إنسانيات - حقوق

حقوق الإنسان بين التعهد النظري والتطبيق العملي

الإسلام نموذجا

الإسلام قد سبق المواثيق والشرائع الوضعية في إرسـاء مبـادئ حقـوق الإنسان واحترام الشخصية الإنسانية بكفالته لحرية الفكر وحريـة التـدين، والحريـة السياسية وإرسائه لمبادئ الشورى والحق والعدل والمساواة بين البشر. وأن حقوق الإنسان في الشريعة الإسـلامية يجهلها الكثير من المسلمين وغير المسلمين، فكان مـن الواجـب بيـان تفـوق الشريعة...

يظل موضوع حقوق الإنسان أحد أهم الموضوعات الحاضرة في جميع الاتفاقيات والمعاهدات والإعلانات الدولية، ولا يكاد يغيب عن جميع المؤتمرات والندوات وورش العمل التي تعقد على المستويات الدولية والإقليمية والوطنية، وتجري نقاشات مستفيضة بشأن تلك الحقوق وتفرعاتها وفئاتها والجهات المسؤولة عنها، ومدى التزامها الواقعي في تطبيق الحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلانات الدولية والإقليمية، والدساتير والقوانين الوطنية، وتجسيدها على أرض الواقع.

وعلى الرغم من التعهد الواضح من معظم دول العالم تسجل يوميـا انتهاكـات جـسيمة لحقوق الإنسان في كثير من دول العالم، وتستمر فـرق الناشـطين والمنظمـات غيـر الحكومية في تحميل كل حكومات العالم تقريباً مسئولية اشتراكها في جريمـة انتهـاك واحداً أو أكثر من حقوق الإنسان في سياساتها المحلية والدولية. وعليه؛ فالتفاوت واضح بين التعهد النظري والتطبيق العملي، فمن ناحية تعد حقوق الإنسان فكرة مثالية جداً لدرجة أنه ليس هناك حكومة في العالم اليوم تستطيع رفضها علنياً، ومن ناحية أخرى فإن أكثر الحقوق الأساسية للإنسان تنتهك بشدة في كل أنحاء العالم تقريبا بما فيها الدول المتحضرة غربا.

وفي خضم اهتمام المجتمعات الحاضرة بمبادئ حقوق الإنسان كونها جزء لا يتجزأ من منظومة المجتمع المدني الحديث لم يلتفت المنظرون والمختصون والداعون إلى تبني هذه الحقوق -إلا النزر اليسر منهم- إلى النصوص الحقوقية التي جاءت في ضمن المنظومة الإسلامية، لاسيما في القرآن الكريم وأحاديث النبي (ص) ونصوص أئمة المسلمين الذين كتبوا عن تلك الحقوق والحريات وطبقوها في حياتهم وحياة مجتمعاتهم مع بداوة الحياة يومذاك.

ومع أن تلك النصوص الحقوقية هي واجبات ينبغي للمسلمين تطبيقها كجزء من إيمانهم بالله عز وجل وصدق بنوة نبيهم (ص) حيث يُثاب من يلتزم بها ويُعاقب من يعرض عنها أو يخرقها، إلا أنها أضحت في كثير من الأحيان جزء أساسيا من تقاليد المسلمين وعاداتهم قاطبة، ومازالوا يمارسونها في حياتهم ليس من حيث كونها عقيدة إسلامية ينبغي الالتزام بها وحسب بل من حيث هي عادات وتقاليد اجتماعية تداولت عليها الأجيال، جيل يورثها إلى جيل آخر حتى وصلت إلى الجيل الحالي، مثل الإقرار بكرامة الإنسان، وحرمة قتله، وحرمة جرحه، وحرمة الاعتداء على ماله ومسكنه، ومعونة الأغنياء للفقراء؛ استنادا إلى مبدأ التكافل الاجتماعي، ونصرة المظلوم، ومقاطعة الظالم حتى يرجع عن ظلمه، وعدم الاعتداء على النساء والأطفال والشيوخ ولو كانوا أعداء إلى آخره.

ورغم أن حقوق الإنسان في الإسلام هي حقوق نظرية وعملية في الوقت نفسه، إلا أنها أيضا لم تحظ بالاهتمام المطلوب ليس على مستوى الدول والحكومات والمنظمات الإنسانية الكبرى إنما على مستوى الحكومات (الإسلامية) في البلدان الإسلامية، وعلى مستوى النخب والطبقات الإسلامية المتعلمة والمثقفة، هذا ناهيك عن وجود تراجع ملحوظ في تطبيق تلك الحقوق في العلاقات الاجتماعية التي توارثها المسلمون جيل من بعدة جيل.

