تتسبّب الحروب والنزاعات المسلحة بإيقاع الكثير من الضحايا والجرحى والمصابين من المقاتلين والمدنيين على حد سواء. فعلى مدى العقود الماضية، خلفت الحروب اعداداً كبيرة من البشر ذوي الاعاقة، والتي قدرتهم الاوساط الدولية بمليار شخص حول العالم، جلهم في الدول الفقيرة، والذين يواجهون حواجز مادية واجتماعية وسلوكية تستبعدهم من المشاركة بصورة كاملة وفعالة كأعضاء متساوين في المجتمع.

وبسبب تأثيرات الحروب على شعوب الدول المتحاربة، أضفت القوانين الإنسانية الدولية والوطنية معاملة متميزة على ضحايا الحروب والنزاعات لا سيما فئة الجرحى، إذ اوجبت احترامهم وحمايتهم أيا كان الطرف الذي ينتمون إليه. كما اوجبت أن يعاملوا -في جمع الأحوال- معاملة إنسانية، ويلقون الرعاية الطبية التي يحتاجونها، وأكدت نقلهم من ميادين القتال -بالسرعة الممكنة- إلى مراكز صحية آمنة ومجهزة ومحمية من أي اعتداء.

ليس هذا وحسب، بل نصت "الاتفاقية الخاصة بحقوق الاشخاص ذوي الإعاقة" على أن اعادة التأهيل حق أساسي من حقوق الاشخاص ذوي الإعاقة، بغض النظر عن نوع ودرجة الإعاقة، وعلى المجتمع والدولة والاشخاص والاسرة أن توفر لهم خدمات اعادة التأهيل. والتأهيل هو عملية تهدف الى تمكين الاشخاص ذوي الاعاقة من الوصول الى طاقاتهم الكاملة المتضمنة قدراتهم الحسية والفكرية والنفسية والاجتماعية الى اقصاهما، كما تهدف الى توفير الادوات المساعدة للوصول الى اعلى درجة من الاستقلالية.

فمن هم جرحى الحرب والنزاعات المسلحة؟ ولماذا تعنى بهم القوانين الدولية والإقليمية والوطنية، فضلا عن الشريعة الاسلامية؟ وماهي الخدمات التي ينبغي أن تقدم لهم في ساحات الحرب، وقبل دخول المستشفى وفي اثناء تلقيهم العلاج؟ وماهي الحقوق والبرامج الصحية والنفسية والتأهيلية التي تمنح للجرحى ما بعد المستشفى؟

الجرحى في اللغة مأخوذة من الفعل الثلاثي جَرَحَ، ويُقال جرحه يجرحه جَرْحاً إذا أثّر فيه بالسلاح، وشق في بدنه شقاً. والجرحى صفة ثابتة للمفعول، والمفرد جريح، فيُقال رجل جريح وامرأة جريح، أي مجروح ورجال ونسوة جرحى. والجريح كما يُجمع على جرحى فإنه أيضاً يُجمع على "جريحون".

يُعرف القانون الدولي الإنساني "الجرحى" أنهم الأشخاص العسكريون أو المدنيون الذين يحتاجون إلى مساعدة أو رعاية طبية بسبب الصدمة أو المرض أو أي اضطراب أو عجز بدنيا كان أم عقليا الذين يحجمون عن أي عمل عدائي. وإختلف فقهاء القانون في تعريف "جرحى الحرب" منهم من قال إن الجريح "هو كل من كان في ساحة القتال وبه جرح لا يستطيع معه القتال ولا يُرجى برؤه". وقال الآخر إن جرحى الحرب "هم من يُصابون بجروح مختلفة أثناء المعركة بفعل استخدام الجيش للأسلحة المختلف". بينما قال ثالث إن جرحى الحرب "هم الأشخاص العسكريون أو المدنيون الذين يحتاجون إلى الرعاية الطبية والذين يحجمون عن أي عمل عدائي.

إذاً نستطيع أن نقول إن "جريح الحرب" هو كل من جُرح أثناء الحرب من العسكريين والمدنيين. وهذا التعريف يشمل كل من جُرح بجرح، سواء كان الجرح طفيف أم خطير، وسواء جرحه أعجزه عن القتال أم لا، بصرف النظر عن نوع السلاح وطبيعته.

