منطقة الشرق الأوسط بقيت الموضوع المحبذ لمشاريع تحريك الحدود وصناعة المصائر ومنذ اتفاقية سايكس بيكو تبين أن هنالك حاجة ما لإحداث تغيير في المفاهيم على وجه الأرض، فمنذ إطلاق عبارة الشرق الأوسط الجديد من قبل الإدارة الأمريكية عملت على عزل دولا إقليمية سياسيا واقتصاديا عن المنطقة، الأمر الذي اعلنته وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس (2005 – 2009) صراحة للعمل على فكرة إعادة ترتيب المنطقة وترسيخ عبارة الشرق الأوسط الجديد في فكر الإعلام الغربي.
وكان لحديث رايس في يونيو من عام 2006 عن شرق أوسط جديد يفهم منه التركيز على محاولة إعادة صياغة التحالفات الإقليمية بما يعنيه ذلك من تحالفات تكتيكية مع أطراف عربية ربما كانت نظمها السياسية بعيدة عن الطابع الديمقراطي التي بشرت بها أو الذي بشرت به الإدارة الأميركية طويلا، فعملت الأخيرة على تحويل طبائع النظم العربية الحاكمة من نظم سلطوية ونظم دكتاتورية إلى نظم قالت عنها أنها تريدها أن تكون نظم ديمقراطية.
وبعد تجارب العراق وأفغانستان وسوريا وما طرأت عليها من الحروب والمعارك والاقتتال الطائفي، أثبتت الفشل الواضح والصريح للمشروع الأميركي المتعلق بنشر الديمقراطية، وهذا الفشل جاء كفرصة إستراتيجية للخروج من مأزق الحديث عن الديمقراطية، لذلك تخلت الولايات المتحدة (2014 – 2016) تماماً عن هذا الأمر وعادت إلى مسألة التحالفات الإقليمية سواء مع نظم ديمقراطية أو نظم غير ديمقراطية، ومعيار الفرز هنا هو أولا القرب أو البعد عن المصالح الإستراتيجية الأميركية وثانياً محاولة عزل إيران في منطقة الشرق الأوسط وعزل السعودية سياسيا واقتصاديا، وهذا ما يعني الفرصة الإستراتيجية للإدارة الأمريكية بتطبيق مشروعها الذي بدأته منذ عام 2006.
إجماع دولي لرفض داعمي الإرهاب
لم يتردد مؤتمر غروزني الذي اقيم في عاصمة الشيشان في الجمهورية الروسية (25 – 27) أغسطس/ آب 2016، عن وصف الوهابية بأنها أصل مشاكل الإسلام السياسي في الوقت الراهن التي عملت على تشويه صورة الديانة الاسلامية الحقة، والذي يهدف من خلاله الى عزل الوهابية والسلفية دينيا، وبالتالي البدأ بعزل السعودية سياسيا في منطقة الشرق الأوسط، بسبب الدور الذي تلعبه الاخيرة في دعم السلفيين في حرب أفغانستان إبان الثمانينات وكذلك دورها في حرب الشيشان خلال التسعينات وايضا دورها في دعم التكفيريين في حرب العراق وسوريا واليمن وليبيا وافريقيا خلال السنوات الاخيرة المنصرمة.
وتعتبر عملية العزل السعودي اقليميا غاية في السهولة من الناحية المعنوية حاليا، فقد فقدت السعودية حليفها التقليدي والكلاسيكي الولايات المتحدة، حيث بدأ الخلاف يدب بين الطرفين حول مستقبل الشرق الأوسط ثم ظهور أولويات جديدة للبيت الأبيض. كما لم تنجح السعودية حتى الآن في ربح ثقة دولة كبرى مثل روسيا أو تزعم تحالف إقليمي متين مكون من تركيا ومصر، وتكتفي حتى الآن بالحصول على دعم فرنسي، وهذه الأخيرة التي تسعى الى موقع جديد في الشرق الأوسط وتوقيع صفقات أسلحة كبيرة للترويج لصناعتها الحربية وقد حققت صفقات لم تكن تحلم بها في الماضي.
