الانقلاب التركي الذي استمر لساعات يوم الجمعة 15 تموز 2016 لا تزال موجاته الارتدادية تضرب في تركيا موقعة المزيد من المواطنين في السجون واخرين اسقطت عنهم جوازات سفرهم فضلا عن سحب تراخيص التعليم من الاف الموظفين في القطاع التعليمي واقالة العشرات من عمداء الجامعات.
هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية الناجية من زلزال الانقلاب العسكري الفاشل واجهت ردود أفعال دولية مختلفة، الا ان الأهم على ما يبدو هي وجهة النظر الاوربية والأمريكية التي رفضت هذه الإجراءات محذرة في الوقت نفسه من أفعال انتقامية قد تؤدي الى نتائج عكسية تاثر بشكل سلبي على مستقبل البلاد خاصة مع إمكانية إعادة تطبيق حكومة الإعدام.
وكالة رويترز قالت في تقرير لها ان الرئيس التركي طيب إردوغان انتصر على أعدائه واستعاد قبضته سريعا على السلطة بعدما كان مصيره على المحك عندما حاول جنود متمردون الإطاحة به. غير أن الانقلاب العسكري الفاشل يزيد من حالة الاستقطاب في بلد مضطرب بالفعل.
ولم تنته بعد الاضطرابات التي أعقبت محاولة الانقلاب ليل الجمعة منتصف شهر تموز. فقد أصابت تلك المحاولة البلد بالصدمة وألحقت ضررا يتعذر علاجه بالجيش الذي ينظر إليه بوصفه حجر الزاوية للاستقرار في بلد يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية وتمردا كرديا.
وتنقل رويترز عن هيو بوب ونيجار جوكسيل من مجموعة الأزمات الدولية يقولان "في النهاية.. انتصر إردوغان وأنصاره (لكن) لا أحد في تركيا انتصر على المدى البعيد." وتوقعا أن يكون "الضرر الذي يصيب الجيش- وهو الأكبر على الإطلاق في ضوء الاضطرابات في الجوار التركي- جسيما."
وفجرت محاولة الانقلاب التي قامت بها مجموعة في الجيش مشاعر قومية وإسلامية دعما لإردوغان وهو ما شجع الحكومة على إطلاق حملة صارمة. وجرى تطهير الجيش والمحاكم والجامعات والأجهزة المدنية من آلاف المعارضين. ويتهم إردوغان وحزب العدالة والتنمية- ذو الجذور الضاربة في الإسلام السياسي- رجل الدين التركي فتح الله كولن حليف إردوغان السابق الذي تحول إلى خصم شديد له بتدبير المؤامرة وطالبا الولايات المتحدة بتسليمه. وقال متحدث باسم الرئيس التركي إنه يجري إعداد طلب رسمي بهذا الشأن.
وجرى اعتقال أو وقف نحو 35 ألف شخص عن العمل في الجيش والشرطة والقضاء والمؤسسات الحكومية للاشتباه في صلتهم بكولن بعد الانقلاب الفاشل الذي قتل فيه أكثر من 230 شخصا.
واتسعت عمليات التطهير لتشمل قطاع التعليم حيث ذكر تلفزيون (تي.آر.تي) الرسمي أن أوامر صدرت إلى جميع عمداء الجامعات بالاستقالة كما تم إلغاء تراخيص 21 ألف معلم بالمدارس الخاصة. ولطالما وفرت المدارس الخاصة في تركيا وخارجها المزيد من الأعضاء والتمويل لحركة كولن. كما أصيب قرابة 1400 شخص عندما استخدم الجنود الدبابات والطائرات الهليكوبتر والطائرات الحربية في محاولتهم لانتزاع السلطة حيث قصفوا البرلمان ومقر المخابرات وحاولوا السيطرة على المطار الرئيسي وجسور في اسطنبول.
استغلال الانقلاب
وقال هاكان ألتيناي من معهد بروكنجز في واشنطن "هذه صدمة ومثل أي صدمة أخرى ستضفي صبغتها على كل ما يأتي بعدها... إنها بالتأكيد تساعد إردوغان .. الذي كان يتحدث منذ فترة طويلة عن مؤامرات كولن الشريرة.. والآن ثمة مؤامرة ربما أكثر شرا مما كان في اعتقاده."
وقال ألتيناي "إنني واثق من أنهم سيستغلون هذا الحادث لتصفية آخرين غير مرغوب فيهم أيضا. ما حدث خطير للغاية لدرجة أنهم ليسوا بحاجة لمزيد من الوقود .. الفعل نفسه محفز بما فيه الكفاية."
وتثير سرعة وحجم الحملة الصارمة فضلا عن دعوات لإعادة العمل بعقوبة الإعدام بحق المتآمرين القلق بين الحلفاء الغربيين الذين يطالبون أنقرة بالحفاظ على سيادة القانون في بلد عضو في حلف شمال الأطلسي ومرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي وهو أقوى حليف مسلم لواشنطن. ويقول محللون إن من المستبعد أن تصغي السلطات لمثل تلك النداءات. وسبب الانقلاب الفاشل هزة في قلب القيادة وكاد يقضي على إردوغان وشخصيات بارزة أخرى.
يقول بعض المحللين الأتراك إن إردوغان- الذي قال إنه نجا بأعجوبة من الاغتيال على يد المتمردين- يستغل التمرد كذريعة لتوسيع وتعزيز سلطاته. ويضيفون أن الانقلاب الفاشل أمد الرئيس التركي بالذخيرة اللازمة للتخلص من العقبات المتبقية في طريق مساعيه لتغيير الديمقراطية البرلمانية في البلاد ليحل محلها نظام رئاسي وهي خطوة تتطلب تغيير الدستور ويعتبرها معارضوه طريقا إلى مزيد من الاستبداد.
وبحسب تقرير رويترز قال معارض للحكومة طلب عدم الكشف عن اسمه خشية اعتقاله "بوسعه أن يصبح الرئيس الذي كان يحلم به.. لكن الدولة خارج السيطرة في الوقت الحالي." وأضاف "لا توجد قوانين فعالة لتهدئة الأوضاع. هذه شبكة مغلقة يتراكم فيها الضغط طوال الوقت... لقد دخلنا في هاوية."
وينفي مساعدون لإردوغان تلك المزاعم. اذ قال المتحدث باسمه إبراهيم كالين إن بضعة آلاف من الجنود نفذوا محاولة الانقلاب وإنه "من الطبيعي فحسب" أن تطبق تركيا مبدأ سيادة القانون لاعتقال المشتبه بهم بتهم الخيانة. وقال للصحفيين في اسطنبول "لا يوجد شيء استثنائي أو مفاجئ بخصوص حقيقة اعتقال عدة آلاف من الأشخاص."
ووصف إردوغان الانقلاب بأنه "هدية من الله" تمكنه من "تطهير الجيش". وشملت عمليات التطهير الواسعة المحكمة الدستورية التي يعتبرها منتقدو إردوغان المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تملك القدرة على التصدي لتآكل سيادة القانون.
وقال مصطفى أكيول وهو كاتب عمود ومؤلف كتاب (الإسلام دون تطرف: قضية إسلامية من أجل الحرية) إن "هذا الانقلاب يغير كل شيء. البلد يمر بأجواء متوترة للغاية. شراسة الحملة مصدر قلق شديد." وأضاف قوله "يوجد اضطراب شديد في الجيش وأجهزة الأمن وسيتم التخلص من كثير من الضباط. كيف سيبدلونهم وكيف سيدربونهم أمر يمثل مشكلة كبيرة... إنها أزمة كبيرة جدا."
تكرار العداء مع الصحافة
اربعون صحافيا هم الضحايا الجدد لعمليات التطهير الشاملة التي بدأها الرئيس رجب طيب اردوغان الذي استقبل زعماء المعارضة للبحث في تداعيات الانقلاب الفاشل في الخامس عشر من تموز/يوليو. إذ اصدر القضاء التركي مذكرات توقيف بحق 42 صحافيا بينهم نازلي ايليجاك المعروفة في تركيا، بعد ساعات على توقيف 40 عسكريا في اسطنبول رهن التحقيق، في اطار حملة الملاحقات التي اعقبت الانقلاب الفاشل.
ومن بين الصحافيين ال 42، كان ستة قد اعتقلوا، وغادر 11 البلاد، كما اكدت الاثنين وكالة دوغان للانباء. وتبحث الشرطة في منتجع بودروم البحري (غرب) عن نازلي ايليجاك، ابرز الوجوه الاعلامية في تركيا.
وكانت نازلي ايليجاك عزلت من صحيفة "صباح" القريبة من الحكومة في 2013 لانها انتقدت وزراء ضالعين في فضيحة فساد. فيما وجه الرئيس التركي تحذيرا الى وسائل الاعلام في مقابلة مع تلفزيون فرانس 24 عندما قال "ان وسائل الاعلام التي دعمت الانقلاب اكانت مرئية ام غير مرئية، ستدفع الثمن".
وكانت الهيئة الناظمة لوسائل الاعلام المرئية والمسموعة سحبت في التاسع عشر من تموز/يونيو رخص عمل العديد من قنوات التلفزيون والاذاعات التي يشتبه بدعمها لشبكة الداعية غولن.
من جانب اخر السلطات التركية ألغت عشرة آلاف و856 جواز سفر تعود إلى موظفين موقوفين أو يخشى فرارهم من البلاد تابعين للأجهزة الأمنية، في إطار عملية اعتقالات واسعة النطاق شملت أجهزة الاستخبارات المعروفة بقوتها على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة.
تعذيب المعتقلين
منظمة العفو الدولية اكدت ان لديها "ادلة ذات مصداقية" على تعرض اشخاص احتجزوا في حملة الاعتقالات التي اعقبت المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في 15 تموز/يوليو، الى سوء المعاملة والتعذيب.
وقالت المنظمة في بيان انها "تملك معلومات ذات مصداقية مفادها ان الشرطة التركية في انقرة واسطنبول تحتجز معتقلين في ظروف مؤلمة لفترات يمكن ان تصل الى 48 ساعة"، مشيرة خصوصا الى حرمانهم من الطعام والمياه والدواء، اضافة الى توجيه تهديدات وشتائم اليهم و"في الحالات الاكثر خطورة" تعرضهم للضرب والتعذيب والاغتصاب.
وقال مدير المنظمة في اوروبا جون دالويسن كما نقل عنه البيان ان "المعلومات التي تتحدث عن تعرض معتقلين للضرب والاغتصاب مقلقة للغاية وخصوصا بالنظر الى عدد المعتقلين" الذين تم احصاؤهم منذ محاولة الانقلاب. واضاف "من واجب السلطات التركية ان تكف عن هذه الممارسات المشينة". واوضحت المنظمة ان بعض المعتقلين لم يسمح لهم بتوكيل محامين او مقابلة اسرهم وليس لديهم معلومات كافية عن التهم الموجهة اليهم.
كذلك، نقل محامون في انقرة عن معتقلين ان ضباطا في الجيش "تعرضوا للاغتصاب بواسطة هراوات" للشرطة. وبناء عليه، حضت المنظمة اللجنة الاوروبية للحماية من التعذيب على التوجه "في شكل عاجل" الى تركيا "لمراقبة ظروف الاعتقال". لكن مسؤولا تركيا نفى ما اعلنته منظمة العفو معتبرا ان "القول ان تركيا، وهي بلد يسعى للانضمام الى الاتحاد الاوروبي، لا تحترم القانون هو امر عبثي". واضاف المسؤول "ننفي في شكل قاطع هذه المزاعم ونشجع مجموعات الدفاع (عن حقوق الانسان) على اصدار تقارير محايدة".
اصلاح الجيش
الجيش الذي قاد المحاولة الانقلابية ضد اردوغان اصبح ضمن دائرة الغضب الاردوغاني، حيث تعهد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بإعادة هيكلة الجيش ردا على محاولة الانقلاب الفاشلة في علامة على أن حالة الطوارئ المفروضة حديثا ستستغل للمضي قدما في حملة تطهير أقلقت الغرب.
وقال إردوغان إن المجلس العسكري الأعلى التابع للحكومة سيشرف على إعادة هيكلة القوات المسلحة. ويرأس المجلس رئيس الوزراء ويضم وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان. وأضاف قائلا "هم جميعا يعملون معا بخصوص ما يمكن عمله... وفي غضون فترة زمنية قصيرة جدا سينبثق هيكل جديد. ومع هذا الهيكل الجديد أعتقد أن القوات المسلحة ستضخ فيها دماء جديدة."
وقال في مقابلة مع رويترز التي أجريت في القصر الرئاسي في أنقرة الذي استهدف اثناء محاولة الانقلاب "من الواضح تماما أنه كانت هناك فجوات وأوجه قصور كبيرة في مخابراتنا.. لا جدوى من محاولة إخفاء ذلك أو إنكاره."
وأضاف أنه لا توجد عقبات أمام مد حالة الطوارئ بعد الأشهر الثلاثة الأولى إذا اقتضت الضرورة - وهو تعليق سيثير على الأرجح قلق المنتقدين الذين يخشون بالفعل من وتيرة الإجراءات الصارمة التي يتخذها. وستسمح حالة الطوارئ لحكومته باتخاذ إجراءات سريعة وفعالة ضد مؤيدي الانقلاب. كما ستسمح لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء بتجاوز البرلمان لسن قوانين جديدة وتقييد أو تعليق الحقوق والحريات عند الضرورة.
وفي أول ظهور له بالبرلمان منذ الانقلاب قال إردوغان إن السلطات ستحافظ على الانضباط المالي مضيفا "أدعو المستثمرين إلى مواصلة الاستثمار لأن الجماهير ستمضي بالمشروعات الكبرى إلى الأمام."
وزاد احتمال إعادة تركيا العمل بعقوبة الإعدام لتطبق على مدبري الانقلاب الفاشل من توتر علاقات أنقرة بالاتحاد الأوروبي الذي تسعى للانضمام إليه. وألغت تركيا تلك العقوبة في 2004 في إطار محاولاتها الانضمام للتكتل وقال مسؤولون أوروبيون إن التراجع بشأن عقوبة الإعدام سيضع فعليا نهاية لعملية الانضمام. لكن الحشود في التجمعات طالبت بإعدام مدبري الانقلاب وتقول الحكومة إنه يتعين على الأقل دراسة الأمر.
وفي علامة على رفض تركيا الانتقاد الخارجي لكيفية تعاملها مع محاولة الانقلاب قال وزير العدل التركي بكير بوزداج إن بلاده لن ترضخ لضغوط من الاتحاد الأوروبي كي تستبعد إعادة العمل بعقوبة الإعدام لتطبق على المتآمرين.
ودعمت الدول الغربية الحكومة التركية خلال الانقلاب الفاشل الأسبوع الماضي لكنها يساورها قلق متنام بشأن حملة أنقرة التي تلته على الآلاف من قوات الأمن والقضاء والجهاز الحكومي والسلك الأكاديمي.
ألمانيا من جانبها دعت إلى إنهاء ذلك الإجراء في أسرع وقت ممكن. وحذرت مجموعة محامين دوليين تركيا من استخدام حالة الطوارئ للتعدي على سيادة القانون وحقوق الإنسان مشيرة إلى مزاعم تعذيب وإساءة معاملة لمن احتجزوا بعد الاعتقالات الجماعية.
مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني قالت إن رد الفعل على الانقلاب يجب ألا يقوض الحقوق الأساسية.
وفيما يتعلق باعتقال وفصل القضاة والأكاديميين والصحفيين أضافت موجيريني "ما نراه في مجالات التعليم والقضاء والإعلام على وجه الخصوص غير مقبول."
وقال وزير العدل التركي بكير بوزداج لمحطة تلفزيون (سي.إن.إن ترك) "الناس يطالبون بعقوبة الإعدام وسيقيم هذا المطلب بكل تأكيد. علينا أن نقيم هذا المطلب من منظور قانوني وليس وفقا لما يقوله الاتحاد الأوروبي."
الحكومات الغربية تشعر بالقلق إزاء عدم الاستقرار وحقوق الإنسان في البلد الذي يسكنه 80 مليون نسمة ويلعب دورا مهما في الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش وفي جهود الاتحاد الأوروبي لوقف تدفق اللاجئين من سوريا.
ويتهم إردوغان رجل الدين فتح الله كولن المقيم في الولايات المتحدة بتدبير محاولة الانقلاب التي انهارت في وقت مبكر يوم السبت. وفي حملة على من يشتبه بأنهم أتباع كولن أوقف أكثر من 60 ألفا من جنود الجيش والشرطة والقضاة والموظفين الحكوميين والمعلمين عن العمل أو احتجزوا أو خضعوا لتحقيقات. وفي مقابلة مع رويترز في وقت متأخر من مساء الخميس شبه الرئيس التركي حركة كولن بالسرطان وقال إنه سيعيد هيكلة الجيش وسيضخ فيه "دماء جديدة".
كولن الذي يعيش في منفاه الاختياري في الولايات المتحدة منذ سنوات ينفي أي دور له في محاولة الانقلاب متهما إردوغان نفسه بتدبيرها. وتريد تركيا أن تسلمها الولايات المتحدة كولن. وتقول واشنطن إن أنقرة عليها أن تقدم أولا أدلة واضحة على تورطه.
اضف تعليق