ظهرت في المجتمع الدولي المعاصر بوادر طبية نحو الجرحى والمرضى وأمثالهم، ومن أبرزها ما تبذله اللجنة الدولية للصليب الاحمر والهلال الاحمر، وما تقدم به بعض الدول الحديثة من عناية بشأن هؤلاء في ساحة الحرب من عام 1863، لان الاعتبارات الانسانية تفرض على جميع الدول المتحاربة، بان تعنى بالجرحى والمرضى وأفراد الخدمات الطبية، سواء من أفراد العدو أم من رعاياها. واتفاقات جنيف عام 1864 و1929 و1949 وما بعدها من بروتوكولات هي التي تنظم واجبات الدول المحاربة نحو جرحى ومرضى الحرب. وقد تأسست جمعيات دولية للعناية بالجرحى والمرضى مثل اللجنة الدولية للصليب الاحمر عام 1863، تساعدها في عملها مؤسسات الصليب الاحمر والهلال الاحمر الوطنية التي تخضع لقواعد دولية متفق عليها.

اتفاقية جنيف لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان، المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949، المادة (15) منها، نصت على أنه "في جميع الأوقات، وعلى الأخص بعد الاشتباك في القتال، يتخذ أطراف النزاع دون إبطاء جميع التدابير الممكنة للبحث عن الجرحى والمرضى، وجمعهم، وحمايتهم من السلب وسوء المعاملة، وتأمين الرعاية اللازمة لهم، وكذلك للبحث عن جثث الموتى ومنع سلبها. وكما سمحت الظروف، يتفق على تدبير عقد هدنة أو وقف إطلاق النيران أو ترتيبات محلية لإمكان جمع وتبادل ونقل الجرحى المتروكين في ميدان القتال. وبالمثل، يمكن الاتفاق على ترتيبات محلية بين أطراف النزاع لجمع أو تبادل الجرحى والمرضى في منطقة محاصرة أو مطوقة، ولمرور أفراد الخدمات الطبية والدينية والمهمات الطبية إلى تلك المنطقة.

وفي الواقع، جاء في القانون الدولي الإنساني العديد من القواعد التي تنص على وجوب معاملة الجرحى معاملة إنسانية منها اتفاقية جنيف في المواد (3-12-15)، وجاءت تلك المواد متضمنة عدة أمور منها معالجتهم وحظر الهجوم عليهم، وتحريم الإجهاز عليهم، وعدم تعريضهم للتعذيب وإخضاعهم للتجارب، وتأمين الرعاية اللازمة لهم، دون تمييز يقوم على الدين أو اللون أو الجنس. والمٌلاحَظ أن القانون لم يُفرق بين الجريح داخل الحرب أو خارجها، كما أنه لم يُفرِّق بين الجريح العاجز عن القتال والجريح غير العاجز عن القتال.

في الاسلام يعامل المسلمون جرحى العدو ومرضاة وعجزته من نساء وأطفال وشيوخ هرمى، معاملة كريمة تتفق مع أصول الإسلام الداعية إلى الرفق والرحمة بالناس، بل والاحسان، حتى ولو عامل الاعداء جرحى المسلمين ومرضاهم وعجزتهم معاملة غير كريمة، لقوله تعالى (وما ارسلناك إلا رحمة للعاملين).

وهذا يقتضي أن يعالج المرضى والجرحى بما يحتاجون إليه من الدواء والعمل الجراحي، ولا يجوز شرعا قتلهم أو الاجهاز عليهم. وقد التزم القادة المسلمون هذا المنهج في حروبهم. قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "أَلا، لا يُجْهَزَنَّ عَلَى جَرِيحٍ، وَلا يُتْبَعَنَّ مُدْبِرٌ، وَلا يُقْتَلَنَّ أَسِيرٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ).

وأوجب الاسلام تقدم الاسعافات الضرورية اللازمة لهؤلاء الجرحى وامثالهم منعا من التعذيب والاساءة التي لا فائدة منها، وإنما على العكس؛ قد يكون الإحسان في هذه الاحوال سببا في منع أي ضرر أو اذى أو استمرار في العودة إلى القتال، والامعان في القتل والقصف، والاندفاع بدافع الحقد والبغضاء وحب الثأر إلى مزيد من الاعمال العدوانية، فالناس مخلوقات الله تعالى، وحفظ حق الحياة مطلب شرعي يتفق مع مراد الله في بقاء النوع الانساني بأشكاله وأطيافه وتعدد اجناسه والوانه. كما يوجب الاسلام وقف القتال لإعانة الجرحى الموجودين في ميدان القتال ونقلهم إلى المشافي.

إذا كانت القوانين الدولية والوطنية والشريعة الاسلامية تنصان صراحة على وجوب رعاية جرحى العدو ومداواته والاهتمام بهم لحين عودتهم إلى بلادهم، فإن أمر مداوة جرحى الدولة المحاربة من المقاتلين والمدنيين ومعالجتهم وتضميد جروحهم والعناية بهم، أمر بديهي ومفروغ منه، سواء كانت المداواة في أرض الحرب أم بردهم وإرسالهم إلى مناطق سكناهم حيث أسرهم.