والسؤال هو لماذا لم يلتفت المعنيون بشأن حقوق الإنسان وحرياته إلى النصوص الإسلامية التي تغطي جانبا واسعا من تلك الحقوق التي جاءت بها المواثيق الدولية؟ ولماذا لم يسع المسلمون إلى تنظيم تلك الحقوق وتفعيلها في المجتمعات الإسلامية، وهي تحظى بالأصل بالمقبولية لدى أفراد المجتمع كونها عقيدة إيمانية واجبة التطبيق من جهة، وكونها عادات وتقاليد راسخة متوارثة من جهة ثانية؟

قد يكون السبب في عدم التفات الأجيال المعاصرة إلى النصوص الحقوقية التي جاء بها الإسلام لتنظيم حياة المسلمين، وعدم الاهتمام بتنظيمها كما هو عليه الاهتمام بالمواثيق الدولية أن هذه النصوص أصبحت حاصل تحصيل لحياة المسلمين واعتاد الناس عليها، وهي من المسلمات الاجتماعية التي تعارف المجتمع الإسلامي على تبنيها. وعليه لم تعهد هناك حاجة كبيرة إلى التنظير لها أو الدعوة إليها إلا على سبيل التذكير بها كلما وجد الداعون لها أن المجتمع الإسلامي بدأ يتناسى هذه الحقوق تحت تأثير ضغط الحياة المعاصرة، فيعمل الداعون للإسلام على تذكيره بها كونها عقيدة إسلامية ينبغي الالتزام بها على نحو الوجوب أو الاستحباب.

وقد يكون السبب أن المجتمعات (الإسلامية) المعاصرة نتيجة لتطور الحياة وتعقدها، ونتيجة دخول المناهج التربوية غير الإسلامية ابتعدت شئيا فشيئا عن المنهاج الإسلامي والتربية الإسلامية، وأضحت الثقافة الجديدة أكثر استحواذا وانتشارا في الساحة الإسلامية، وعليه؛ فهي التي تقترح دائما حلولا غير تلك التي يمكن أن يقترحها المنهج الإسلامية. وقد انعكس ذلك كلها على نظام الحقوق والحريات العامة والخاصة أيضا، وتوجه المجتمع الإسلامي إلى صياغة قوانين وإعلانات ومواثيق وضعية تتناسب ووضعه الثقافي والتربوي الجديد.

وقد يكون السبب أن الأنظمة السياسية الحاكمة في المجتمعات الإسلامية لم تتبن النظام الإسلامي والحلول الإسلامية في معالجة المشكلات والمعوقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تارة لان الحكام لا يحملون بذور التربية الإسلامية ولا يؤمنون في قدرتها على معالجة المشكلات الاجتماعية المتجددة، وتارة أخرى أن الصراعات السياسية بين من يحملون الأفكار الغربية (العلمانيين) وبين من يحمل الأفكار الإسلامية (الإسلاميين) ساهمت في ضعف تطبيق النظام الإسلامي في حياة المجتمعات الإسلامية، لاسيما أن (الإسلاميين) مازالوا في كثير من البلدان الإسلامية معارضين لم يتمكنوا من الصعود إلى منصة الحكم ليروا الناس كيف تمكن الإسلام من حل المشكلات المستعصية.

وقد يكون السبب- وتحديدا في المجتمعات الإسلامية التي تمكن الإسلاميون من الوصول إلى السلطة- أن الأحزاب الإسلامية الحاكمة لم تتمكن من ترجمة النصوص الإسلامية عامة وحقوق الإنسان وحرياته خاصة ترجمة واقعية تتمكن بها من معالجة المشكلات والمعوقات التي تواجه هذه المجمعات، وربما في بعض الأحيان ساهمت تلك الأحزاب الحاكمة بسبب ممارساتها السلبية في عكس صورة سلبية عن المنظومة الإسلامية بكاملها، فمُنعت الحقوق، وضُيقت الحريات، وحُبست الأنفاس، وضاقت الأرض بما رحبت.

