إدارة الدولة الحديثة، تقوم على أساس مفهوم (الدولة خادمة للشعب) بدلا عن مفهوم (الشعب خادم للدولة)، وهذا المفهوم؛ يستلزم أن تقوم الدولة بواجباتها ومسؤولياتها، بغية تسهيل إيصال الخدمات للمواطنين المُقيمين على أرض الدولة، وكذلك الأشخاص الوافدين، والأجانب، وممّن يعيشون على أرضها، بصفةٍ دائمة أو مؤقتة...
إن إدارة الدولة الحديثة، تقوم على أساس مفهوم (الدولة خادمة للشعب) بدلا عن مفهوم (الشعب خادم للدولة)، وهذا المفهوم؛ يستلزم أن تقوم الدولة بواجباتها ومسؤولياتها، بغية تسهيل إيصال الخدمات للمواطنين المُقيمين على أرض الدولة، وكذلك الأشخاص الوافدين، والأجانب، وممّن يعيشون على أرضها، بصفةٍ دائمة أو مؤقتة، دون النظر لأيّ اعتباراتٍ عرقية، أو دينية، أو طائفية، تحديدا، توفير الخدمات العامة الأساسية اللازمة للحياة والكرامة والرفاه.
يمثل تقديم الخدمات العامة جوهر العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها، وروح العدالة الاجتماعية بين المواطنين من حيث تحقيق المساواة في الحصول على الخدمات العامة الجيدة، وحجر الأساس في ضمان نوعية مقبولة من الحياة الحرة والكريمة، فضلا عن أن موضـوع توفير الخـدمات العامة؛ وتقديمها؛ وتطويرهـا؛ وتجويـدها وتقويمهـا، يعد أحـد أهـم الموضـوعات التخصـصية فـي الإدارة العامة الحديثة.
الخدمـات العامـة -كمـا يعـرفها خـبراء الإدارة العامـة- هـي: (الحاجات الضرورية لحفظ حياة الإنسان وتأمين رفاهيته والتي يجب توفيرها بالنسبة للسواد الأعظم من الشعب، والالتزام في منهج توفيرها علــى أن تكــون مصــلحة الغالبــية مــن المجــتمع هــي المحــرك الأساسـي لكل سياسة في شؤون الخدمات، بهدف رفع مستوى المعيشـة للمواطنين، وأن تلبـية هـذه الخدمـات العامـة مثل: الخدمات الصحية؛ والتعليمية؛ والثقافـية؛ وخدمـات الأمـن، والعدالـة...الـخ، هي مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى، وهى ليست موقوتة بزمن محدد، بل هي عملية دائمــة مســتمرة ينبغــي أن تخطــط الدولــة لــتقديمها وتطويــرها ليحصل عليها المواطن في أحسن صورة)
هناك مجموعة أساسية من الخدمات العامة؛ ينبغي أن تقدمها الدولة لمن يقيم على أرضها من مواطنين أو أجانب، بشكل مباشر من خلال مؤسسات القطاع العام، أو بشكل غير مباشر من خلال الإشراف على القطاع الخاص، ولا يجوز التنصل منها أو التقصير في أداءها، على نحو من الإنحاء، لأنها خدمات أساسية لازمة لاستمرار حياة الناس، ومنها: خدمات قطاع الطاقة الكهربائية كـ(إنارة الشوارع، والساحات العامة، وتوصيل الطاقة الكهربائية للمنازل، والمنشآت العامة، والخاصة)، وخدمات شبكات المياه كـ( بناء السدود، وشبكات الماء في كافة مناطق الدولة، وحفر الآبار الارتوازيّة لغايات جمع مياه الأمطار لسد النقص في مواسم الجفاف)، وخدمات الطرق والمواصلات كـ(من شق الطرق، وتعبيدها، وترميمها بين فترةٍ وأخرى، وبناء قنوات الصرف الصحي، والجسور، والأنفاق، وتوفير المرائب ووسائل النقل العام المريحة وغيرها)، وخدمات قطاع التعليم كـ(بناء المدارس الحكومية، والجامعات، والمعاهد، والكليات المتخصّصة في كافة المجالات)، وخدمات قطاع الصحة كـ(بناء المستشفيات، والمَراكز الطبية، والمختبرات، والعيادات)، وخدمات قطاع السكن كـ(أراضي، وبناء منازل للمحتاجين، قروض سكن) وخدمات قطاع الزراعة كـ(توفير الأراضي الصالحة للزراعة، ومياه السقي، ومستلزمات الفلاحة، ومصانع المنتجات الزراعية، ودعم مالي للمزارعين والفلاحيين) وخدمات قطاع الشباب والرياضة كـ( تعليم الشباب، وتدريبهم، وتشغلهم، وترفههم) وخدمات قطاع القضاء كـ(حق التقاضي، حفظ النفوس، حفظ الحقوق، حفظ الأموال) والخدمات الثقافية والدينية الترفيهية (من أنديـة ودور عبـادة ومكتبـات وملاعـب وغيرهـا) وخدمات قِطاع الأمن، والحماية كـ(الأمن العام، والشّرطة، والدّفاع المدني) وما إلى ذلك من المرافق التي ينتفع بها المواطنون داخل الدولة ويتحقق لهم الرقي والعيش الهانئ فيها.
