بين التهديدات وتصعيد اللهجة، تحرص تركيا على البقاء في قلب اللعبة الدولية بدون أن تخشى المساومة على أوراقها الرابحة واعتراضاتها حتى إذا وصل الأمر إلى حد إزعاج حلفائها. ومن الحرب في أوكرانيا والممرات البحرية إلى توسيع حلف شمال الأطلسي والتوغل في العراق وقريبا في سوريا، والتوتر...
بين التهديدات وتصعيد اللهجة، تحرص تركيا على البقاء في قلب اللعبة الدولية بدون أن تخشى المساومة على أوراقها الرابحة واعتراضاتها حتى إذا وصل الأمر إلى حد إزعاج حلفائها.
ومن الحرب في أوكرانيا والممرات البحرية إلى توسيع حلف شمال الأطلسي والتوغل في العراق وقريبا في سوريا، والتوتر مع اليونان المجاورة، تتواجد أنقرة في كل الملفات الاقليمية ما يفيد رئيسها رجب طيب ادروغان الذي يتولى السلطة منذ 2003 والمرشح لولاية جديدة السنة المقبلة في انتخابات تبدو نتائجها غير أكيدة.
من ملف الى آخر، يضرب يده على الطاولة مشددا في الوقت نفسه على أمن ومصالح بلاده.
صادرات الحبوب
تتيح سلسلة من المكاسب الدبلوماسية، تُوجت باتفاق لاستئناف صادرات الحبوب الأوكرانية، بعض الراحة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الاضطرابات الاقتصادية في بلاده وتقدم مخططا لاستراتيجية حملته للانتخابات المقرر إجراؤها العام المقبل.
فبينما يستعد لما يتشكل ليكون أكبر تحد انتخابي لحكمه المستمر منذ حوالي 20 عاما، يسلط أردوغان الضوء على إنجازاته على المسرح العالمي.
وقال أمام حشد يضم الآلاف في شمال غرب تركيا مطلع الأسبوع، بعد يوم من إجراء محادثات في روسيا مع الرئيس فلاديمير بوتين، "تركيا تمر بأقوى فترة لها سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا".
ويتناقض التقدم على الصعيد الدولي مع الصورة الاقتصادية القاتمة في الداخل، حيث يرتفع التضخم إلى 79 بالمئة وتقترب الليرة من أدنى مستوياتها القياسية التي سجلتها خلال أزمة العملة الأخيرة في ديسمبر كانون الأول.
ويندد المعارضون بسياسات أردوغان الاقتصادية غير التقليدية، بما في ذلك سلسلة من تخفيضات أسعار الفائدة على الرغم من ارتفاع التضخم وإقالة ثلاثة محافظين للبنك المركزي منذ عام 2019، مما جعل البلاد تعاني من عجز كبير في الحساب الجاري وتعتمد على التمويل الخارجي لدعم الاقتصاد.
وقال أردوغان إن ثمار السياسات الاقتصادية للحكومة، التي تعطي أولوية للصادرات والإنتاج والاستثمار، ستتضح أكثر في الربع الأول من عام 2023.
مكانة دولية
في غضون ذلك، يصور المسؤولون الحكوميون وكبار أعضاء حزبه الحاكم، حزب العدالة والتنمية، الرئيس على أنه رجل دولة يقف أمام منافسين في الانتخابات لا يقارنون معه فيما يتعلق بمكانته على الساحة الدولية.
يقول مسؤول تركي كبير "سواء أحببته أم لم تحبه فإن أردوغان زعيم"، مجادلا بأنه لا توجد شخصية دولية أخرى لديها نفس المستوى من الاتصال مع كبار اللاعبين العالميين.
وأضاف "لا يوجد زعيم في تركيا يمكن أن يحل محله".
وقد يؤدي اتفاق استئناف صادرات الحبوب من أوكرانيا، التي توقفت منذ الغزو الروسي في فبراير شباط، إلى تخفيف نقص الحبوب الذي ترك ملايين الأشخاص عرضة للجوع ودفع الأسعار العالمية للارتفاع.
وجاء الاتفاق بوساطة من الأمم المتحدة وتركيا، بعد أن حصل أردوغان على تنازلات من حلف شمال الأطلسي بشأن انضمام دول الشمال وبدء تقارب مع القوى المتنافسة في الشرق الأوسط.
