الأحزاب السياسية والمرشحون هم شركاء رئيسيون في العملية الانتخابية، وهم المتنافسون للفوز بالمناصب التمثيلية من خلال القيام بالحملات الانتخابية، ومحاولة إقناع الناخبين بالتصويت لهم. أما قدرتهم على تنفيذ حملات ذات مصداقية، فتعتمد على البيئة القانونية والسياسية والثقافية لكل بلد؛ بالإضافة إلى اعتمادها على كيفية إدارة الانتخابات. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فان الأحزاب السياسية والمرشحون يمكنهم تشويه العملية الانتخابية من خلال ممارسات التمويل والإنفاق غير المشروع؛ وذلك بسبب المال الذي تحتاجه الأحزاب السياسية والمتنافسون في الانتخابات للقيام بحملاتهم الانتخابية. لذا حددت القوانين طريقة تلقي الأموال وصرفها، ويطلق على هذه العملية بـ "التمويل والإنفاق في الدعاية الانتخابية"
إن المال الانتخابي له وجهان: الوجه الأول، وهو الوجه الحسن الذي يتعلق بحرية التعبير، لكونه ضروريا للحملات الانتخابية، بهدف إيصال رسالة المرشح للناخبين، أما الوجه الآخر، فهو الوجه الخفي الذي يتعلق بالمال لكونه جذرا للفساد؛ ينمو كلما تهيئ له المناخ المناسب، فيؤدي الى فساد الانتخابات، وسرق حرية الناخبين.
ماذا نعني بتمويل الحملات الانتخابية؟ ما أهمية هذا التمويل عند الحكومات ومواطنيها؟ لماذا تحتاج الأحزاب السياسية إلى تمويل أنشطتها؟ وماهي الأنشطة السياسية التي يمكن أن تمول؟ وكيف نفهم تمويل الحملات الانتخابية للأحزاب السياسية وللمرشحين؟ وماهي أنواع التمويل التي يمكن أن تحصل عليها الأحزاب ومرشحوها؟ وكيف يمكن أن يؤثر هذا التمويل على المرشحين والناخبين ونتائج الانتخابات؟
يشير مصطلح "تمويل الحملات الانتخابية" إلى الأموال التي تُجمع وتُنفق من أجل الترويج للمرشّحين والأحزاب السياسية والسياسات خلال الانتخابات، والاستفتاءات والمبادرات، ونشاطات الأحزاب وتنظيماتها. وفي تعريف آخر التمويل الانتخابي هو "الموارد المكتسبة والمنفقة من المرشحين للانتخابات والأحزاب السياسية خلال الحملات الانتخابية"
يحظى تمويل الحملات الانتخابية للأحزاب السياسية باهتمام كبير من لدن سلطات الدولة والناخبين، فضلا عن الأحزاب السياسية والمرشحين أنفسهم، على حد سواء، وذلك لما للتمويل من تأثير بالغ الأهمية على نتائج الانتخابات ووصول المرشحين إلى مقاليد السلطة والحكم. حيث إن عدم وجود التمويل المناسب للمرشحين والأحزاب المشاركة في الانتخابات من شأنه أن يحد من فرصة الأحزاب والمرشحين لإجراء الحملة الانتخابية بطريقة فعالة، وتوصيل رسالتهم للناخبين. هذا فضلا عن أن لدى سلطات الدولة والمواطنين مصلحة مشروعة في التأكد من مدى إنصاف وشفافية نظام تمويل الحملات الانتخابية، وما إذا كان هذا النظام يحد من احتمالات وقوع الفساد.
لا شك في أن عملية التمويل والإنفاق في الدعاية الانتخابية، تعد إحدى قضايا النزاهة الرئيسة في الانتخابات والتي تحتل الأولوية من حيث ضرورة معالجتها، اذ تشكل السيطرة على مدخلات الدعاية الانتخابية ومخرجاتها مسألة لا غنى عنها في السيطرة على نزاهة الانتخابات بصورة عامة، وبما أن المال يشكل العامل الرئيس في الدعاية الانتخابية، ولما كان التمويل والانفاق الانتخابي قوامهما ذلك المال، فهذا يعني أنهما عاملان مهمان في حسم نجاح العملية الانتخابية.
لقد أفرز الواقع العملي للدعاية الانتخابية العديد من الخروقات الصادرة من المرشحين وغيرهم، إذ أغرت الامتيازات المتعددة التي يحصل عليها الفائزون بالانتخابات -خاصة في دول العالم الثالث -العديد من المرشحين ودفعتهم للجوء الى كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل الفوز بالانتخابات، فهيأة الناخبين -في بعض البلدان-يمكن استغفلاها والتلاعب بإرادتها. وهذا ما يشكل تأثيرا مباشرا على نظام الدولة بصورة عامة، وعلى مؤسساتها ومصالحها بشكل خاص، وذلك بسبب وصول أشخاص فاسدين إلى سدة المناصب المهمة في الدولة وما ينجم عن ذلك من انتشار الفساد واستغلال المال العام وهدره في سبيل تحقيق المصالح الشخصية وزيادة معاناة الشعب من خلال تفشي مبدأ (شيء مقابل شيء).
في الواقع، وفي كل الأحوال، فان الأحزاب السياسية، تحتاج إلى تمويل مالي "المال السياسي" من أجل أداء وظائفها الأساس، كالمشاركة في صنع القرارات والسياسات، وتكريس مبدأ التداول السلمي على السلطة، وتوظيف وتكوين القادة السياسيين، واختيار المرشحين للانتخابات العامة. سواء أكان ذلك المال لتمويل أنشطتها في الفترات العمل العادية، مثل: إدارة الحزب بما فيه الرواتب وتكاليف استئجار المكاتب الدائمة، وتدريب أعضاء الحزب وانعقاد اجتماعاته الداخلية، ووضع السياسات وتوعية المواطنين، أم لتمويل أنشطتها للحملات الانتخابية، مثل: استئجار المكاتب المؤقتة، وتوظيف الموظفين، ودفع تكاليف الاتصالات والنقل المتعلقة بالحملة، وإقامة التجمعات الانتخابية، والقيام بالحملة المتجولة من منطقة إلى أخرى، وإنتاج مواد الحملة وإجراء الحملة الإعلانية والدعائية في وسائل الإعلام.
هناك مصدران لتمويل الأحزاب والمرشّحين: التمويل العام، والتمويل الخاص، والدول قد تعتمد أنظمة لتمويل الحملات استناداً إلى التمويل العام فقط، أو الخاص فقط، أو مزيج من الاثنين.
يشير التمويل العام للحملات الانتخابية إلى التمويل الذي يمكن أن توفره الدولة للمرشحين على وفق الأطر القانونية المعتمدة في كل بلد، وقد يكون هذا التمويل تمويلا مباشرا، أي الأموال التي تخصّصها الدولة للمرشّحين في الانتخابات. وقد يكون هذا التمويل تمويلا غير مباشر، وذلك عندما يحصل المرشّحون أو الأحزاب على بعض الخدمات مجاناً أو بكلفة أقل، مثل الظهور في وسائل الإعلام العامة، أو الاستفادة من ممتلكات الدولة بغرض تنظيم الحملات، أو طباعة المواد الانتخابية، أو استخدام الخدمات البريدية الخاصة بالدولة. فموارد الدولة تُعدّ ملكاً لجميع المواطنين، ويجب عدم استخدامها لما يصبّ في مصلحة أيّ حزب سياسي أو مرشّح. وبناء على هذا فانّ المعلومات المتعلقة بالتمويل العام المباشر وغير المباشر للمرشّحين والأحزاب خلال حملة انتخابية تتيح للمواطنين والمرشّحين والمسؤولين تقييم إن كانت موارد الدولة مستخدمة بطريقة عادلة ومناسبة.
والجدير بالذكر، فإن السويد من أوائل دول العالم التي اعتمدت مبدأ التمويل العام للانتخابات في إطار تنظيم الإنفاق الانتخابي، وذلك في العام 1966، والذي استند إلى ثلاث قواعد أساسية، هي: التمويل المقدّم إلى الأحزاب الجدية والتي تملك حضورا سياسيا حقيقيا. والدعم المالي بناء على طلب مُعلل من الحزب أو المرشح/ة. والتمويل الانتخابي بشكل نسبي حسب الحجم البرلماني لكل من الكتل السياسية.
بينما يشير التمويل الخاص للحملات إلى الاستفادة من المواد والخدمات مجاناً أو بسعر منخفض (مساهمات عينية) بفضل مساهمة مانحين من القطاع الخاص، كأفراد أو شركات. فضلاً عن ذلك، قد تقدّم الأحزاب السياسية هبات إلى المرشّحين، كما يمكن للمرشّحين أن يستخدموا مواردهم الخاصة لتمويل حملاتهم. ويُلزم المرشّحون والأحزاب بالإبلاغ عن الهبات الخاصة التي يتلقونها، بما في ذلك مصدر الهبة وتاريخها وقيمتها.
ولكن من المهم هنا، أن نبين أن عملية تنظيم الإنفاق الانتخابي لا يعني بالضرورة تأمين المساواة أو العدالة الكاملة (الكمية والنوعية) بين المرشحين. اذ إن فلسفة تنظيم الإنفاق تقوم على وضع حد أقصى أو ما يُعرف بسقف للأنفاق لمنع المرشحين ذوي الإمكانيات من تجاوزه. وعليه فان هذا الضبط الذي يساهم فعليا في التخفيف من التعسف من استغلال دور المال في العملية الانتخابية لا يعني أبدا إلزام كل المرشحين بإنفاق نفس القيمة، لأن الانتخابات عملية سياسية مكلفة ماديا لجهة الدعاية ونشر البرنامج والنشاطات المختلفة، ولذلك أصبح من الصعب الحديث عن مساواة أو عدالة فعلية من دون إعادة النظر في آليات تنظيم الإنفاق الانتخابي.
هذا يعني، إن تطبيق أنظمة تمويل الحملات بشكلٍ فعّال، أمرٌ ضروري للمحافظة على نزاهة نظام تمويل الحملات، وتعزيز ثقة العامة في العملية الانتخابية، ومساءلة الأحزاب السياسية والمرشّحين.
وهو ما أشارت إليه العديد من القوانين الدولية والوطنية الناظمة لعلميات تمويل الحملات الانتخابية. حيث تنص الفقرة "24" من وثيقة كوبنهاغن "الصادرة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في عام 1990" على ضرورة التطبيق المنصف لقوانين تمويل الحملات الانتخابية ورصدها بطريقة فعالة، وتشير الفقرة إلى أنه على الدول المشاركة واجب ضمان عدم تقييد أية من الحريات الأساسية "بطريقة تسيء استعمالها أو بطريقة تعسفية، ولكن بطريقة تكفل الممارسة الفعلية لهذه الحقوق".
وعلاوة على ذلك، تنص التوصية رقم" 1516/2001 " للجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا على أنه "من أجل الحفاظ على ثقة المواطنين ورفعها في الأنظمة السياسية، على الدول الأعضاء بمجلس أوروبا تبني القواعد التي تحكم تمويل الأحزاب السياسية والحملات الانتخابية".
وفي العراق ف نصت "م2 "من قانون انتخابات أعضاء مجلس النواب العراقي 45 لسنة 2013، على أن "يهدف هذا القانون الى ما يأتي:... ثانيا: -المساواة في المشاركة الانتخابية... رابعا: -ضمان عدالة الانتخابات وحريتها ونزاهتها"
تأسيسا على ذلك، لضمان وجود نظام تمويلي شفاف ونزيه، ينبغي إدراج كل من مسألتي تمويل الأحزاب السياسية الروتيني وتمويل الحملات الانتخابية في التشريعات. ومن الضروري أن تنص التشريعات بوضوح على الإطار الزمني الذي على المرشحين وغيرهم من أصحاب المصلحة الانتخابية خلاله الالتزام بقواعد تمويل الحملات الانتخابية. مع تأكيد ضمان وجود مراقبة العامة من المواطنين والصحافيين ومنظّمات المجتمع المدني لتقارير النفقات الانتخابات وتمويل الحملات، الصادرة في حينها، بما تتيح لهم تقييم مدى نزاهة المنافسة الانتخابية. كما يتيح لهم مراجعة التأثيرات السياسية التي يتعرّض لها المرشّحون عند تقلّدهم منصباً معيّناً.
ومما تقدم، لابد أن يتصف المال الانتخابي -لكي يكون مقبولا- بالصفات الآتية:
1- المشروعية: بمعنى أن يكون المال الانتخابي من مصادر مشروعة، كالمال الخاص للمرشحين أو مال الحزب أو الإعانات. ولابد من منع استخدام المال الانتخابي غير المشروع، كأموال الدولة أو الأوقاف أو أموال متحصلة من جريمة وغيرها.
2- محدودية المدة: بمعنى أن تقدم الأموال لغرض دعم الدعاية الانتخابية لمرشح ما أو قائمة معينة أو حزب ما خلال مدة محددة، وهذه المدة غالبا ما تكون سابقة على بداية الحملة الانتخابية أو أثناءها وتنتهي في يوم الاقتراع.
3- وطنية الأموال: ينبغي أن تكون كل الأموال التي تدفع لدعم الدعاية الانتخابية هي أموال وطنية، وذلك يعني عدم جواز استقبال أي أموال دعم أجنبي، سواء كان من الداخل أو الخارج، بل يجب أن تكون الأموال التي تساهم في بناء تمويل الدعاية الانتخابية من مصادر وطنية.
4- الحساب المصرفي: ينبغي أن تكون الأموال المقدمة إلى المرشحين مقيدة في حساب مصرفي مخصص لتمويل الدعاية الانتخابية وهذا ما اعتمدته العديد من التشريعات الانتخابية في العالم فلم يعد مقبولا تلقي الأموال وإنفاقها من قبل المرشح مباشرة.
ومع كل ما تقدم، ومع القيود التي تفرضها القوانين الدولية والوطنية بشأن تمويل الحملات الانتخابية، إلا أن دول العالم الثالث، مازالت من الناحية الواقعية بعدة كل البعد عن الالتزام بتلك القوانين وتطبيقها، لا على مستوى سلطات الدول، ولا على مستوى المرشحين والأحزاب السياسية، ولا حتى على مستوى وعي مواطنيها؛ فأصوات المواطنين في مثل هذه الدول، تباع وتشترى، والانتخابات تجارة موسمية، ستكون مربحة لمن يدفع أكثر... ولمن يأخذ أكثر... أما بناء الأوطان وأعمارها فهو هم مؤجل إلى أجل غير مسمى!
.............................
اضف تعليق