لماذا يسعى المجتمع الإنساني إلى لفت الانتباه إلى المرأة الأم؟ وماهي الأدوار والمسؤوليات التي تقع عليها تستوجب تقديرها وتكريمها؟ وكيف صور الإسلام دور الأم في القرآن وأحاديث النبي وأهل بيته؟ وماهي الواجبات التي أوجبها على الأبناء تجاه الأم؟ وماهي الآثار الإيجابية التي تنعكس على الأبناء...
لماذا يسعى المجتمع الإنساني إلى لفت الانتباه إلى المرأة الأم؟ وماهي الأدوار والمسؤوليات التي تقع عليها تستوجب تقديرها وتكريمها؟ وكيف صور الإسلام دور الأم في القرآن وأحاديث النبي وأهل بيته؟ وماهي الواجبات التي أوجبها على الأبناء تجاه الأم؟ وماهي الآثار الإيجابية التي تنعكس على الأبناء في حال رعاية أمهم وتكريمها؟ وماهي الآثار السلبية التي تترتب على عدم رعاية الأم؟
هناك اهتمام بالمرأة عموما، ولكن هناك اهتمام على وجه التحديد بالمرأة الأم لدى غالبية دول العالم، والمنظمات الإنسانية الدولية والوطنية، وكان من نتائج هذا الاهتمام أن شرعت العديد من الدول قوانين من أجل ضمان حقوق الأم،لا سيما ضمان حقوقها في إطار الأسرة وحمايتها من التعرض للعنف، ورعاية صحتها وصحة طفلها، وكفالة حقوقها في العمل، وتمتعها بالعيش الكريم.
ولعل أشهر هذه القوانين ذات الطابع العالمي هي (قانون حماية الأسرة من العنف) الذي يعالج حالات حماية أفراد الأسرة من العنف الممارس ضدهم كالنساء والزوجات والأمهات والأطفال وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، و(قانون حماية الأم)وهو قانون يحمي حقوق الأم وحقوق جنينها،أثناء الحمل، وأثناء الولادة والوضع، وأثناء رعاية طفلها وتربيته. وتشمل الحماية الأمهات والحوامل، سوءا كن عاملات في وظيفة دائمة، أو متدربات، أو عاملات بدوام جزئي.
ومع كل ما حملته القوانين الحديثة من نصوص تحفظ حقوق الأم الأسرية والاقتصادية والثقافية، إلا أن المتتبع للنظام الإسلامي يجد أن الأم في الإسلام حظيت بما لم تحظ به في القوانين قديما وحديثا، ومكانتها في الإسلام لا تعلو عليها مكانة، وتكريمها يسبق كل تكريم. والوصايا التي تضمنتها الشريعة الإسلامية عن الوالدين، تحديدا الأم تجمع كلها على الاهتمام الاستثنائي الذي تحظى به المرأة الأم.
وليس ثمة شك أن منزل الشريعة الإسلامية، ورب هذا الكون يعلم المسؤوليات والأدوار التي يمكن أن تقوم بها المرأة الأم في إطار مسؤولياتها الأسرية، وفي إطار مسؤولياتها الاجتماعية، ويعلم ما يمكن أن يصيب الأم جراء تلك المسؤوليات الصعبة والمعقدة. إذ تتحمل الأم ما لا يستطيع غيرها أن يتحملها في إطار الأسرة، لا من الناحية التكوينية والوظيفية، ولا من الناحية النفسية والاجتماعية.
فقد أوكل الله لها دون غيرها مهمة استمرار البشرية بواسطتها ومن خلالها، فوظيفة حمل الجنين والإنجاب هي مهمة حصرية للام لم يوكل الله أحدا غيرها، وهي من أعظم الأدوار وأهمها التي وكلها الله للام، وهي مهمة شاقة يصعب أداءها ما لم تكن المرأة الأم قد زودت تكوينيا ونفسيا بما يعينها على أداء هذه المهمة البشرية العالمية الصعبة.
