وضع رئيس الدولة (الملك، أو رئيس الجمهورية) مع النظام البرلماني يعد حَكماً بين السلطات، وإن حياديته تجعل من كلمته مسموعة، وإن خبرة الرئيس السياسية وقدرته الشخصية أو قوة شخصيته لها دور وتأثير في نفوذه على الأطراف المتنازعة، فقد استطاع رؤساء في الدول البرلمانية توظيف شخصيتهم...
تطرح بين الحين والأخر، إمكانية مساءلة رئيس الجمهورية، من قبل بعض ممثلي القوى السياسية في مجلس النواب وخارجه، من الذين لا تروق لهم مواقف رئيس الجمهورية التي اتخذها بعد قيام انتفاضة تشرين الأول لسنة 2019، وانحيازه لها.
وقد أثارت هذه الأطروحات العديد من المواقف المتباينة من قبل معظم الكتل السياسية والمتابعين للشأن السياسي وكذلك المعنيين بالفقه الدستوري، بخصوص المسؤولية السياسية التي يتحملها رئيس الدولة في النظام الجمهوري البرلماني، ولأجل توضيح هذه المسؤولية ومن منطلق علمي وإشاعة الثقافة الدستورية بين القراء الكرام، تم إعداد هذه المادة والتي تتضمن التأصيل النظري، ونموذج من القانون المقارن، واهم الملاحظات على مسؤولية رئيس الجمهورية في الدستور العراقي وكذلك المقترحات المناسبة لتجاوز الاختلال والتناقض الوارد في النص الدستوري.
التأصيل النظري
إن أحد أركان النظام البرلماني هو ثنائية السلطة التنفيذية، والتي تتكون من طرفين: رئيس الدولة والوزارة، وقد أدى التطور التاريخي للنظم السياسية من الحكم المطلق إلى مسؤولية الوزارة وتقليص سلطات الملك أن يكون في الدولة رئيسان: واحد للدولة، والثاني للوزارة، وبالتالي يكون رئيس الدولة شخص أخر غير رئيس الوزراء أو الوزير الأول؛ في النظام البرلماني يقوم على وجوب الفصل العضوي بينهما، وأن من نواميس الحياة تقتضي أن يكون للدولة رئيساً لها، لا يمكن التخيل بوجود دولة دون رئيس، وبالرغم من كل التطورات التي جرت على النظم السياسية اتجاه سحب اختصاصات الرئيس لصالح رئيس الحكومة، فقد بقي لرئيس الدولة دور يلعبه على مسرح الحياة السياسية، وللمحافظة على التوازن بين السلطتين كان لابد من إيجاد عنصر وسط محايد يعمل على استقرار هذا التوازن ويوجهه، أنيطت هذه المهمة برئيس الدولة.
وفي النظم الجمهورية التي تأخذ بالأسس التقليدية للنظام البرلماني يتم انتخاب رئيس الجمهورية بواسطة البرلمان، وهذه هي الطريقة الأكثر شيوعاً، حتى لا يكون هناك أي اختلال في التوازن ما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية الذي هو أهم السمات البارزة في النظام البرلماني.
ويكون دور رئيس الجمهورية ذا طابع تشريفي ويمارس سلطات تأخذ الطابع الرمزي وتنحصر مهامه في الحفاظ على التوازن بين السلطات، وإن كانت له بعض الاختصاصات، فإنه يمارسها بواسطة وزرائه الذين يتحملون عنها المسؤولية وحدهم، ويقتصر دور رئيس الجمهورية على التوقيع لما تقدمه الوزارة من مشروعات، كما أنه لا يستطيع أن يعمل منفرداً، أي: أنه يمتلك الجانب الاسمي في السلطة، والوزارة هي التي تمتلك الجانب الفعلي منها.
وبشكل عام لا يكون لرئيس الدولة (الملك) في الأنظمة الملكية سياسة خاصة أو برنامج ذاتياً، فهو لا يقوم بوضع سياسة الدولة بنفسه، فوضع السياسة وتحريك دفة الأمور في الدولة يكون أمراً متروكاً للوزارة التي تعد حجر الزاوية في النظام البرلماني
إن وضع رئيس الدولة (الملك، أو رئيس الجمهورية) مع النظام البرلماني يعد حَكماً بين السلطات، وإن حياديته تجعل من كلمته مسموعة، وإن خبرة الرئيس السياسية وقدرته الشخصية أو قوة شخصيته لها دور وتأثير في نفوذه على الأطراف المتنازعة، فقد استطاع رؤساء في الدول البرلمانية توظيف شخصيتهم الممتازة ومكانتهم لدى شعبهم بأن يمارسوا تأثيراً كبيراً ونفوذاً معنوياً، رغم عدم وجود مسؤولية سياسية لرئيس الدولة، وأنه غير خاضع لمساءلة البرلمان.
