الاقتراب من الهم المشترك والتخلص من الأنانية أو النزعات القومية تجعل الإنسان لديه القدرة على المساهمة في حل المشكلات والتصدي للشؤون العامة بنحو من الفهم العميق لأهمية وخطورة الدور الذي ينهض به على المستوى المحلي والدولي فتكون خيارته نابعة عن وعي وادراك بما يعزز الحكم الرشيد...
المواطنة تعني ان الفرد يكون له مركز قانوني يستمده من القانون منذ ولادته على أرض الوطن حتى مماته، فيكتسب حقوقاً معلومة ويتحمل مثلها التزامات معينة، فله اكتساب الجنسية والتمتع بامتيازات عديدة صحية واجتماعية وتعليمية واقتصادية وسياسية كثيرة، وبمعناها الاصطلاحي هي علاقة قانونية بين فرد ودولة ما تترتب عليها مجموعة من الحقوق والواجبات المتقابلة، وبمعناها السياسي تعني الاشتراك الإيجابي للمواطن في الشأن العام بممارسة الحقوق السياسية، وبمعناها الاقتصادي تضع على الدولة التزام إشباع الحاجات الأساسية للفرد ليسهم الفرد بتحقيق المصلحة العامة.
فالمواطنة في معنى محدد تعني الهم المشترك بين مواطني دولة ما، بما يحمله المعنى المتقدم من ضرورة التكامل بالعمل الفردي والجمعي لتحقيق الغاية الأسمى ألا وهي رفعة مكانة الدولة بين الدول والعيش الكريم لشعبها بقيام الفرد بواجبه كاملاً إزاء الدولة والمجتمع مقابل تكفل الطرف المقابل بحقوق الفرد بلا انتقاص.
ومما يشار إليه ان الأمم المتحدة ربطت بين مفهوم المواطنة وسيادة حكم القانون إذ يعني ما تقدم ان جميع الأشخاص العامة والخاصة لاسيما هيئات الدولة المختلفة خاضعة للقوانين العادلة والصادرة من الهيئة التي تمثل الإرادة العامة بشكل علني، على ان تكون هذه القوانين متفقة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان وتطبق على الكافة بشكل متساوي وان يتم الاحتكام وفقها إلى القضاء المستقل المحايد، ومن متطلبات ما تقدم المساواة أمام القانون والمسؤولية أو تحمل التبعة، والعدل في تطبيق القانون، وما سواها من متطلبات الحكم الديمقراطي العادل.
ومن مقتضياته الفصل بين السلطات ومشاركة الأفراد في صنع القرار والسياسة العامة، وتحقيق اليقين القانوني من قبل المشرع بقوانين واضحة لا تقبل التأويل الواسع بما يفتح الباب واسعاً أمام السلطة العامة للتعسف باسم التفسير، وضمان الشفافية والمساءلة القانونية للسلطات والأفراد العاملين فيها بغض النظر عن أي اعتبار أخر غير العدالة والإنصاف وبما تقدم يتحقق المفهوم العملي للمواطنة حين يشعر الفرد بالانتماء لمجتمع ودولة كريمة تضمن له الحقوق والحريات الأساسية ويشعر فيها بأن السيادة للقانون وان المساءلة للمذنب مهما كان منصبه أو نفوذه.
ولقد شاع مصطلح المواطنة العالمية منذ عشرات السنين التي مضت إلا أنه تم استعماله رسميا في خطابات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة من أمثال اليونسكو منذ العام 2010 وتم تضمينه أيضاً في وثائق المنظمة العالمية المتعلقة بالتنمية وأهدافها لغاية العام 2030، فالمواطنة العالمية تعني شيوع ثقافة تقوم على الانفتاح وتقبل الأخر والشعور بالانتماء الكوني وليس الوطني أو المحلي أو القبلي فحسب، وبالتالي تحمل المسؤولية الإنسانية تجاه كل البشرية بلا استثناء والعمل على تحقيق أهداف سيادة القانون عالمياً وتحقيق الكرامة الإنسانية.
لذا عند العمل على تكريس مفهوم المواطنة العالمية لابد من التركيز على النشء والشباب ليسهموا في هموم العالم ومواجهة المخاطر التي تتحدى الإنسانية ومنها جائحة كورونا مثلا والتغيير المناخي والحروب الدولية أو الوطنية التي تخلف الملايين من النازحين والمهجرين ومئات الألوف من القصص المؤلمة للمعاناة الإنسانية، ليس ما تقدم فحسب بل تشجيع الفرد على المبادرة الفعلية في حل الإشكاليات التي تتهدد العالم ومقاومة النعرات العنصرية والتطرف والإرهاب والفساد بكل أشكاله والطغيان بكل تجلياته على المستوى الوطني والاجتماعي بل والأسري.