ولعل الواجب الأول للدولة إزاء جرحاها من المقاتلين وغير المقاتلين -بعد الإسعافات الأولية- هو "الإخلاء الطبي" ويُستخدم هذا المصطلح عادة للتعبير عن جميع الوسائل المستخدمة في الحالات الطارئة لنقل الجرحى أو المصابين، والمجهزة بكافة المعدات الطبية اللازمة كالطائرات المروحية وسيارات الإسعاف والتي تسمح بالنقل السريع للأشخاص ذوي الاصابات البالغة من مكان الاصابة لأقرب مستشفى. كما تُستخدم طائرات الاخلاء الخاصة لعمليات النقل الجوي للأشخاص ذوي الاصابات الحرجة، وخاصةً من المناطق التي تفتقر للخدمات الطبيّة المتخصصة.

والواجب الثاني الذي يقع على الدولة إزاء جرحاها أيضا هو الاستمرار بتقديم الخدمات التي يحتاجها الجرحى ما بعد المستشفى، والتي تُعرف بـ (خدمات ما بعد المستشفى) لا سيما للأشخاص الجرحى الذين فقدوا جزء من أجسادهم، ولا يستطيعون ممارسة حياتهم الطبيعة إلا بدعم ومساندة الآخرين. وهم الأشخاص الذين نصطلح عليها بـ (معوقي الحرب) وهم جزء مهم من (الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة).

يواجه الجريح-عند خروجه من المستشفى-صعوبة بالغة في الأيام اللاحق، لاستكمال علاجه من جهة، والقدرة على التواصل والاندماج مع مجتمعه من جهة ثانية. فهو يتحمل تكاليف المراجعات المستمرة للمستشفيات والمراكز الصحية لتجديد إجازاته المرضية وبقائه لساعات طويلة في الانتظار، ويتحمل تكاليف شراء الأدوية والتضميد المستمر، وتكاليف إجراء عمليات جراحية وتكميلية (تجميلية) مع أن أغلب العسكريين والمقاتلين تعتمد معيشتهم بشكل أساسي على المرتب الشهري، وتشكل نفقات العلاج وأجور النقل وغيرها عبأ إضافيا ثقيلا عليهم، مما انتهت الحالة بأغلبيهم إلى ملازمة الفراش.

نخلص مما تقدم:

• يتمتع جرحى الحرب والنزاعات المسلحة بحق الحماية والرعاية، فقد أكد الإعلان الخاص بحقوق المعوقين مجدداً على الحماية الدولية للحق في التمتع بمستوى مناسب من الصحة، كما أقر بحق المعوقين في التمتع بالرعاية الخاصة التي يحتجون إليها؛ إذ ينص هذا الإعلان على: "للمعوق الحق في العلاج الطبي والنفسي والوظيفي بما في ذلك الأعضاء الصناعية وأجهزة التقويم، وفي التأهيل الطبي والاجتماعي، وفي التعليم، وفي التدريب والتأهيل المهنيين، وفي المساعدة، والمشورة، وفي خدمات التوظيف وغيرها من الخدمات التي تمكنه من إنماء قدراته ومهاراته إلى أقصى الحدود، وتعجل بعملية إدماجه أو إعادة إدماجه في المجتمع."

• الدولة والمجتمع معا يتحملان مسؤوليتيهما إزاء جرحى الحرب من العسكريين والمدنيين، في اثناء الحرب أو بعدها؛ لان العسكريين إنما تطوعوا نيابة عن المجتمع في الدفاع عن الشعب والأرض والممتلكات. ولان المدنيين إنما وقعوا كضحايا لتلك الحروب والنزاعات، وقد دفعوا لقاء تلك القرارات والسياسات الخاطئة أرواحهم وجزء من أجسادهم. وفي كل الأحوال فان حقهما على الدولة المجتمع الحماية والرعاية المستديمة، ليس لهما فقط، بل لأسرتهما؛ لان الاسرة بسب الإصابة والجرح فقدت معيلها.

• يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته في إزالة الألغام في مناطق النزاعات المسلحة لأغراض إنسانية، وما يزال كثير من الأشخاص -ممن نجوا من حوادث ألغام أرضية وأسرهم ومجتمعات محلية تضررت من الألغام-يواجهون صعوبات في الحصول على الخدمات التي يحتاجونها. لذا هناك ضرورة لبذل مزيد من الجهد لتحسين وتعزيز فرص حصولهم على تلك الخدمات. ولا يزال معدل إزالة الألغام بطيئًا، الأمر الذي يمثل قضية رئيسية بالنسبة للسكان الذين يعيشون في مناطق متضررة من الألغام الأرضية.... وهو أمر له تأثير كارثي لا يقتصر على المعاناة البدنية والنفسية فحسب بل يمتد ليشمل الكلفة الاقتصادية والاجتماعية.

.....................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2017

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com

اضف تعليق