ولهم دور في النصح والمشورة بوصفهم حَكماً بين الأحزاب ومختلف الهيئة السياسية، فرئيس الدولة يعمل على تخفيف حدة ما يقوم بينهم من منازعات، لأن النظام يقوم في سمته الثنائية على التوازن بين السلطات، وتقع على الرئيس في النظم البرلمانية مسؤولية تتميز بأنها غير ظاهرة لا تتحدث عنها الدساتير، لأنها مسؤولية معنوية بالغة الأهمية تستقر في الوجدان والضمير ولا يسهل الكشف عنها، ألا وهي مسؤولية رئيس الجمهورية أمام أمته وبلاده التي ينتمي إليها والتي يحمل لها في عنقه أمانة تحقيق الاستقرار والرفاهية لها والمحافظة على حريتها حتى يدون له التاريخ ذلك، ولا شك أن كثيراً من الملوك يضعون هذه المسؤولية المعنوية أمامهم عند تصديهم لشؤون الحكم(1).
مسؤولية رئيس الدولة في القانون المقارن
تنظم معظم الدساتير مساءلة رئيس الدولة، وفق إجراءات تتميز بطابع خاص مراعاة للمركز الدستوري المهم الذي يشغله رئيس الدولة وتفادياً للتهم الكيدية التي يوجهها له خصومه السياسيين.
فقد نص المشرع في ألمانيا الاتحادية إلى حالة واحدة تنتهي فيها ولاية الرئيس قبل انتهاء المدة، وهي حالة عزله من قبل المحكمة الدستورية بسبب مخالفته العمدية للدستور أو لأي قانون اتحادي أخر [2]، والذي نص على الآتي:
1- يجوز لكل من البوندستاغ*(مجلس النواب) والبوندسترات*(مجلس الاتحاد)، رفع دعوى أمام المحكمة الدستورية الاتحادية ضد الرئيس الاتحادي بتهمة الإخلال المتعمد بالقانون الأساسي أو بأي قانون اتحادي آخر، ويجب إن لا يقل عدد مقدمي الطلب لرفع الدعوى عن ربع عدد أعضاء البوندستاغ أو ربع عدد الأصوات من البوندسرات.
ويستلزم لصدور إقرار لرفع الدعوى موافقة أغلبية ثلثي أعضاء البوندستاغ أو أغلبية ثلثي الأصوات في البوندسرات عليه، ويمثل الادعاء مفوض عن اللجنة التي تقرر رفع الدعوى.
2- إذا قررت المحكمة الدستورية الاتحادية أن الرئيس مدان بإخلال المتعمد بالقانون الأساسي أو بأي قانون اتحادي آخر، فيجوز لها الحكم بفقدان منصبه، وللمحكمة بعد رفع الدعوى ان تُصدر امرأ قضائيا بأن الرئيس الاتحادي يمنع إن يمارس مهام منصبه[3]
ومن هذا يتضح ان المشرع الألماني اتبع ثلاث إجراءات:
أولاً: رفع دعوى بالاتهام، ولغرض المضي بها تحتاج إلى ربع أصوات أعضاء احد غرفتي مجلس النواب الألماني.
ثانياً: الإقرار برفع دعوى الاتهام، وهو يحتاج إلى ثلثي أصوات أعضاء احد غرفتي مجلس النواب.
ثالثاً: الإدانة من قبل المحكمة الدستورية الاتحادية.
فان الجهة المختصة برفع الدعوى وقبولها هي السلطة التشريعية، أما الجهة المختصة بإدانة الرئيس فهي المحكمة الدستورية الاتحادية وهي أعلى هيئة قضائية وقراراتها باتة وغير قابلة للنقض.
تنظيم مساءلة رئيس الجمهورية وإعفائه في دستور 2005:
أخذ الدستور العراقي النافذ بمبدأ المسؤولية السياسية لمنصب رئيس الجمهورية لما يتمتع به من سلطات وإن كانت محدودة، وهذا ما تسير عليه اغلب النظم البرلمانية ذات النظام الجمهوري في الحكم، وقد نص عليها صراحة وحدد الجهات المختصة بطلب الاتهام بموجب أسباب تم إدراجها في النص الدستوري، وكذلك الجهات المختصة التي تجري التحقيق وأيضا الجهة صاحبة القرار النهائي بذلك، مع تحديد النسبة المطلوبة لكل مرحلة من مراحل إجراءات عزل رئيس الجمهورية، فقد جاء في الفقرة سادساً من المادة (61) على الأتي:
أ- مساءلة رئيس الجمهورية بناءً على طلب مسبب، بالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب.
ب- إعفاء رئيس الجمهورية، بالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب، بعد إدانته من المحكمة الاتحادية العليا، في إحدى الحالات الآتية:
1- الحنث في اليمين الدستورية.