فالمواطنة العالمية هي شعور الفرد وإيمانه بضرورة التعايش السلمي بين الثقافات حول العالم، أو هي مجموعة من القيم العالمية والتي تتصل بالانتماء للعنصر البشري والمشاركة الواعية والفاعلة بتحديد المصير بما يتفق مع الأسس الديمقراطية وبما يجعل الفرد إيجابياً مدركاً للحيز الذي يشغله ومؤثراً في الوسط الذي يعيش فيه أو يتعامل معه، ولابد من الإشارة إلى ان العالم بعد الثورة التقنية أضحى باحة صغيرة وأصبح بإمكان الفرد التأثير بالرأي العام الوطني والعالمي باستثمار الجوانب الإيجابية لحرية الرأي والتعبير من خلال وسائل الاتصال والتواصل ذات الطابع العالمي.
وما تقدم لا يترك عذر لأي إنسان في ان يقول كلمته تجاه المخاطر التي تتهدد الكوكب وسكانه جميعاً والمطالبة بإصلاح الأوضاع قبل خروجها عن السيطرة، فلا بد من الشعور العالي بالمسؤولية تجاه الأرض والهواء والماء الذي تتشاركه جميع شعوب الأرض، يؤكد ما تقدم مقاصد الأمم المتحدة الواردة في المادة الأولى من ميثاقها الصادر العام 1945 ((حفظ السلم والأمن الدولي، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرّع بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها، إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام، تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء)) فالمواطنة العالمية تعني فيما تعنيه:
1- تقبل الآخر واحترام كل الثقافات الفرعية بمختلف مشاربها الدينية والحضارية والاجتماعية والاقتصادية.
2- مقاومة طغيان السلطة سلمياً من خلال رفض كل أنواع الانتهاكات سواءً أكان مصدرها السلطة الحاكمة في دولة من الدول ذات نظام استبدادي، أم كان مصدرها العدوان على شعوب العالم من دول وأنظمة أو حركات متطرفة، وما المظاهرات الرافضة للعدوان على شعوب الأرض في طول العالم وعرضه إلا مثال بارز على هذا الشعور الإنساني.
3- تحقيق السلام العالمي بكل الوسائل الممكنة.
4- ضمان الحقوق والحريات للجميع بلا أي شكل من أشكال التمييز كون القواعد الناظمة لما تقدم ذات بعد إنساني عالمي يأبى الطمس بادعاء الوطنية أو المحلية أو مراعاة خصوصية مجتمع ما، فتحت هذه الذرائع انتهكت الحرمات وصودرت الحريات.
ورغم ما يمكن ان تحققه المواطنة العالمية من أهداف نبيلة ومن شعور بالتضامن في أوقات الأزمات والشدائد نجد ان البعض قد عارض الفكرة باسم المحافظة على القيم أو مخافة تعريض الأمن الوطني للخطر أو يرفع مصالح الآخرين إلى مصاف المصلحة الوطنية، التي بحسبهم تعلوا ولا يضاهيها شيء، بل ان البعض اعتبر المفهوم محل البحث أحد تجليات العولمة السلبية التي من شأنها ان تفتح الحدود للمهاجرين من أصول مختلفة عن شعب الدولة ما يمهد الطريق لانتشار ثقافات مختلفة، وتأثير المهاجرين على السكان الأصليين اقتصادياً وثقافياً، بل قد يحمل الكثير منهم فكراً متطرفاً أو إرهابياً، فيتسبب بانعدام الأمن الشخصي لمواطني الدولة وسكانها الأصليين، وهذا ولا شك قمة العنصرية والتطرف وحجة داحضة لو وزنت بميزان الحكمة والإنسانية، فالتطرف والفكر الاستبدادي أو الإستعلائي متأصل في بعض عقول مواطني دول العالم الأول وفكرهم المنحرف لا يقل خطورة عن فكر الجماعات التي انتشرت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب أسيا، بل لعل بعض هذه الجماعات وجدت في منظري العالم الغربي ضالتها لتغذي اتباعها بالفكر المنحرف وتهيئهم لمواجهة الثقافات المتباينة بشكل غير سلمي.
إذن نحن نتطلع لإعداد جيل يعتبر الكرة الأرضية برمتها هي الوطن فلا بد من المحافظة عليها وصون مواردها، وشعوب الأرض جميعاً هم شعب واحد يعيش كالأسرة الواحدة بحالة من التضامن في السراء والضراء، والاحترام المتبادل للثقافة والخصوصية وان يسود منطق التسامح والتقبل والاحترام، وان الأداة الرئيسة لوصول إلى ما تقدم هي التعلم وتزويد المتعلمين من الفئات الأصغر سناً مفاهيم عامة عن العالم وتنوعه الذي يعد عنصر قوة والهام وضرورة التضامن لبناء شخصية الفرد.
