وحدك او مع بعض الناس الذين لا تعرفهم، تعيش حياة بائسة مليئة بالتعب والارهاق والقهر، تفكر طويلاً بحثا عن مخرج لا وجود له اصلاً، تعيش في سجن يومي لا يستع الا لشخص واحد جالس لا يحق له الوقوف، ولا الخروج، ولا فتح النافذة، فان فتحتها تنهشك حرارة الشمس الحارقة...
وحدك او مع بعض الناس الذين لا تعرفهم، تعيش حياة بائسة مليئة بالتعب والارهاق والقهر، تفكر طويلاً بحثا عن مخرج لا وجود له اصلاً، تعيش في سجن يومي لا يستع الا لشخص واحد جالس لا يحق له الوقوف، ولا الخروج، ولا فتح النافذة، فان فتحتها تنهشك حرارة الشمس الحارقة، وان اغلقتها لا تكفيك علبة مناديل لامتصار شلالات العرق على جسمك.
هي سجون بغداد التي وفرتها حكومتها الجديدة، سجون تشبه ذلك السجن الذي بناه احد السلاطين على قمة جبل، وجعل بابه مفتوحاً على مصراعية يحق للسجناء الخروج منه، لكنه يطل على وادٍ عميقٍ وبواجهة سقوط عمودية يستحيل معها الخروج ناجياً ان فكر احد ان تطأ قدمه خطوة خارج باب السجن المفتوح.
في بغداد سجن مفتوح الابواب متنقل يحمل مئات الالاف من المواطنين يومياً، شوارع اسفلتية، تكتض بالسيارات في ساعات الظهيرة التي تصل حراراها الى نصف الغليان، لا حركة للسيارات، فجميع التقاطعات شبه متوقفة، الحركة تحسب بالسنتمترات، والطريق الذي يصل طوله الى كيلمترات معدودة قد يحتاج الى ساعتين او اكثر لتجاوزه، هذا حال سكان العاصمة يومياً، يخرجون في الصباح الباكر، قبل بدء الدوام بساعات، بعضهم يخرج قبل شروق الشمس، وفي العودة لا يصلون الى بيوتهم الا بعد طول عناء اكثر من عناء الصباح.
سجون جدرانها زجاجية تحت اشعة شمس الصيف، لا يحق للمواطنين السجناء فيها بوضع ستائر عن الشمس، فهي من المحرمات امنياً، القانون يمنع وضع لاصق اسود (تظليل موجود مَصْنَعِياً في بعض السيارات) للوقاية من الحرارة، وان امسكتك الشرطة متلبساً بوضع (التظليل) قطع القماش حول النوافذ فقد تلقي نفسك بالسجن، يحدث هذا بينما تمر بجانبك مواكب المسؤولين الحكوميين، وكل من يملكون مناصب عند الدولة وسياراته مظللة سوداء قاتمة، لا تخرقها الدروع ولا اشعة الشمس، ولا يمكن لعيون المواطن المسكين ان ترى ما بداخل السيارات تلك.
ما الذي جناه البغداديون ليتم سجنهم بالشكل الجماعي هذا؟ انها جريمة ان تعيش نصف يومك على الاسفلت الحارق، وسط جو من الضوضاء وعدم الاستقرار وانعدام الخصوصية، لا تستطيع انجاز اعمالك، ولا يمكنك الالتزام بالمواعيد التي صار خرقها صفة للعراقيين وهم مجبرون على ذلك، فان وصلت بالوقت المحدد قال لك الناس انه موعد انگليزي، وان تاخرت عن موعدك، قيل انه موعد عراقي.
لم يناقش احد لماذا لا يلتزم المواطن بالمواعيد، رغم انه مسجون في احد التقاطعات، من يعوض الناس عن الخسائر التي يتكبدونها يومياً؟ اذا كانت الحكومة عاجزة عن حل ازمة الزحامات، فلماذا لا تقر قانوناً لتعويض المواطنين عن الاوقات التي يقضونها في الشوارع او في سجونهم المؤقتة؟ اليست وظيفة السجون هي تعذيب من فيها؟ في شوارع بغداد يتجدد العذاب يومياً؟ لكن اليست احكام السجن غير دائمة، فمتى تقوم الحكومة باصدار عفو عام عن اهالي بغداد؟
يحق للاهالي التظاهر امام المنظمات الحقوقية الدولية مطالبين بادراج الزحامات المرورية باعتبارها جريمة ضد الإنسانية، وعلى كليات القانون والحقوق ادراج زحامات بغداد ضمن السجون المؤقتة، ووضع تعريف خاص بها والتوصية بتحديد المسؤولين عنها وسبل معاقبهم، وتعويض الضحايا ضمن قانون مؤسسة السجناء، لا سيما واننا نملك وازرة خاصة بالطرق، ماذا تعمل هذه الوزارة؟ سوف يجيبك الوزير ان هذا من اختصاص امانة بغداد، وهذه الأخيرة تتذرع بالف ذريعة، الحكومة وحدها التي تتحمل ما يجري من كارثة، فبدل ان تقوم بانشاء "مترو بغداد" جلبت لنا عربات "التوك توك" لكونها تستطيع المرور بين السيارات واختراق الزحامات، وفي يوم ما قد يتحول النقل الى الدراجات النارية فقط، فالسيارات لا تستطيع السير الا بعد منتصف الليل، حيث ينام الناس.
لا أمل يلوح في الافق، على بغداد ان تستوعب كل السجناء، وتزيد من عذابهم سنة بعد اخرى ويقاس العذاب بعدد الشوارع التي يتم اغلاقها تلقائيا نتيجة التخسفات او اجبارياً نتيجة مرور مواكب المسؤولين، وما بين الاغلاق التلقائي والاجباري تتراكم السيارات يومياً عبر منافذ الاستيراد التي لا تقارن بين حجم استيعاب الشوارع وعدد السيارات الموجودة. والحكومة اذا عجزت عن توسيع الشوارع فعليها تسجيل مواطني بغداد في مؤسسة السجناء الحالية او انشاء "مؤسسة سجناء الزحامات".
اضف تعليق