الأمر أبعد من موجة عابرة، هو صراخ شعبٍ طحنته تروس الرأسمالية في معقلها. هي يقظة عمّال خدّرهم الحلم الأميركي، وحوّلهم عمالقة التكنولوجيا إلى أشباه بشر يقضون حاجاتهم في قوارير المياه أثناء عملهم، خوفاً من ذكاءٍ اصطناعي سيطردهم لحظة حصولهم على استراحة، وذلك كلّه، من أجل مراكمة ثروات حملة الأسهم...
الأمر أبعد من موجة عابرة، هو صراخ شعبٍ طحنته تروس الرأسمالية في معقلها. هي يقظة عمّال خدّرهم الحلم الأميركي، وحوّلهم عمالقة التكنولوجيا إلى أشباه بشر يقضون حاجاتهم في قوارير المياه أثناء عملهم، خوفاً من ذكاءٍ اصطناعي سيطردهم لحظة حصولهم على استراحة، وذلك كلّه، من أجل مراكمة ثروات حملة الأسهم، وتحت شعار اللحاق بالصين... فمنذ انتهاء إجراءات الإغلاق والحجر في أميركا، سادت رغبة واسعة لدى عمال أميركا في التكتّل النقابي. جاءت البداية أثناء فترة الإغلاق والحجر مع موجة «الاستقالات العظمى».
في تلك الفترة كُتبت مئات المقالات عن شعور الناس حول العالم بوجوب تغيير شيء ما في حياتهم. هكذا حصلت الاستقالات بالملايين، إنما مع انتهاء فترة الحجر، بدأ الطلب على العمال والتوظيفات يتصاعد بشكل كبير. مثّل الأمر فرصة للعمال الأميركيين، وتحديداً اليافعين، بامتلاك ورقة ضغط وازنة لدعم قضيتهم بالاتحاد ضمن نقابات. أولاً من أجل تحسين شروط عملهم، وثانياً حتى يكون لهم رأي في آليات العمل داخل الشركات.
في جوهرها، هذه الرغبة تعبّر عن شباب راغبين في تغيير مفهوم الوظيفة وشكل العلاقة داخل المؤسّسات والشركات بين الموظف والمدير. فهناك نسبة كبيرة من الشباب الأميركي قادرون على اختزال حياتهم بمسار مهني محدّد مسبقاً: الذهاب إلى الجامعة محمّلين بقروض هائلة، ثم التخرّج، ليجدوا أن المطاف انتهى بهم عمالاً لدى «ماكدونالدز» أو «أمازون» أو «والمارت». وهنا تمضي سنواتهم بين دفع إجارات المنازل وسداد القروض مع الحد الأدنى للرواتب.
لنأخذ أمثلة عن عمّال أميركا. في «ستارباكس»، وبعد تحقيق أول فوز نقابي أواخر العام الماضي، انخرط في العمل النقابي متجران مملوكان للشركة، فيما هناك أكثر من 64 متجراً مملوكاً للشركة من ماساتشوستس إلى تينيسي وأريزونا، تتحضّر للانتخابات النقابية. وفي المقابل، يبدو أن العاملين في «أمازون» لديهم فكرة أوضح عن مستقبل الوظيفة تحت إدارة الذكاء الاصطناعي.
ففي شهر آذار من العام الماضي، أظهرت مستندات داخلية حصل عليها موقع «ذي إنترسبت» (The Intercept) الإخباري الاستقصائي، أن بعض فرق الإدارة في «أمازون» كانوا على علم بحقيقة أن الموظفين، وخصوصاً سائقي التوصيل (يعملون عبر عقود غير ثابتة، وبدلاً من الضمان الاجتماعي هناك رعاية صحية من أمازون)، كانوا يقضون حاجاتهم في قوارير المياه ويتبرّزون في الأكياس بسبب عدم توفر الوقت الكافي لدخول دورة المياه! إذ إن جداول نوبات عملهم، مكتظّة بطلبات التوصيل التي يحدّدها ذكاء اصطناعي نتيجة لعددها الهائل. ومع إجراءات كورونا ومكوث البشر في المنازل، ازدادت طلبات التوصيل أضعافاً مضاعفة. الأمر الذي حوّل حياة هؤلاء إلى جحيم مقابل 15 دولاراً في الساعة، وراكم ثروات هائلة في يد حملة الأسهم في الشركة.
