التساؤل عن الموقوفين والمحكومين بعقوبات سالبه للحرية فما الحل لمنع تفشي الوباء بينهم؟ بما يهدد حياتهم ويلحق أشد الضرر بهم وبأسرهم، لاسيما وان بعضهم محكومون بعقوبات عن جرائم ليست خطيرة في الغالب، ومعاقبتهم بالحبس لا تبرر تعريضهم لخطر الموت أو المعاناة الكبيرة جراء الإصابة بالمرض...
تجتاح دول العالم جائحة متلازمة التنفس الحادة التي يتسبب بها فايروس كورونا، والذي تسبب بموت الآلاف من الأشخاص في أنحاء المعمورة، وبادرت جميع الدول إلى اتخاذ احتياطات كثيرة منها إغلاق الحدود ومنع التقارب الاجتماعي بكل أشكاله، للحد من مخاطر الانتشار عبر التجمعات الكبيرة كونها وسط مساعد على تفشي الأوبئة.
وفي هذه الظروف الحرجة حق لنا التساؤل عن الموقوفين والمحكومين بعقوبات سالبه للحرية سواءً منها قصيرة، أو متوسطة المدة، كون هؤلاء يشكلون نسبة كبيرة من الأشخاص المودعين في المؤسسات الإصلاحية في العراق أي السجون التي تديرها وزارة العدل العراقية، وهؤلاء أكثر من غيرهم عرضة لانتشار الوباء بحكم تواجدهم في أماكن صغيرة نسبياً بأعداد كبيرة فما الحل لمنع تفشي الوباء بينهم؟ بما يهدد حياتهم ويلحق أشد الضرر بهم وبأسرهم، لاسيما وان بعضهم محكومون بعقوبات عن جرائم ليست خطيرة في الغالب، ومعاقبتهم بالحبس لا تبرر تعريضهم لخطر الموت أو المعاناة الكبيرة جراء الإصابة بالمرض، ولا يغيب عن البال أيضاً القلق والمعاناة النفسية لذويهم.
وقد بادرت رئاسة الجمهورية في العراق إلى تفعيل المادة (73/ أولاً) من الدستور العراقي للعام 2005 التي نصت على أمكانية إصدار رئيس الجمهورية لمرسوم العفو الخاص عن بعض المحكوم عليهم بتوصية من رئيس مجلس الوزراء، فقدم الرئيس مقترح رئاسي يوم 2/أبريل 2020 موجه إلى رئيس الوزراء المستقيل، بينت من خلاله رئاسة الجمهورية عن رغبتها بالعفو عن بعض المحكومين خشية تفشي الوباء في السجون العراقية، بيد إن الأمر متوقف على صدور توصية بالعفو الخاص لتتمكن رئاسة الجمهورية من إصدار المرسوم الجمهوري الخاص بذلك، وبالفعل صدرت التوصية بتاريخ 5/أبريل 2020 وأعقبها في اليوم التالي صدور كتاب رئاسة الجمهورية بالعدد (د.و39 في 6/4/2020) الذي يطلب تزويد رئاسة الجمهورية بالأسماء ومقتبسات الأحكام لإصدار المراسيم الجمهورية بالعفو، علما إن توصية رئيس الوزراء استثنت العديد من الجرائم ومنها التي نصت عليها المادة (73) من الدستور ذاتها وهي جرائم الإرهاب والفساد وغيرها.
ومما تقدم نقول هذه الآلية رغم أهميتها إلا أنها بطيئة جداً والروتين يهددها والفساد الإداري والمالي قد يصيبها بمقتل ويحرفها عن غايتها الأساسية، لهذا نقترح أن يتم التوجه نحو العقوبات البديلة، نعم هي بحاجة إلى تشريع، بيد إن هذا التشريع إن صدقت النيات لن يستغرق في إعداده والتصويت عليه أكثر من أسبوع ويمكن للبرلمان أن يمارس دوره عبر دوائر إليكترونية تضمن تواجد النواب جميعاً في زمان معين للتصويت والاتجاه نحو التنفيذ.