كما حصل أردوغان على تعهد في يونيو حزيران من الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنه سيدعم بيع طائرات مقاتلة من طراز إف-16 إلى تركيا، بعد أن حرمت واشنطن أنقرة من شراء طائرات من طراز إف-35 الأكثر تطورا بسبب شرائها أسلحة روسية.
اختبار الانتخابات
يواجه أردوغان، المستمر في السلطة منذ فترة طويلة وأكثر شخصية سياسية مهيمنة منذ أن أسس مصطفى كمال أتاتورك تركيا الحديثة قبل نحو قرن من الزمان، انتخابات برلمانية ورئاسية يتعين إجراؤها بحلول يونيو حزيران 2023.
وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة متروبول للدراسات واستطلاعات الرأي الأسبوع الماضي ارتفاعا طفيفا في شعبية حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه إلى 33.8 بالمئة، وهي النسبة الأفضل لأي حزب بمفرده. لكنه يواجه تحالفا فضفاضا من أحزاب المعارضة، وتظهر استطلاعات الرأي تراجعه أمام مرشحي المعارضة للرئاسة.
وتتصدر مخاوف الناخبين حالة الاقتصاد، ووجود 3.6 مليون لاجئ سوري استقبلتهم تركيا في بداية الصراع في سوريا، لكن الأتراك ينظرون إليهم باعتبارهم منافسين لهم في الوظائف والخدمات.
وقال أردوغان توبراك، وهو نائب في البرلمان عن حزب الشعب الجمهوري المعارض والمستشار البارز لزعيم الحزب، كمال كليجدار أوغلو، "الحكومة تستخدم السياسة الخارجية كمواد للتغطية على الكارثة الاقتصادية التي جرّت البلاد لها، وتروي حكايات "الانتصار الدبلوماسي" في الداخل".
أضاف توبراك أنه حتى على الصعيد الدبلوماسي، فإن أردوغان يقدم تنازلات "تضر بكرامة بلادنا وتجرها إلى الضعف".
إصلاح العلاقات الإقليمية
يسعى أردوغان، الذي نجا من احتجاجات ضخمة مناهضة للحكومة في 2013 ومحاولة انقلاب في 2016، إلى إصلاح العلاقات المتوترة مع قوى أخرى في الشرق الأوسط، على أمل جذب الأموال الأجنبية التي تشتد الحاجة لها.
فقد انضمت الإمارات، خصم تركيا في الحرب الأهلية الليبية، إلى الصين وقطر وكوريا الجنوبية في اتفاقات تبادل عملات مع أنقرة بقيمة إجمالية 28 مليار دولار. وتأمل تركيا أيضا في إبرام اتفاق مع السعودية، كما اتخذت خطوات لتحسين العلاقات مع مصر وإسرائيل.
وقال مسؤول في حزب العدالة والتنمية "الناخبون يدركون فوائد الدبلوماسية. في بعض الأحيان سيشتكون من الاقتصاد أو اللاجئين، لكنهم سيصوتون لأردوغان من أجل استمرار تركيا الفعالة".
ومفتاح دبلوماسية أردوغان في الشرق الأوسط وما وراءه هو ما يسميه "تفاهمه المشترك، القائم على الثقة والاحترام المتبادلين" مع بوتين، وهي علاقة تثير قلقا متزايدا بين شركاء تركيا في حلف شمال الأطلسي منذ غزو روسيا لأوكرانيا.
وتقول روسيا إنها تشن "عملية عسكرية خاصة" لتخليص أوكرانيا من القوميين وحماية الناطقين بالروسية.
وتسعى تركيا إلى تحقيق توازن من خلال انتقاد الغزو الروسي وتزويد أوكرانيا بالسلاح، بينما ترفض الانضمام إلى الغرب في فرض عقوبات على روسيا، وهو موقف تقول إنه يساعد جهود الوساطة على تحقيق نتائج.
وقال أردوغان يوم السبت "من خلال تأمين فتح ممر الحبوب أكدنا مرة أخرى على دور تركيا الرئيسي في حل مشكلات عالمية".
التواجد على كل الجبهات الدبلوماسية
يقول يكتان ترك يلماظ الباحث في جامعة أوروبا الوسطى في فيينا إن اردوغان "يحاول تحويل (مسألة الحلف الأطلسي) الى فرصة دبلوماسية".
وأضاف "السويد وفنلندا تجدان نفسيهما مرغمتين على بحث مصادر +قلق+ تركيا. وهو ما يتوافق بالواقع مع الحق الذي تطالب به تركيا بوصف من تشاء ب+الإرهابي+".