هذا المشهد تعكسه التشبيهات التي تُطلق على مؤسّس «أمازون» ورئيسها التنفيذي السابق، جيف بيزوس، بأنه ليكس لوثر، غريم «سوبر مان» اللدود، في محاولة لإظهار ما تقوم به الشركة مع عمالها الذين يفوق عددهم المليون. فـ«أمازون» ثاني أكبر شركة من ناحية عدد الوظائف في الولايات المتحدة، ولها باعٌ طويل ومآثر في استغلال هؤلاء حتى النفس الأخير.
4.5 ملايين عامل
هو عدد المستقيلين طواعيةً من وظائفهم في أميركا بحسب الأرقام الصادرة إلى نهاية 2021 وهؤلاء يمثّلون نحو 3% من القوة العاملة، ورغم أن نسبة الانتساب إلى النقابات لم تتغير كثيراً بين عامَي 2020 و2021، إلا أنه بحسب استطلاع للرأي قامت به شركة «غالوب»، فإن نسبة الموافقة على الانتساب إلى النقابات في أميركا، تقترب من أعلى مستوياتها مسجّلة 68% في أيلول 2021، وهي أعلى نسبة منذ عام 1965 حين بلغت في حينها 71%، وركيزتها الشباب، إذ بحسب «غالوب» فإن الشريحة العمرية بين 18 و34 عاماً توافق على الانتساب إلى النقابات بمعدل 77%.
لكن، أليس مستغرباً أن يكون هناك مزاج سلبي عن النقابات بين العمّال أساساً؟ في الواقع، البحث عن جواب لهذه المسألة يكشف عن جوانب معقّدة ومأساة أحياناً. في ورقة بحثية قدّمها كيروين ك. تشارلز، وهو عميد كلية «يال» للإدارة. توصّل هو وزملاؤه إلى أن جزءاً من هذه المشكلة سببه الصين. كيف ذلك؟ يقول تشارلز إن معدل تنظيم النقابات في الولايات المتحدة قد انخفض بشكل حادّ على مدى العقود الأربعة الماضية، وإن هذا الانخفاض تسارع عام 2000. وفي الوقت نفسه، ارتفعت الواردات الصينية في التسعينيات ثم تسارعت في عام 2000 بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وهو ما يسميه الاقتصاديون «صدمة الصين». حدّد تشارلز وفريقه آليتين منفصلتين لهذا التأثير. وهم يفترضون أن المنافسة تقلّل الربحية في الشركات المعرّضة مباشرة للواردات الصينية، وهذا يعني أن المكاسب المحتملة من النقابات تكون أقل بالنسبة إلى العمال. بمعنى آخر، نظراً إلى أنهم يتفاوضون على كعكة أصغر (بسبب المنافسة الصينية)، لن تقدم لهم النقابات سوى زيادة بسيطة جداً في الأجور حتى يتاح للشركات منافسة الصين في الأسعار، وهذا ما يقلّل من دافعهم للانضمام إلى النقابات.
حسناً، قد يبدو هذا الأمر منطقياً، لكن المسألة أكثر عمقاً. برأي تشارلز فإن المنافسة التي تواجه الشركات المصنّعة، تدفعها إلى خفض معدلات التوظيف الإجمالية والأجور في سوق العمل، فيصبح العمال أكثر تردداً في الانضمام إلى النقابات لأن تنظيم النقابات يزيد «مخاطر فقدان الوظائف» بسبب قدرة الشركات على «الانتقام» من العمال الذين يقودون الجهود التنظيمية، ولأن التنظيم الناجح قد يؤدّي بالشركات إلى الاستغناء عن الوظائف. «أمازون» مثلاً، وبهدف ثني العمال عن الانضمام إلى النقابات العام الماضي، في بيسمير ولاية ألاباما، أطلقت حملة دعت فيها موظفي المستودعات إلى عقد اجتماعات مناهضة للنقابات، وضغطت على دائرة بريد الولايات المتحدة لتركيب «كوخ خاص» حتى يشعر العمال بأنهم مراقبون عند عملية التصويت، بل غيّرت أيضاً توقيت إشارات المرور المحلية لإلحاق الضرر بمنظمي العمل! كان الأمر مفضوحاً لدرجة أن القاضي رفض نتائج التصويت حينها، واليوم، انتهت نتائج التصويت الجديدة لصالح تشكيل نقابة.