نعم أن مسألة حقوق الإنسان تحظى بأهمية بالغة في حياة الأفراد والمجتمعات، لما لها من أهمية في معرفة حقوق الإنسان، وأن الإسلام قد سبق المواثيق والشرائع الوضعية في إرسـاء مبـادئ حقـوق الإنسان واحترام الشخصية الإنسانية بكفالته لحرية الفكر وحريـة التـدين، والحريـة السياسية وإرسائه لمبادئ الشورى والحق والعدل والمساواة بين البشر. وأن حقوق الإنسان في الشريعة الإسـلامية يجهلها الكثير من المسلمين وغير المسلمين، فكان مـن الواجـب بيـان تفـوق الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية، خاصة في مجال حقوق الإنسان، والتي تحظي في عصرنا الحاضر بكثير من الاهتمام.

يقول السيد مرتضى الشيرازي (أن الغرب في عالم اليوم، انتزع من المتدينين الأضواء، خطف منهم الأضواء، وانتزع منهم الريادة الحقوقية، نحن كنا قادة وروادا في مختلف الحقوق، في الاقتصاد السليم، في السياسية الصحيحة، في الاجتماع المستقيم، وفي كل شيء، وفي ألف شيء وشيء، كنا نحن القادة، كنا نحن الرواد. في المجال الحقوقي أيضا، مدرسة مذهب أهل البيت على الصعيد المعرفي النظري، والعملي التطبيقي، كنا نحن القادة والرواد، لكن الغرب صنع فيما صنع أن أختطف هذه الريادة أيضا، فأينما تذهب مثلا تجد حديثا عن حقوق الطفل، من يتكلم، الذي يتكلم الغربي، حقوق المرأة، حقوق المزارع حقوق الشعب، حقوق المعارضة، وسائر الحقوق، وعندما يكون الغربي هو القائد في المجالات الحقوقية فانه يبصمها ببصمته، ويهندسها على ضوء منظومته المعرفية، ويفرض أفكاره وشروطه وثقافته، ذلك أمر واضح وطبيعي، ليست الحقوق كلها حقوقا فطرية، إنما الكثير منها تعد انتهاكا لحقوق الله، بل حتى لحقوق الإنسان).

لذا فإنه من الضروري إجلاء رؤية الإسلام لحقوق الإنسان لزيادة وعي المجتمع بحقوق الإنسان، وذلك من خلال ما يأتي:

1. التأكيد أن حقوق الإنسان في الإسلام منحة يمنحها الخالق جل شأنه للأفراد، في إطار مراعاة مصلحة العامة، وعدم الإضرار بالجماعة، فليس للفرد مطلق الحرية في استعمال حقه، بحيث لا يحد من سلطانه شيء بل هو مقيد في ذلك بمصلحة الجماعـة، وعـدم الإضرار بالغير، والحق بهذا المعنى يستلزم واجبين: واجب على الناس أن يحترموا حق الفرد، وأن لا يتعرضوا له في أثناء تمتعه به واستعماله، وواجب على صـاحب الحـق نفسه، وهو أن يستعمل حقه بحيث لا يضر بالآخرين.

2. في الإسلام لا تعد نصوص حقوق الإنسان مجرد حقوق للإنسان، بل هي فـرائض إلهيـة وتكـاليف وواجبات شرعية لا يجوز لصاحبها أن يتنازل عنها أو يفرط فيها حتى بمحض اختياره إن هو أراد.

3. التأكيد بأن حقوق الإنسان في الإسلام إنما شرعت بأصل الخلق، ولم تأت ثمرة لمعاناة أو مظاهرات أو صراعات بين الحاكم والمحكوم، أو بين العمال وأصحاب المصانع، أو بين الطبقات الغنية والفقيـرة، أو ثمـرة للثـورات والحروب، وإنما هي مقاصد للدين وغاياته العليا، ورسـالة النبـوة التاريخية، وأن الصراع التاريخي بين النبوة والكافرين بها هو بين إنكاره هذه الحقوق وتقريرها، ولذلك فإن مرتكزات العقيدة، والشريعة والأخلاق والمسالك، فـي الرسـالة الخاتمة، جميعها تتمحور حول هذه الحقوق أو هذه المقاصد، إيماناً وتشريعاً وممارسة ورقابة، للوقاية من الانتهاك لها، إلى درجة يمكن أن تقول معها: إن حقوق الإنسان في حقيقة الأمر هي مقاصد الشريعة أو مقاصد الدين، وأن مقاصد الدين هي حقوق الإنسان في الإسلام.

4. ضرورة نشر ثقافة المنظومة الإسلامية في جميـع مراحل التعليم، وربطها بالواقع العملي المعاش، مع التركيـز علـى طـلاب الجامعـة، وخصوصاً أصحاب التخصصات ذات الصلة المباشرة بـالجمهور مثل دارسـي القـانون، ورجال الأمن، والأطباء، والمعلمين.

.......................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق