعليمات إطلاق النار وبأن جنوده يتمتعون بدعم كامل من قبل الحكومة والشعب الإسرائيلي. تعليمات إطلاق النار هذه ثمنها باهظ للغاية في الجانب الفلسطيني فقائمة الشهداء الذين ارتقوا نتيجة هذه التعليمات منذ بداية العام وحتى اب 2022 بلغ 132 شهيدا وبات العدد يقترب من 150 شهيدا.
وتستمر سياسة الباب الدوار في السجون الاسرائيلية، أفواج تدخل وأخرى تخرج دون انقطاع، وهي في حقيقة الأمر ليست بالسجون بقدر ما هي معسكرات اعتقال جماعي تمارس سلطة السجون وأجهزة القمع ساديتها بوحشية ضد الأسرى الفلسطينيين. وفق بيانات المؤسسات الفلسطينية المعنية بمتابعة قضايا وحقوق الأسرى في السجون الاسرائيلية وصل عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال نحو (4550) أسيراً، وذلك في نهاية شهر تموز 2022، من بينهم (27) أسيرة، و(175) قاصراً، ونحو (670) معتقل إداري. وبلغ عدد أوامر الاعتقال الإداريّ الصّادرة في شهر تموز 2022 نحو (191) أمراً، بينها (65) أمراً جديداً، و(126) أمر تمديد.
ولا تكتفي اسرائيل بهذا كله، بل هي تمارس سياسة لصوصية وتسطو على المال العام الفلسطيني دون ضوابط أو كوابح سياسية كانت أم أخلاقية. الأمر هنا لا يتصل فقط بالسطو على أموال المقاصة وخصم مئات ملايين الشواقل تساوي ما تدفعه السلطة وتدفعه منظمة التحرير الفلسطينية لأسر الأسرى والشهداء والجرحى الفلسطينيين، بل هو يمتد الى السطو على جيوب المواطنين الفلسطينيين برسوم المغادرة، التي تستخدمها سلطات الاحتلال للسيطرة على المعابر وبالتالي على حركة الفلسطينيين ويمتد الى سرقة أموال الفلسطينيين بوسائل غير مشروعة من خلال أنظمة مالية وتجارية فرضتها على الجانب الفلسطيني في اتفاق باريس الاقتصادي، وهي أموال تتجاوز في قيمتها عشرات مليارات من الدولارات، علما أن ذلك الاتفاق مخالف للقانون الدولي لأنه ينطوي بشكل واضح وصريح على سياسة ضم وإلحاق.
والى جانب هذا كله هناك عامل تفجير بل صاعق تفجير لا تدرك سلطات الاحتلال بمستوياتها السياسية والعسكرية والأمنية خطورته، يتمثل في الاعتداء المتواصل على مقدسات المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين. فما يحدث في المسجد الأقصى المبارك هو تآكل مستمر في الوضع الراهن لصالح رواية توراتية لا سند تاريخي لها غير الاساطير وأقوال العرافين، ما يثير غضب ونقمة الفلسطينيين. سلوك سلطات الاحتلال أخذت تسمح في السنوات الأخيرة للحاخامات والمستوطنين بإملاء قواعد جديدة لسياسة سوف يكون له نتائج مدمرة على المستويات المحلية والاقليمية والدولية لن تخفف من وقعها اتفاقيات التطبيع الابراهيمية على الاطلاق.
وفي بحثها عن حلول للأوضاع المتفجرة في المناطق الفلسطينية المحتلة تحاول دولة الاحتلال إطفاء الحرائق بمزيد من العوامل، التي تؤجج الحرائق. هي لا تدرك ان إطفاء النار بالنار عملية عقيمة وعديمة الجدوى. وفي النتيجة هناك حقيقة يجب ان يدركها الجميع وهي ان الذين لا يتعلمون من التاريخ ومآزقة ومآسيه بشكل خاص محكوم عليهم بإعادته، وفي ظني أن حكام تل أبيب هم من ذلك الصنف، الذين لا يبدون ذرة استعداد للتعلم من التاريخ.
وفي الجانب الاخر نقف نحن، وتاريخنا الحديث قدم لنا نموذج نجاح في انتفاضة الحجارة المباركة التي انطلقت شرارتها نهاية العام 1987 وانتهت الى ما انتهت إليه. الآن نحن أمام لحظة تاريخية بدأت صورتها تتبلور في نموذج جديد من النضال ضد الاحتلال، وهو نموذج يعطي الأمل ويشعل الضوء في نهاية النفق ويفتح على مسار سياسي ينعقد شرطه وتنعقد آفاق تطوره على مدى استجابة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة السلطة الوطنية وقيادات الفصائل والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني لرعاية هذا النموذج وتقديم كل أشكال الاسناد له بسياسة جديدة قررتها مجالسنا الوطنية والمركزية جوهرها يفصح عن نفسه بأن الفترة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن، بما انطوت عليه من التزامات، لم تعد قائمة، ما بات يفرض التعامل مع اسرائيل باعتبارها دولة احتلال استيطاني ودولة تمييز عنصري وتطهير عرقي وما يترتب على ذلك من تدابير وخطوات عملية لترجمة تلك القرارات دون إبطاء، باعتبارها الرافعة السياسية للنموذج الكفاحي الجديد ولانتفاضة شعبية واسعة تفضي الى عصيان وطني شامل يفتح الآفاق لتسوية سياسية شاملة ومتوازنة.
اضف تعليق