2- انتهاك الدستور.
3- الخيانة العظمى.
ملاحظات على النص الدستوري
إن الطريقة التي رسمها الدستور العراقي النافد، عند إقالة الرئيس(4)، تبدأ من مجلس النواب وهو الجهة المختصة بتقديم طلب مسبب لمساءلة رئيس الجمهورية من قبل الأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، وبعد الموافقة على طلب المساءلة، يأتي دور المحكمة الاتحادية العليا التي لها الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية(5)، وإذا وجدت المحكمة أن رئيس الجمهورية مدان في أحد الحالات التي ذكرت في النص الدستوري.
يكون بعد ذلك قرار إعفائه من قبل الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب(6)، وأن النسبة المطلوبة لطلب المساءلة هي نفس النسبة لقرار الإعفاء، وهي الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب، وهذا محل نظر، حيث ان طلب سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء، يحتاج خُمس(1/5) أعضاء مجلس النواب، وهو يختلف أيضا عما قام به المشرع الألماني ولهذا نرى من المناسب أن يوجد تمايز ما بين النسبة المطلوبة لطلب المساءلة وقرار الإعفاء.
ان إدانة المحكمة الاتحادية العليا لرئيس الدولة، وتعليق نفاذ هذه الإدانة على موافقة مجلس النواب، فيه محل نظر أيضاً، حيث كان الأفضل أن تناط سلطة طلب المسائلة والاتهام إلى مجلس النواب ويكون قرار الفصل في يد المحكمة الاتحادية العليا، لمراعاة المنصب وخطورته عند تحديد عدد الأصوات المطلوبة في حالة طلب الاتهام وكذلك عند توجيه الاتهام؛ حيث لابد ان يكون فرق بينهما، ونقترح أن يكون مقترح الطلب بربع أصوات مجلس النواب وان يكون العدد المطلوب لإقرار طلب الاتهام بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.
إن تعليق قرار إدانة رئيس الجمهورية من قبل المحكمة الاتحادية العليا، حتى إقرار الإعفاء من قبل مجلس النواب قد وضع نصوص الدستور في تناقض فيما بينها، فإن هذا النص يتناقض بشكل واضح مع نص المادة 94: (قرارات المحكمة الاتحادية العليا بأنها ملزمة للسلطات كافة) بما فيها سلطة مجلس النواب، فمن المستغرب، أن تدين المحكمة الاتحادية العليا رئيس الجمهورية التي قراراتها ملزمة وغير قابلة لأي طعن تكون معلقة على قرار مجلس النواب، وبالأخص عند حالة عدم موافقة مجلس النواب على الإعفاء ولأسباب سياسية، إذ من المعروف أن للرئيس من يدعمه في المجلس النيابي! مما قد يؤدي إلى عدم الحصول على الأغلبية المطلقة، والسؤال الذي يمكن أثارته كيف يستمر رئيس دولة في مباشرة مهام منصبه وهو مدان من أعلى جهة قضائية في البلاد ؟(7).
إن المشرع الدستوري ألزم المشرع القانوني بإصدار قانون للفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، ونرى أن يراعي هذا القانون التناقض الوارد في النص الدستوري بشأن إعفاء رئيس الجمهورية، حيث أن الدستور العراقي اعتبر المحكمة الاتحادية العليا جهة من جهتي الاختصاص إلى جانب مجلس النواب في الفصل بالاتهامات الموجهة لرئيس الجمهورية، نرى أن يكون دورها بعد إقرار مجلس النواب للاتهامات الموجهة له فإذا وجدته مذنب لها أن تعلن أن رئيس الجمهورية قد فقد منصبه.
مقترحات لمساءلة رئيس الجمهورية وإعفائه:
وعلى ضوء الملاحظات المقدمة على النص الدستوري المعني بمساءلة رئيس الجمهورية وإعفائه، اقترح تعديل (الفقرة، سادساً،المادة 61) من الدستور، وتصبح وفق الآتي:
أ- لمجلس النواب تقديم مساءلة رئيس الجمهورية بناءاً على طلبٍ مسبب من قبل ربع (1/4) أعضائه، إلى المحكمة الاتحادية العليا.
ب- يقر مجلس النواب اتهام رئيس الجمهورية إلى المحكمة الاتحادية العليا، بأغلبية ثلثي أعضائه، عند الحالات التالية:
1- الحنث في اليمين الدستورية.
2- انتهاك الدستور.
3- الخيانة العظمى.
ج- تفصل المحكمة الاتحادية العليا بقرار الاتهام من قبل مجلس النواب، وقرارها في إدانة رئيس الجمهورية وإعفائه من منصبه، بات وملزم من تاريخ صدوره.
ح- تشريع قانون ينظم في الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية.
اضف تعليق