من جانب آخر حمّل الكثير من المثقفين إفشال الربيع العربي في الشرق الاوسط بسبب تأييد السعودية لعودة الانظمة الدكتاتورية وتأييدها للسلفيين التكفيريين، الامر الذي زاد العالم الاسلامي مشاكلا اخرى لتزعم السعودية للأنظمة الملكية كعاصفة الحزم للحرب ضد دولة فقيرة مثل اليمن بسبب بعدها الطائفي، وهو ماجعل قادة العالم المتأسلمين الشرقيين في ظروف حرجة امام العالم الغربي وتحالفاتهم الاقليمية.
ايران في مرمى الهدف العالمي
ان الخلافات بين واشنطن وطهران حول الملف النووي لم يترك من تشديد الرئيس الأمريكي المنتهية فترة رئاسته باراك أوباما، على العمل بعزل إيران عن الساحة الدولية اولا واقليميا ثانيا كما جاء ذلك في خطابه في 23 نوفمبر من عام 2014.
ويرى اوباما أن هناك مشاكل مع طهران تتعلق بالدعم الإيراني للأنشطة الأرهابية في المنطقة والموقف من إسرائيل.
من جانب آخر يتطلع مجلس التعاون الخليجي إلى أن تحترم إيران سيادة واستقلال الدول وحسن الجوار، مشددًا على أن عدم التزامها بذلك سيحتم على المجلس بالدفع نحو استخدام الآلية المقترحة من زيادة عزلة إيران إقليميًا ودوليًا.
السعودية وإيران والمواجهة المؤجلة
تتوسع المواجهة بين السعودية مع ايران إلى أبعد من الشرق الأوسط، فلم يعد يعتمد اعتمادا كبيرا على الحلفاء الغربيين لتحجيم طموحات طهران خارج العالم العربي.
فمنذ وصول الملك سلمان للسلطة مطلع عام 2015، وتوصلت طهران لصفقة نووية مع القوى العالمية، عدلت الرياض استراتيجيتها لمواجهة جهود منافسها الشيعي في بناء نفوذ في افريقيا وآسيا وحتى أمريكا اللاتينية.
من جانبه قال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في تصريحات صحفية: "إيران عزلت نفسها عن طريق دعمها للإرهاب.. وهذا هو السبب في أن العالم عزل ايران، وبخاصة في العالم الإسلامي".
ونفت طهران أنها ترعى الإرهاب، وتشير إلى سجلها في قتال المتشددين الإسلاميين السنة من الدولة الإسلامية من خلال دعم تسليح الشيعة في العراق، والرئيس السوري بشار الأسد في سوريا.
ومما يثير انزعاج الرياض دعم طهران لحزب الله الشيعي في لبنان، مما دفعها لقطع المساعدات العسكرية للحكومة اللبنانية بعد رفضها إدانة الهجمات على البعثات الدبلوماسية السعودية في ايران. وبالمثل، شنت القوات السعودية الحرب على الحوثيين المدعومين من ايران في اليمن.
الادارة الامريكية تسعى لتطبيق مشروعها
نشرت مؤسسة كارنيغي الأميركية للسلام في واشنطن، تقريرا في 25 نوفمبر 2015 اشارت فيه الى ان هناك أربع ملامح رئيسية لتطبيق مشروع الادارة الامريكية الذي تحدثت عنه رايس في 2006، الأول إعادة صياغة خريطة التحالفات الإقليمية بإبعاد أو بعزل النظم المعادية والحركات المعادية، (والحديث هنا عن المحور الرئيسي الإيراني السوري بامتداده بصور مختلفة مع حزب الله ومع حركة المقاومة في فلسطين)، القضية الثانية هي إعادة (فيما يتعلق بالداخل اللبناني) إعادة صياغة المعادلة السياسية اللبنانية بإخراج سلاح حزب الله منها ولكن أيضا ربما محاولة إخراج حزب الله كطرف سياسي من هذه المعادلة، المسألة الثالثة الحديث الأميركي عن تحالفات إقليمية تكتيكية وتحالفات دولية تساند هذا التحول و(الحديث هنا في الأطراف العربية تحديدا عن السعودية وايران ودوليا عن عدد من الأطراف الأوروبية)، أخيراً الولايات المتحدة تحاول بذلك أن تصل إلى نتيجة رئيسية وهي عزل النظام السوري ومن خلال عزل النظام السوري الضغط على إيران في مساومتها الكبرى مع إيران، علينا أن لا ننسى الاختلاف التكتيكي بين الحالتين الحالة السورية والحالة الإيرانية، لإيران أوراق إستراتيجية كثيرة من العراق الى الملف النووي إلى حزب الله في لبنان ولكن الولايات المتحدة الأميركية تسعى للضغط عليها من اجل الوصول الى تطبيق مشروعها بعزل النظام الإيراني عن المنطقة.