فقد شهدت العقوبات تطوراً كبيراً على مستوى العالم أجمع انتهت معها النظرة التقليدية للعقوبة بصورتها البدنية القاسية والتي تؤدي إلى الموت والعاهات المستديمة في الغالب، أما بشكل مباشر أو غير مباشر، وتم الاتجاه نحو العقوبات البديلة التي تضمن الإصلاح وعدم انصراف الآثار إلى غير المحكوم عليه، ونذكر إن وظيفة العقوبة بالأصل هي الإصلاح وتهذيب السلوك الاجتماعي للأفراد وليس إذلالهم أو نزع كرامتهم الإنسانية أو تعريضهم لخطر الموت، وان هنالك العديد من بدائل العقوبات سالبة الحرية لاسيما قصيرة المدة التي تؤدي إلى نتائج عكسية أحياناً بسبب اختلاط الذي يخطأ خطأ قد يكون غير مقصود بعتاة المجرمين وهم من قد يؤثر على سلوكه أو يضموه إلى عصابات إجرامية خطيرة.
وبالمناسبة إن التشريع العراقي تضمن بعض أنواع البدائل أو العقوبات البديلة ومنها على سبيل المثال ما أشارت إليه المادة (331) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم (23) لسنة 1971 حين نظمت أحكام الإفراج الشرطي ونصت على أنه "للمحكمة التي أصدرت الحكم أو المحكمة التي حلت محلها أن تقرر الإفراج عن المحكوم عليه بعقوبة أصلية مقيدة للحرية إذا أمضى ثلاثة أرباع مدتها أو ثلثيها إذا كان حدثاً وتبين للمحكمة أنه قد استقام سيره وحسن سلوكه على أن لا تقل المدة التي أمضاها عن ستة أشهر ولا تزيد المدة الباقية منها على خمس سنوات" وما أشارت إليه المادة (144) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل من أن "للمحكمة عند الحكم في جناية أو جنحة بالحبس مدة لا تزيد على سنة أن تأمر في الحكم نفسه بإيقاف تنفيذ العقوبة إذا لم يكن قد سبق الحكم على المحكوم عليه عن جريمة عمدية ورأت من أخلاقه وماضيه وسنه وظروف جريمته ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى ارتكاب جريمة جديدة"، وما تقدم وأن كان ليس عقوبات بديلة بالمعنى الفني للكلمة إلا أنهما كنظامين أقرا لغرض إصلاح الجاني خارج المؤسسة الإصلاحية وهما خطوة مهمة إلى الأمام ينبغي أن تتبعهما خطوات.
وتعد العقوبات البديلة وبحق نقطة الالتقاء بين السياسة الجنائية التقليدية الهادفة إلى الإيلام لغرض إصلاح الجاني وردع غيره من التفكير بالجريمة وبين السياسة الجنائية الحديثة القائمة على ضرورة الموازنة بين الإيلام والحفاظ على الكرامة الإنسانة المتأصلة فالإيلام أضحى من الماضي وما هو مطلوب اليوم هو الإصلاح والتأهيل وعودة الفرد للمجتمع صالحاً.
لذا نقترح وكحل بديل يتلائم مع خطورة المرحلة الحالية أن يصار إلى الآتي:
1- إطلاق سراح جميع الموقوفين من أجل جرائم ومخالفات بسيطة لا ترقى إلى الجرائم الإرهابية أو جرائم الفساد والجرائم المخلة بأمن الدولة، مقابل كفالة ضامنة لتستأنف بحقهم الإجراءات بعد انتهاء خطر الجائحة.
2- إطلاق سراح المحبوسين والمسجونين ممن استوفى شروط الإفراج الشرطي فوراً بالتنسيق بين مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل بتشكيل فرق يرأسها قاضي لدراسة الملفات واتخاذ القرارات المناسبة فوراً.
3- بالنسبة للموقوفين ممن استأنفت محاكمتهم ووصلت لمراحلها المتقدمة وكانت الجرائم المتهمين بها بسيطة ومخالفات محدودة الأهمية يمكن للمحاكم أن تصدر قرارات بشأنهم مع شمول من توافرت فيه شروط وقف التنفيذ لمنع الزج به في المعتقلات والسجون وتعريض حياته للخطر.
4- بالنسبة للآخرين ممن صدر بشأنهم أحكام ولم تنفذ أو نفذ جزء منها فيمكن إطلاق سراحهم مقابل كفالة ضامنة أن يسلم المحكوم نفسه بعد انتهاء خطر الجائحة ليتم تنفيذ ما تبقى من مدة محكوميته.
