تبرز الحاجة لعقد اتفاقية دولية شارعة لتأسيس محكمة دولية دستورية قادرة على مقاضاة الأنظمة الحاكمة وإلزامها باحترام حقوق الإنسان والنظام الديمقراطي، فمما لا شك فيه وجود ترابط منطقي بين هذه الموضوعات والأمن والسلم الدوليين، والحكم الديمقراطي حين يسود في دول العالم ستكون كرامة الإنسان هي الغاية والهدف...
ارتبطت القواعد القانونية الوطنية بقاعدة هرمية التشريعات حيث يقع الدستور والقوانين الأساسية المكملة له في أعلى هرم القواعد القانونية الملزمة، كما ان المبادئ العامة للقانون التي تعكف المحاكم على استنباطها تحتل أهمية مضاعفة لذا باتت تسمى بالقواعد المكملة أو الساندة لبيان البناء القانوني للسلطات العامة والمحدد لتخصصاتها واختصاصاتها، وبعبارة أخرى هي تعد المنظم لتشكيلها وعملها، فتنظم ممارسة سلطة الحكم في الدولة بكل مستوياته.
ولقد تطور مفهوم القواعد الدستورية لتتمثل بالقواعد الملزمة لسلطات الدولة والضامنة للحقوق والحريات، فلا تعد الدولة دستورية مالم يضمن الدستور نظاماً سياسياً حراً ديمقراطياً يكفل بالدرجة الأساس الحقوق والحريات، وينظم سلطات متعددة تمارس اختصاصاتها وفق مبدأ الفصل بين السلطات، امتثالاً لنصوص وردت في إعلانات حقوق الإنسان ومنها على سبيل المثال ما ورد في المادة السادسة عشر من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي للعام 1789، التي تقضي بأن "كل مجتمع لا تقرر فيه ضمانات لحقوق الأفراد، ولا يسود فيه مبدأ فصل السلطات، هو مجتمع ليس له دستور"، كما بات التمازج بين القواعد القانونية الوطنية والدولية أمراً محتوماً فترسيخ الديمقراطية هو الهدف الأسمى للقانونين الدستوري والقانون الدولي وباتت المنظمات الدولية تمتلك قوانين أشبه بالدستور الأعلى للدول المنظمة لها والاتحاد الأوربي مثالا لما تقدم وميثاق الأمم المتحدة الذي يعد بمثابة دستور دولي ملزم لجميع الدول المنظمة.
كما ان العديد من المبادئ الدستورية الوطنية باتت اليوم لها ما يماثلها في القانون الدولي مثال ذلك:
أ- سيادة حكم القانون.
ب- التعاون والتوازن بين السلطات الوطنية أو الدولية في أداء وظائفها القانونية.
ت- سيادة الحقوق والحريات غير القابلة للتصرف.
ث- عدم تقييد الحقوق والحريات إلا بالقدر اللازم للتنظيم وبما لا يخل بأصل الحق أو يصادر الحرية.
ج- الاحتكام لمبدأ الضرورة والتناسب في تقييد الحقوق والحريات عندما تحل الظروف الطارئة أياً كان مصدرها.
وتتويجاً لما تقدم هنالك مبادئ لا يمكن غض النظر عنها كونها حاكمة وملزمة للسلطات الوطنية وفوق الوطنية ومنها "ان الإنسان أصل الشرعية" فالدستور والقانون الدولي إنما وضعا لتنظيم حياة الفرد والجماعة وحمايتهما، والشرعية مصدرها الأفراد وليس الأنظمة الحاكمة، أو الدول، فالأخيرة وسيلة وليست غاية، وهذا ما أكده ميثاق الأمم المتحدة للعام 1945 إذ ورد بالديباجة "نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب.... وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة.....، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وان نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح".
وأكدت المادة الأولى ان من مقاصد الأمم المتحدة "تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء"، وبما ان القواعد الدولية ملزمة للدول جميعاً بدليل ان ميثاق الأمم المتحدة نص في المادة (103) منه على أنه "إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط أعضاء الأمم المتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق" ولذا يبرز إلى السطح أهمية حماية القواعد القانونية الدولية المتصلة بالحقوق والحريات بما أنها قواعد ملزمة للدول والأنظمة الحاكمة ولابد من وجود محكمة تملئ الفراغ القانوني والقضائي الدولي، فمحكمة العدل الدولية تختص بدعاوى الدول وليس للأفراد التقاضي أمامها فلابد ان ننتظر ان ترفع إحدى الدول دعوى للمطالبة بحقوق رعاياها أمام المحكمة، أما المحكمة الجنائية الدولية فتختص بالجرائم ذات الطابع الدولي نعم هي توفر حماية للحقوق والحريات بيد إنها حماية ليست شاملة بل قاصرة على محاكمة الشخصيات المتصدية للحكم أو للسلطة بمختلف مستوياتها ممن ترتكب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب، بيد انها لا تتدخل حين يسيطر جماعة من العسكريين أو المتطرفين على سدة الحكم في إحدى الدول ويمارسون السلطة عنوة على الشعب أو حين تتعسف السلطة التشريعية أو التنفيذية في أداء واجباتها بما يحرم الأفراد من حقوقهم أو حرياتهم.