وفي البلـدان الناميـة وأقـل البلـدان نمـوا، أدت عمليـة التحضـر بـوتيرة ســريعة إلى تزايــد الطلــب علــى الخــدمات الأساســية، لذا؛ فإن الكثير من البلاد قامت بصياغة مواد دستورية وقانونية، وعدت سياسات وإجراءات تلزم السلطات بتقديم الخدمات العامة، لا سيما الأساسية منها، كما تلزمها بضمان التوزيع العادل والكفء للخدمات العامة في مختلف أنحاء البلاد، على وفق ترتيبات تعاقدية تلتزمها بمبادئ الشمول؛ والإتاحة؛ والكفاءة؛ والشفافية والمساءلة؛ والاستمرارية؛ والنوعية والسعر المعقول والعدالة، بهدف ضمان حصول المواطنين على هذه الخدمات، بشكل مستمر، دون قيد أو صعوبات، مع تحديد الحد الأدنى المقبول لنوعية الخدمة.
وفي الحقيقة، هناك ثلاثة مبادئ للخدمات العامة ينبغي للدولة الالتزام بها، وهي:
مبدأ المساواة: وهو يعني مساواة الأفراد في الانتفاع من الخدمات العامة، متى توافرت الشروط التي يحددها القانون للحصول على الخدمات العامة، وتكون من خلال المساواة أو التسوية بينهم في المعاملة تحقيقا لمبدأ المساواة أمام القانون، ويرتبط مبدأ المساواة بمبدأ حيادية الخدمة أي توفير الخدمة بطريقة مماثلة دون اعتبار للاتجاهات السياسية والدينية والمصالح الخاصة.
ومبدأ الاستمرارية: ويعني أن الخدمات العامة هي خدمات جوهرية تنظم للأفراد شؤونهم على أساسها، ولذلك لا بد من استمرار سيرها بانتظام حتى لا يحدث خلل واضطرب في حياة الناس. ويمكن تصور ذلك مثلا عند توقف الماء أو الكهرباء، بحيث تهدف الخدمات العامة إلى تلبية حاجات ذات منفعة عامة، ومن أجل تحقيق هذا الهدف يشترط عدم انقطاعها لهذا فإن مبدأ الاستمرارية يعتبر مبدأ أساسي لقيام الخدمة العامة، وقد ذهبت بعض القوانين إلى تحديد قانون الإضراب أو منعه في بعض القطاعات، فهو يعتبر بالنسبة لمقدم الخدمة خطأ يعاقب عليه إداريا أو أكثر من خطأ وإنما جريمة.
ومبدأ التكيف أو المرونة: ويقصد بمبدأ التكيف أو المرونة بأن المنفعة العامة تتطور بتطور الزمن، لذا تستجيب المؤسسة العامة لهذه التغيرات حتى تتمكن من تقديم خدمات بأحسن طريقة، فهذا المبدأ يعتبر شرط أساسي لمتابعة تطور الحاجات العامة، وهو ما يبرر التغيرات التي تحدث على سير الخدمات وذلك تبعا للتغيرات التكنولوجية.
ورغم أن توفير الخدمات العامة الأساسية هو واجب الدولة ومسؤوليتها، وأن هذه الخدمات لابد أن تتصف بالمساواة والاستمرارية والمرونة، ولكن للأسف، فأن الكثير من الحكومات، تحديدا حكومات دول العالم الثالث، لا يبدو أنها جادة في توفير هذه الخدمات أو بعضها وتقديمها للمواطنين كجزء من التزاماتها الدستورية والقانونية والسياسية في إدارة البلاد وتسيس العباد، بل في غالب تحدث فجوة شاسعة بين هذه الحكومات وبين مواطنيها، وذلك بسبب سوء تقديم هذه الخدمات العامة، وسوء إدارتها.
نعم؛ قد تكون نظم التمويل التي تعمل عليها الحكومات الوطنية والمحلية لا ترقى إلى مستوى هـذه المهمـة، على الرغم من الظروف المواتيـة للاسـتثمارات الطويلـة الأجـل في مجال توفير الخدمات العامة وتقديمها، وربما حدث في السنوات الأخيرة تباطؤ ملحـوظ في الاسـتثمارات في الهياكـل الأساسـية المحليـة والخـدمات الأساسـية المحليـة مـن خـلال التمويـل الحكومي، ويعزى ذلك في جانب منه إلى تدابير التقشف المالي، ولكن مع ذلك ليس من الصحيح القول: إن الأموال اللازمة لتوفير الخدمات العامة وتوزيعها بشكل عادل على المواطنين هي السبب الرئيس، فلو توفرت تلك الأموال لتمكنت مؤسسات الخدمة العامة من توفير الخدمات لمواطنيها بشكل سهل ويسير؛ وذلك لأن تجربة بعض الدول التي تمكنت من توفير الخدمات العامة لمواطنيها على أساس الوفرة والاستمرار والجودة، مثل بعض دول جنوب أسيا والصين لم تكن تتاح لها الوفرة المالية، بل كانت تجمع الأموال بطريقة فنية وحرفية وتوفرها من خدمة ما لتنتقل إلى خدمة أخرى.