5- أن يأخذ البرلمان العراقي على محمل الجد ضرورة التوسع بالعقوبات البديلة التي تحقق إصلاح حقيقي للجناة ومنها على سبيل المثال:
أ- العمل لمصلحة المجتمع: وهي نوع من العقوبات التي تضمنتها القوانين العقابية الحديثة ومنها قانون العقوبات الفرنسي للعام 2004 وتتم بإلزام المحكوم عليه بالعمل لمصلحة المجتمع مدة معينة بالساعات أو الأيام بشرط موافقة المحكوم عليه وهذه لعقوبة ملائمة للوضع في العراق كما لو الزمنا المحكوم عليه بالحبس لمدة شهر أو شهرين أو أكثر أن يقضي مدة مماثلة في الخدمة العامة كان يساعد في تنظيم الأماكن العامة ودور العبادة مثلاً وان خشينا من ردة فعله يمكن إلزامه في العمل في أحد الحقول النفطية أو المناجم أو المزارع لمدة محددة، مقابل أجر يؤخذ نصيب منه ليدفع للمعتدى عليه أو يصادر بصيغة الغرامة المالية، على أن يؤخذ بنظر الاعتبار تلائم العمل مع قدراته الجسمانية ومركزه الاجتماعي.
ب- الوضع تحت الاختبار القضائي: وتتلخص هذه العقوبة بان المحكمة تحكم على الجاني بعقوبة الحبس وتوقف تنفيذها وتضعه إما تحت رقابة الشرطة أو تحت رقابة هيئة خاصة لمدة محددة من الزمن إن انقضت ولم يرتكب أي مخالفة يعد الحكم قد سقط وانتهى، وهذه العقوبة موجودة في القانون العراقي وفق ما بينا أعلاه وفق أحكام المادة (144) من قانون العقوبات والتي يمكن ان تكملها المواد (99) و(108) من القانون ذاته التي سمحت بوضع المحكوم عليه من جرائم محددة بعد انتهاء محكوميته تحت مراقبة الشرطة، وبالجمع بين الأمرين يمكن أن نوصي بالآتي "الجرائم البسيطة يمكن إطلاق سراح الجاني بعد النطق بالحكم ووضعه تحت رقابة هيئة متخصصة تسهم في تكوينها المحكمة وأجهزة الشرطة ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية والعدل".
ت- المراقبة الإليكترونية: والمتمثلة بمتابعة المحكوم عليه بعد إطلاق سراحه إليكترونيا لمنع ارتياده لأماكن معينة خشية العودة لطريق الجريمة وكنوع من الإيلام الذي يساعد في الإصلاح.
ث- الغرامة: فالغرامة تتضمن إيلاماً لا يستهان به كونها اقتطاع جزء من أموال الجاني وضمها للخزينة العامة للدولة، وهي تجنبنا اكتظاظ السجون بالأفراد وتضمن إمكانية توقيع عقوبة أشد في حال رجع الشخص لطريق الإجرام كونه من أرباب السوابق.
ج- المصادرة: إجراء ينتهي بتمليك الدولة أموال منقولة أو عقارية ذات صلة بالجريمة بشكل جبري رغماً عن إرادة صاحبها، وهذه العقوبة ستشكل رادع للأفراد من التفكير بالجريمة وتحقق الغاية من العقوبات السالبة للحرية.
ح- العقوبات الإدارية: والتي تتمثل في الفصل من العمل أو تنزيل الراتب أو العنوان الوظيفي أو النقل الوظيفي النوعي أو المكاني أو غيرها من العقوبات التي تشكل أكبر رادع للأفراد فعلى سبيل المثال لو سحبت إجازة ممارسة المهنة فهذه العقوبة مؤلمة لمن توقع عليه بشكل كبير جداً فلو إن صاحب صيدلية ارتكب مخالفة فقامت السلطة المختصة بتعليق رخصته أو إجازته لمدة محددة إن كانت المخالفة بسيطة أو قامت بسحب الإجازة إن كانت المخالفة جسيمة فهذه العقوبات تعني الكثير من الألم لهذا الشخص والمساس باعتباره الاجتماعي ما يشكل عامل ردع للآخرين كي لا يفكروا بذات الأسلوب.
اضف تعليق