أضف لذلك لا توجد ألية دولية قضائية يمكن مقاضاة الدول والأنظمة الحاكمة أمامها ان تجاهلت الإعلانات الدولية والاتفاقيات الضامنة للحقوق والحريات فهنالك اللجنة الدولية المعنية بحقوق الإنسان المنبثقة عن اتفاقية العهد الدولي الخاص بالحقوق والحريات للعام 1966 إلا ان كل ما يصدر عنها مجرد توصيات قد ترفع إلى مجلس الأمن ليصار إلى إصدار بيان رئاسي أو إدانة وكلها آليات غير مؤثرة وكذا الأمر بالنسبة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي حل محل اللجنة العام 2006 بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (60/251) ليكون هيئة تابعة للجمعية العامة، وحتى لو افترضنا ان مجلس الأمن أعمل الفصل السادس أو السابع ان اقتنع أعضاء المجلس ان ما يصدر عن دولة ما يهدد الأمن والسلم الدولي فلابد ان نعي ان العقوبات واستعمال القوة هي وسائل إجبار وقهر ضحيتها الأولى هم أبناء الشعب أنفسهم وليس الحاكم المستبد، لذا المجتمع الدولي بالحقيقة تعوزه المحكمة الدستورية الدولية القادرة على محاكمة الدول والحكام وإجبارهم على النزول عند حكم القانون باحترام الحقوق والحريات.
على المستوى الإقليمي وجدت محاكم تحمي حقوق الإنسان كالمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان التي تم إنشائها بموجب المادة (19) من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان المنعقدة العام 1950، وقد نصت المادة (34) من الاتفاقية على أنه "يجوز التماس المحكمة من أي شخص طبيعي أو منظمة غير حكومية أو مجموعة أشــخاص، يزعمــون انتهاكاً لحقهم مــن أحد الأطراف المتعاقدة السامية للحقوق المعترف بها في الاتفاقية أو بروتوكولاتها،...، تلتــزم الأطراف المتعاقدة الســامية بعدم عرقلة الممارســة الفعالة لهذا الحق بأي تدبير كان" بيد ان ما يحد من ولاية بعض المحاكم الدولية اشتراط ضرورة قبول الدولة لولاية المحكمة بالانضمام لميثاقها أو نظامها الأساسي أو البروتوكول الخاص بها، مما تقدم يتبين لنا ان لا آلية قضائية دولية تحمي الديمقراطية وحقوق الإنسان فما تم الإشارة إلية باستثناء أوربا لا توجد وسيلة فعالة فالغالب تعد الآليات السياسية غير كافية وبالكاد يتم الاعتماد على:
أ- آليات مجلس الأمن بفرض عقوبات على الدول.
ب- التدخل العسكري الدولي والأمثلة عليه كثيرة وبالغالب هو يفضي إلى انتهاكات أخطر من تلك التي ينتجها النظام الشمولي الذي يراد محاسبته.
لذا تبرز الحاجة لعقد اتفاقية دولية شارعة لتأسيس محكمة دولية دستورية قادرة على مقاضاة الأنظمة الحاكمة وإلزامها باحترام حقوق الإنسان والنظام الديمقراطي، فمما لا شك فيه وجود ترابط منطقي بين هذه الموضوعات والأمن والسلم الدوليين، والحكم الديمقراطي حين يسود في دول العالم ستكون كرامة الإنسان هي الغاية والهدف، لذا العالم بحاجة لدعم التغيير الديمقراطي بالتنازل الطوعي للحاكم المستبد أو النظام المستبد عن جزء من الاختصاصات والسلطات لممثلي الشعب ومنحهم القدرة على المراقبة والمحاسبة للمسؤولين التنفيذيين، أو آلية التنازل القسري بالثورة الشعبية التي تعيد الأمور إلى نصابها بانتزاع سلطة الحكم بالقوة وإعادتها للمالك الحقيقي "أي الشعب" وممثليه في المجالس التمثيلية العامة أو الإقليمية أو اللامركزية.
ومن المستطاع ان يتحدد اختصاص المحكمة بالجوانب الاستشارية علاوة على الجوانب القضائية، بمنحها الاختصاص بمراجعة النصوص القانونية التي تتصل بالديمقراطية وحقوق الإنسان قبل تشريعها وطنياً أو دولياً لضمان التناسق وعدم التعارض وتضمينها الوسائل التنفيذية اللازمة لتكون واقعاً لا مجرد نصوص مثالية، وبما تقدم تتحقق الغاية من إنشاء هذه المؤسسة الدولية إلا وهي حماية كرامة الإنسان بالقضاء على جميع النصوص التي تكرس الحكم غير الديمقراطي فمن المبادئ القانونية ذات الأصول الدستورية والدولية احترام مبدأ المساواة وعدم التمييز في جميع الحقوق والحريات بلا استثناء بدء من الحقوق المدنية وانتهاءً بالحقوق الثقافية.
وما تقدم نجد انه يتصل بالنظام العام الدولي فالحق في الحياة يعني تحريم الإبادة الجماعية والإعدام خارج إجراءات القضاء وحظر كل أشكال التمييز العنصري ويؤكد ما تقدم ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة الثالثة والتي ورد فيها "لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه" وبالمعنى ذاته تنص المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن "الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون أن يحمى هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً. لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام، أن يحكم بهذه العقوبة إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة وفقا للتشريع النافذ وقت ارتكاب الجريمة وغير المخالف لأحكام هذا العهد ولاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
ولا يجوز تطبيق هذه العقوبة إلا بمقتضى حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة.
حين يكون الحرمان من الحياة جريمة من جرائم الإبادة الجماعية، يكون من المفهوم بداهة أنه ليس في هذه المادة أي نص يجيز لأية دولة طرف في هذا العهد أن تعفى نفسها على أية صورة من أي التزام يكون مترتبا عليها بمقتضى أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها..." فالنصوص المتقدمة في منتهى الوضوح لكن تعوزها وسيلة الإجبار القضائي على المستوى الدولي لتكتب بنصوص وطنية وتحترم من قبل الجميع.
اضف تعليق