ولا تنتهي مهمة المرأة الأم في حمل الجنين ووضعه، بل عليها أن تتكفل رعايته وتنميته حتى يكبر ويبلغ أشده، وهي مهمة نفسية واجتماعية يصعب على غيرها القيام بها إلا بشق الأنفس، فتربية الطفل ورعايته بما تتضمنه من معاناة وآلام تحتاج إلى مقومات ومستلزمات لا تتوفر إلا عند الأم. وإن قام بها الأب على أكمل وجه، فهي تظل ناقصة ومشوهة لأن الحب والحنان الذي يمكن أن تغدقه الأم على طفلها لا يكون إلا من المرأة الأم، ولا يكون له أثر إيجابي إلا منها. فقَدرُها عظيم لا يُقدّر بثمنٍ، ومكانتها كبيرةٌ لا يمكن وصفها.
ففي أول يوم تشعر المرأة أنها تحمل بين جنبيها جنينا، تبدأ تتنازل عن حقوقها من أجل حقوقه، وعن راحتها من أجل راحته، وعن سعادتها لسعادتها، وتجد وقتها في وقته، وراحتها في راحته، وسعادتها في سعادته. وحين تلد قرة عينها يصبح شغلها الشَّاغل، وتختصر فيه الدُّنيا بما فيها، ولا تستكثر عليه عطاءً ولا يعزُّ عليها شقاءٌ، ولا تختصُّ وحدها بذلك فيشاركها الأب في فضلها وعطائها ويعينها على حسن التَّربية والرِّعاية، فإن وفِّقَت إلى زوجٍ صالحٍ للأُبوَّة كانت الأمومة عليها أيسر واللَّيالي أهنأ، فالمسؤوليَّة تهون بالمشاركة والحمل يخفُّ بالعون.
لهذا فقط اعتبر الإسلام عطاءهما عملاً جليلاً مقدساً استوجبا عليه الشكر وعرفان الجميل وأوجب لهما حقوقاً على الأبناء لم يوجبها لأحد على أحد إطلاقاً، حتى أن الله تعالى قرن طاعتهما والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده بشكل مباشر فقال: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) لأن الفضل على الإنسان بعد الله هو للوالدين، والشكر على الرعاية والعطاء يكون لهما بعد شكر الله وحمده. فقد قال تعالى (ووصينا الإنسان بوالديه أن أشكر لي ولوالديك إليَّ المصير). وقد اعتبر القران عقوق الوالدين والخروج عن طاعتهما ومرضاتهما معصية وتجبراً حيث جاء ذكر يحيى ابن زكريا بالقول: (وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيا).
هذا هو الإمام علي بن الحسين عليه السلام يصف حق الأم بأفضل تعبير وأكمل بيان، فيختصر عظمة الأم وشموخ مقامها في كلمات، ويصوِّر عطاءها بأدق تصوير وتفصيل، فيقول: (فحقّ أُمِّك أن تعلم أنَّها حملتك حيث لا يحمل أحدٌ أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يُطْعِم أحدٌ أحداً، وأنَّها وقتك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها مستبشرة بذلك فرحةً موبلة (كثيرة عطاياها )، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمِّها، حتى دفعتها عنك يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض فَرَضِيَتْ أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظللك وتضحى، وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأَرِقهَا، وكان بطنها لك وعاء، وَحِجْرَها لك حواء، وثديها لك سقاءاً، ونفسها لك وقاءاً، تباشر حر الدنيا وبردها لك دونك، فتشكرها على قدرِ ذلك ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه).
بهذه العبارات المضيئة والتعابير الدقيقة، يستثير الإمام زين العابدين(ع) الضمير والرحمة في قلب الإنسان تجاه من (حملته كرهاً ووضعته كرهاً) وتذكره بالمشاق العظيمة التي تحملتها الأم في سبيل فلذة كبدها، لذلك قال الرسول الأعظم (ص): (حق الوالد أن تطيعه ما عاش، وأما حق الوالدة فهيهات هيهات.. لو أنه عدد رمل عالج وقطر المطر أيام الدنيا قام بين يديها ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها)، لأن الأم بطبيعة الحال، تتحمل النصيب الأوفر من العناية والرعاية لولدها لما تجود به من حنان وعطف بلا حدود، فنتيجة لتلك التضحيات اللامتناهية كان للأم حقها العظيم على الأبناء. وبخاصة إذا كانت طيبة ومؤمنة، لتأثيرها البالغ في جنينها، فتجعل منه إنساناً سوياً ومستقيماً، وحتى أثناء الرضاع تسري أخلاق الأم إليه. قال تبارك وتعالى: (وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً).