ولهذه الطريقة لإثبات الوجود على الساحة الدولية أيضا غايات سياسية داخلية قبل سنة من الانتخابات الرئاسية المرتقبة في حزيران/يونيو 2023 كما يقول سونر كاغابتاي المتخصص بشؤون تركيا في معهد واشنطن.
وأوضح "بالطبع، تركيا لديها قلق مشروع بشأن حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب التركية وروابطهما بالسويد"، مشيرا إلى أنه "لكن حتى لو لم يفعل (السويديون) كل ما يطلبه (اردوغان) فسينتهي به الأمر باعلان انتصار أرغم الأوروبيين على الرضوخ".
وأضاف أن "صورته كرجل قوي ستظهر معززة في العالم أجمع وسيستفيد منها أيضا على الصعيد الوطني".
يشير المحللون الذين تحدثوا الى وكالة فرانس برس أيضا الى أمل تركيا بالاستفادة من ملف الحلف الأطلسي في مسالة مقاتلات اف-16 الأميركية، وهي الطائرات التي طلبتها ودفعت ثمنها جزئيا.
لكن واشنطن علقت العقد بعدما اشترت أنقرة نظام الدفاع الروسي أس-400.
التوتر الأخير مع اليونان الشريكة في حلف شمال الاطلسي لكن يتهمها اردوغان بالسعي الى عرقلة ملف أف-16 في واشنطن، يندرج أيضا ضمن الاستراتيجية التركية.
يقول سونر كاغابتاي "يرسل اردوغان إشارة إلى (جو) بايدن: لنتحدث عن طائراتي التي يعرقلها مجلس الشيوخ وسأكون مسرورا في رفع الفيتو في حلف شمال الأطلسي".
ويرى الخبير الجيوسياسي ديدييه بييون من معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس أن "موقفه مزعج بالتأكيد، لكن اعتراضاته غالبا ما يكون لها أساس"، موضحا أنه "بعد المساومات، يتم إيجاد تسوية في نهاية المطاف".
هل يمكن تجاوز الرئيس التركي الذي نجح حتى الآن في الحفاظ على العلاقات مع كييف التي تملك طائرات مسيرة تركية لكن بدون الابتعاد عن موسكو؟
تقول اليزابيت أونينيا من جامعة أمستردام "بفضل حيادها وحتى بدون إحراز تقدم لافت، تبقى تركيا الطرف الثالث الموثوق به للقيام بوساطة بين أوكرانيا وروسيا".
تركيا تعتمد اسمها التركي
اعتمدت تركيا اسمها التركي (Türkiye) في الأمم المتحدة بدلا من Turkey كما تسمى باللغة الانكليزية - أو اللغات الأجنبية الأخرى - بناء على رغبة الرئيس رجب طيب اردوغان، حسبما ذكرت المنظمة الدولية.
وقال ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لوكالة فرانس برس إن "التغيير فوري".
وأوضح الدبلوماسي أن رسالة رسمية تلقتها الأمم المتحدة في نيويورك من أنقرة جعلت تغيير الاسم رسميا.
وكان وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو ظهر في صور على حسابه على تويتر وهو يوقع الرسالة الموجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة وطالب "بتسجيل اسم بلدنا في الأمم المتحدة باللغات الأجنبية +Türkiye+".
وطلبت أنقرة عدم استخدام غير هذا الاسم لتركيا في كل اللغات الأجنبية مشيرة إلى أن مخالفة ذلك سيعتبر مؤشرا سلبيا.
وأشار رئيس الدبلوماسية التركية في تغريدة له إلى رغبة الرئيس أردوغان منذ نهاية 2021، في "تعزيز قيمة اسم بلادنا".
في الواقع وفي القطاع الاقتصادي، تسعى أنقرة منذ عدة سنوات إلى استخدام هذا الاسم في العلامة التجارية "صنع في تركيا" دوليا.
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الخميس عن مصطفى أكساكال أستاذ التاريخ في جامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة، قوله "قد يجد البعض أن تغيير هذا الاسم أمر سخيف، لكن ذلك يضع اردوغان في موقع حامي الاحترام الدولي للبلاد".
وتشير الصحيفة إلى أنه في حزيران/يونيو 2023 وبعد 20 عاما من حكم اردوغان، ستجري تركيا انتخابات رئاسية وستحتفل أيضًا بالذكرى المئوية لتأسيسها بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية.
اضف تعليق