تغيير خارطة الشرق الاوسط
أعطى الخبير العسكري الاستراتيجي الأمريكي، رالف بيترس في شهر يونيو 2006 خارطة تغيير الشرق الأوسط الحدودية التي يرى أنها عادلة في مقالة بعنوان "الحدود الدموية.. كيف يمكن رؤية الشرق الأوسط بشكل أفضل" نُشرت في العدد السادس من المجلة العسكرية الأمريكية (Armed Forces Journal) تضمنت خريطة جديدة للمنطقة ومفصلة على أساس عرقي ومذهبي.
واوضح رالف، على ضوء هذه القاعدة تفترض خريطة الشرق الأوسط الجديد في خطوطها العريضة، أولا تجاوز التقاليد السياسية والمحرمات السابقة عبر إقامة دولة كردية تُقتطع لها مناطق شمال العراق وجنوب شرق تركيا وأجزاء من سوريا وإيران.
ثانيا تقسيم ما تبقى من العراق إلى دولتين شيعية وسنية. ويضاف إلى الدولة الشيعية مناطق من غرب إيران ومن شرق السعودية التي بدورها تقتطع منها المناطق الغربية المحاذية للبحر الأحمر والتي تضم الأماكن المقدسة في مكة والمدينة في دولة مستقلة تكون شبيهة بالفاتيكان.
بالإضافة إلى ذلك يتم ضم جزء من مناطق السعودية الشمالية الغربية إلى الأردن. كل ذلك يتم الدعاية له وتسويقه عبر محاولة دفع إسرائيل إلى العودة إلى حدود ما قبل 1967 مع إدخال تعديلات حدودية تنسجم مع مخاوفها الأمنية بحسب مشروع رالف بيترس.
الخلاصة
يمكن القول إن الإستراتيجية الغربية تجاه العالم الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه.
وقد غُرست إسرائيل في قلب هذه المنطقة لتحقيق هذا الهدف. فعالم عربي يتسم بقدر من الترابط وبشكل من أشكال الوحدة يعني أنه سيشكل ثقلا إستراتيجيا واقتصاديا وعسكريا، ويشكل عائقا أمام الأطماع الاستعمارية الغربية.
رغم أن الكثيرين لا يصدقون في قدرة الولايات المتحدة إعادة تقسيم الشرق الأوسط، ناهيك عمن يعتقد أن هذا المشروع مجرد ضجة إعلامية مبالغ فيها، إلا أن المشروع بدأ يتجسد بالفعل لتبرز ملامحه تدريجيا على أرض الواقع. ربما الاختلاف الوحيد الذي طرأ هو أن المشروع بدأ بخطوات حثيثة من العراق وليس من لبنان كما أعلنت كونداليزا رايس عام 2006.
وفي المحصلة، أولئك الذين لا يرغبون في فهم ما يجري في المنطقة، تناسوا أن الحدود لم تكن أبدا ثابتة، وأن إحداث تغيرات فيها ليس أمرا مستحيلا، خاصة أن منطقة الشرق الأوسط تعاني من هشاشة لا مثيل لها، وإعادة رسم حدودها لا تحتاج إلا إلى وقت لتسريع إنضاجها، والقادم للأسف، إذا لم يتغير الحال، سيكون أشد وأمر.
اضف تعليق