وان المواطنة العالمية من شأنها ان تزيد الجانب الإيجابي في شخصية الفرد ويكون بالنتيجة قادراً على التفاعل مع المشكلات الإنسانية الحاضرة والمستقبلية، أضف إلى ذلك ان التوجه محل البحث من شأنه ان يفعل الجوانب المعنوية والروحية والأخلاقية في التعامل داخل البيت والأسرة والمجتمع عموماً بما يحقق حكمة التراحم التي أرادها الله سبحانه وتعالى إذ يقول في محكم كتابه العزيز "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" ويقول أيضاً "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ" ويذكر في موطن أخر "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً"، ويشار إلى ان سيرة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم فيها العديد من المحطات التي تحبب الرحمة بين الناس إذ يقول "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وهكذا نجد ان الاقتراب من الهم المشترك والتخلص من الأنانية أو النزعات القومية تجعل الإنسان لديه القدرة على المساهمة في حل المشكلات والتصدي للشؤون العامة بنحو من الفهم العميق لأهمية وخطورة الدور الذي ينهض به على المستوى المحلي والدولي فتكون خيارته نابعة عن وعي وادراك بما يعزز الحكم الرشيد محليا ودولياً، والتعايش السلمي عالمياً، وللوصول إلى المعاني المتقدمة عراقياً نحتاج إلى الآتي:
1- تطوير المناهج التعليمية والتربوية بما يحقق الاندماج بين ما هو عصري وما هو تاريخي فالأول يمثل الحالة الحاضرة والمستقبلية التي لابد ان نتعامل معها ولا نترك النشء والشباب ان يكتشفونها بطرق قد لا تكون سليمة فينجرفوا صوب خيارات غير محمودة العواقب، والتاريخ يمثل العمق الحضاري والثقافي للحالة الوطنية أو الدينية أو الاجتماعية التي يعتز بها الإنسان بوصفها تمثل الهوية الفرعية ويحرص الأباء على نقلها للأبناء.
2- التركيز على ثقافة الوسطية ونبذ العنف والتوجه نحو التعلم بالتجربة وكذلك التركيز على مفاهيم تتجلى بإنسانية العلم والمعرفة قبل ان تكون مجالا تجاريا أو اقتصاديا خالصاً، والتأكيد على وحدة المصير العالمي بدليل ان الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية أصابت البلدان المتقدمة والمتخلفة على حد سواء، فمثل هذا التحدي يحتاج إلى التكاتف والتنازل المتقابل للوصول إلى حلول جذرية ومستدامة.
3- التربية والتنشئة على قيم ذات بعد ديني وإنساني كالسلم الذي يعد هدف عالمي ووطني من شأنه ان يجعل الحياة تزهر على كوكب الأرض أو أنه مخالفته من شأنها ان تجعل الحياة جحيما بالنسبة للجميع فالتنشئة السلمية وتعلم طرق حل النزاعات بوسائط بديلة عن العنف في البيت والمدرسة والمجتمع والدولة ككل ثقافة لابد ان تسود وتقدم فيها الدراسات اللازمة لتفعيل وسائطها وآلياتها على المستويات كافة.
4- التأكيد على قيمة التعاون في العسر واليسر بين الناس ومد يد العون للمحتاج من شأنه ان يعزز روح المواطنة العالمية والشعوب الأكثر فقراً ستجد ان العالم لم يتناسى مشاكلها والألم الذي تقاسيه بل أسهم كل بحسب استطاعته في حل المشكلة، ما يعني ان التنشئة تركز على هدف متمثل في تعزيز روح المبادرة.
5- احترام التنوع وما يتصل به من حقوق وحريات فردية أو جمعية تمثل الأصل وما يتفرع عنها من ثقافة تقبل الرأي المعاكس والمناقشة وطرح الدليل بدل المصادرة أو إصدار الأحكام المسبقة على الأفكار أو الثقافات.
6- بناء الوعي السياسي المتكامل الذي من شأنه ان يفتح الباب واسعا نحو تحقيق الحكم الديمقراطي المستند إلى الإرادة الشعبية الحقيقية وتعزيز دور المواطن في الشأن العام بالتصدي للمشكلات واقتراح الحلول والمقترحات التي من شأنها ان تجعل الفرد إيجابياً، ما يفتح الباب واسعا باتجاه تحقيق الحكم الرشيد.
اضف تعليق