في الواقع أن طبيعة النظام السياسي والمؤسسة السياسية تلعب دورا أساسيا في توفير الخدمات العامة للمواطنين من عدمها، فكلما كانت المؤسسة السياسية متماسكة؛ ومنظمة؛ ولها رؤية للمستقبل، تمكنت من السير قدوما نحو تحقيق الخدمات العامة، وتقدمت خطوة باتجاه توفير الخدمات الترفيهية، والعكس صحيح أيضا؛ فكلما كانت المؤسسة السياسية مفككة وغير منظمة، ولا تمتلك رؤية للمستقبل، بل تنظر إلى ما تحتها ولا تمد البصر، فأنها قطعا لن تكون قادرة على تقديم الخدمات العامة، ولو كانت تملك الأرض وما عليها وما فيها.
كما أن المؤسسة الإدارية، وهي المؤسسة المزودة للخدمة، وبكل ما تعنية من قيادات وأنظمة وقرارات وسياسات وإجراءات وبنى تحتية هي الأخرى تحدد طبيعة وجودة الخدمات، فلكما كانت المؤسسة الإدارية مؤسسة مهنية وحرفية قدمت خدمات عامة متكاملة ومستمرة وبجودة عالية، وكلما كانت المؤسسة الإدارية مؤسسة خاملة ومترهلة كانت عاجزة عن تقديم الخدمات العامة، وهي بطبيعة الحال تتأثر ايجابا أو سلبا بالمنظومة السياسية الحاكمة، فان كانت المنظومة السياسية منظومة متماسكة كانت المنظومة الإدارية كذلك، وإن كانت متفككة كانت المنظومة الإدارية عاجزة عن تقديم خدمات عامة ترضي المواطنين.
ومن المنطقي أن ينتج عن دولة لا تخضع مؤسساتها السياسية والإدارية للمعايير الأخلاقية والمهنية المطلوبة الا يستطيع أي مسؤول (ولو كان صاحب قرار أو صاحب نفوذ) أن يحاسب المسؤولين المقصرين في إدارة وتقديم الخدمات العامة، فاذا أخفق أحدهم في العمل وفقاً للمعايير، فنادراً ما يحاسب. وقلما تتخذ إجراءات تصحيحية. ويكثر في مثل هذه الدول حالات المحسوبية والمحاباة والفساد المالي والإداري، كما أن المواطنين عادة ما يكونوا عاجزين عن محاسبة أي مسؤول على أدائه في تقديم الخدمة، حيث تنقصهم المعلومات والاختيار والقنوات اللازمة للمشاركة.
نخلص مما تقدم: إن الدولة هي المسؤول الأول عن توفير الخدمات العامة الأساسية، سواء عن طريق المؤسسات العامة أو عن طريق المؤسسات الخاصة، ولا يجور أن تتخلى عن مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية والإدارية والاقتصادية؛ لان هذه التخلي يعني انفراط عقد الشراكة بينها وبين مواطنيها، ويعني فقدان العدالة الاجتماعية وسيادة الظلم والحيف الاجتماعي، ما يستوجب استبدال السلطة بأخرى قادرة على إتيان هذه الخدمة، ومن الأسس التي ينبغي أن تعتمدها الإدارة العامة في توفير الخدمات العامة هي:
1. التوزيع العادل للموارد والخدمات والمرافق العامة داخل وبين المدن والمناطق الريفية، وفقا لكثافة السكان مع إعطاء الأولوية للفئات الضعيفة؛
2. ضرورة استمرار الخدمات العامة في كل الظروف، ولجميع المواطنين على حد سواء؛
3. تكييف الخدمات العامة مع احتياجات المستخدمين؛
4. منع أو وضع قيود واضحة على خصخصة الخدمات العامة، وضمان السعر المعقول لها في حالة الخصخصة؛
5. تشجيع السكان – بشكل فردى أو جماعي – على المساهمة والمشاركة في عملية اتخاذ القرار؛
6. إصلاح النظام الإداري للخدمات العامة بهدف زيادة شفافيته وفعاليته عن طريق إنشاء قنوات للمشاركة العامة. من شأن هذا الأمر أن يخضع مقدمي الخدمات والمرافق العامة للمساءلة، ويمكن الجمهور من مراقبة تقديم الخدمة؛
7. التأسيس لثقافة المساءلة والنزاهة والشفافية في الخدمة العامة والإدارة العامة.
.....................................
اضف تعليق