ومن أجل هذا الدور الكبير الذي تقوم به الأم، وهذا الفضل الذي تتقدم به على البشرية، لاسيما أولادها من الذكور والإناث فقد أوجب الله عز وجل على الأولاد أن يبروا بأمهاتهم وآباءهم. والبر هو رعايتهما وطاعتهما والإحسان إليهما ومساعدتهما في حياتهم ما أمكن ذلك، وعدم الجحود بحقهم أو نكران فضلهما، أو التجاوز عليهما، ولو بكلمة (أف) فقد قال تعالى (قضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) فأنها من الذنوب الكبائر التي يعاقب عليها الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، لأن هذه الكلمة وغيرها لا ينبغي أن تقال بحق الوالدين مهما صدر منهما من عمل، ومهما أخذا من قرار، رضينا به أم لم نرض.
ومن البر بالأم الإنفاق عليها إذا كانت في حاجة إلى المال، ولا يوجد لديها ما يكفي لتعيش حياة كريمة بين الناس.. والرسول عليه الصلاة والسلام يعطي للآباء حق الأخذ من أموال أولادهم ما يكفيهم فيقول: (إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا كسب أولادكم) ومن البر بها أيضا الدعاء لها بالرحمة.. وهذا الدعاء جعله الله في مقابل تربيتها له (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) وأن يؤثر الولد رغبة والديه ورضاهما على رغبة نفسه ورضاها، ولا يستكثر ما يقدمه في سبيل برهما وخدمتهما مهما عظم في ظـاهره، بل يعدّه قليلاً في جنب فـرضهما عليه، غيرَ واف بـما لهـما من حق لديه.
فقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه السـلام لأبـويه (اللّهم اجـعلني أهـابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرهما برّ الأم الرؤوف، واجعل طـاعتي لوالدي وبري بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى أوثـر على هواي هواهما، وأقدّم على رضاي رضاهما، وأستكثر برهما بي وإن قـل، واستقل بري بهما وإن كثر، اللّهم خـفض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي، وألن لهما عريكتي، وأعطف عليهما قلبي وصيرني بـهما رفيقاً، وعليهما شفيقاً).
نخلص مما تقدم:
1. إن القوانين الدولية والوطنية الحديثة أخذت تعنى بالمرأة الأم على وجه التحديد لما لمسه المجتمع الإنساني من دور متميز واستثنائي للأم، بهدف حفظ حقوقها الأسرية والاجتماعية والصحية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
2. وعلى الرغم من الاهتمام العالمي بحقوق المرأة الأم فان الإسلام نظر إلى المرأة الأم أنها أساس استمرار الحياة وقاعدته، ولولاها لما كان الإنسان ولم يكن، فهي بوابة الحياة، وسبيل بقائها. وعلى هذا الأساس أفرد لها نصوصا قرآنية وحديثة قطعية، وأشار إلى دورها ومسؤولياتها في المجتمع، وما ينبغي أن تتمتع به من حقوق وميزات، سواء في نطاق الأسرة أو المجتمع، فالأسرة الصالحة، نواة للمجتمع الصالح.
3. لم يكتف الإسلام بالتأكيد على دور المرأة الأم في الأسرة والمجتمع، ولم يكتف بالتذكير بحقوقها، وما ينبغي أن يقوم به المجتمع لصالحها، وإنما رتب على ذلك أجرا وعطاء وجزاء لمن يٌحسن التعامل مع المرأة الأم، أبنا كان أو غير أبن، وعقوبة عظيمة لمن يسئ التعامل معها.
4. في المجتمع الإسلامي مازلنا لم نرتق إلى مستوى نظر الشارع المقدس إلى أهمية المرأة ودورها، وما زلنا نتعامل مع الأم خلاف ما نص عليه الإسلام، بل تكثر حالات الإساء إلى الوالدين بكثرة، وتعج المحاكم ومراكز الشرطة عندنا بحالات الاعتداء على الوالدين لاسيما الأم.
5. وأغرب ما يكون أن المؤسسات الإسلامية لم تعن بنشاطات تعزز مكانة الأم في نفوس أسرتها ومجتمعها، كما تعنى بنشاطات قد تقل أهمية عن التذكر والتنبيه لدور الوالدين وألام خصوصا. فقلما نلحظ احتفالية تذكر المجتمع بضرورة رعاية الوالدين والاهتمام بهما على النحو الذي يعظمه الشارع المقدس.
اضف تعليق