منذ انتهاء إجراءات الإغلاق والحجر في أميركا، سادت رغبة واسعة لدى العمال في التكتّل النقابي.
في المقابل، يلمح تقرير نُشر في صحيفة «نيويورك تايمز» بعنوان «هل تتمتع نقابات اليوم بفرصة قتال ضدّ الشركات الأميركية؟» إلى التوقيت السيئ للنقابات ولا سيما في القطاع الخاص، إذ كانت النقابات ضعيفة لعقود فيما الشركات أصبحت أقوى. ففي عام 2000، كانت نسبة القوة العاملة داخل النقابات نحو 13.5%، بينما هي الآن 10.3% فقط. وعلى مدار العشرين عاماً الماضية، تضاعف متوسط إيرادات أكبر الشركات المتداولة في العالم ثلاث مرات، وفقاً لدراسة حديثة في «Review of Finance». فالشركات مستعدّة وقادرة على دفع أكلاف الاستشاريين ومجموعات الضغط المناهضين للنقابات الذين يؤثرون على القرار السياسي والتشريعات، ما يسمح بإمرار قوانين ضدّ مصالح الفقراء والطبقة العاملة. من هنا، لا يمكن فعلياً إلقاء اللوم على المنافسة الصينية. هذه الشركات تستعمل ذلك الأمر شمّاعة لمراكمة الثروات فقط.
انتصار عمّالي في أمازون
في واحد من أكبر انتصارات العمال في تاريخ العمل الأميركي، صوّت عمال المستودعات في «أمازون» في جزيرة ستاتن، لصالح تمثيلهم من قبل اتحاد عمال «أمازون»، أو ALU. حصل الاتحاد على 2654 صوتاً ، بينما صوّت 2131 ضدّه. وأصدرت الشركة بياناً أشارت إلى «خيبة أمل» من النتائج، وقالت إنها تفكر في الاعتراض على النتائج، إذ لديها قانون خمسة أيام للاعتراض. ولدى أمازون تاريخ طويل يشمل 28 سنة من الخروقات النقابية التي بدأت في عام 1994 مع تأسيس جيف بيزوس الشركة في عام 1994 كبائع للكتب عبر الإنترنت، فيما أنفق قادة «أمازون» الكثير من الوقت والمال للتغلّب على الحملات النقابية وغيرها.
انهيار الحدود بين مكان العمل والمنزل
ورد في مقابلة نُشرت في مجلة «ساينتفك أمِريكن» العلمية، أن التحول إلى «العمل عن بعد»، أدى إلى الانهيار الكامل للحدود بين مكان العمل والمنزل. فتداخلت اجتماعات «زووم» ذات التوقيت السيئ أو اللانهائي، مع قدرة الأشخاص على إنجاز العمل، وأضرّت في بعض الأحيان بالعلاقات مع الزملاء. واكتشف العمال الأساسيون أن إستراتيجية أصحاب العمل الوحيدة لتغطية زيادة الطلب، انعكست عملاً أكثر بلا تعويض. وأصبح صعباً على الجميع الاسترخاء والتعافي من الإرهاق المستمرّ بعد إغلاق مرافق الترفيه واللياقة البدنية. وبسبب هذه التغييرات، عانى العمال من إجهاد أكثر، وأصبحوا أكثر سلبية وسخرية بشأن مكان العمل، وشعروا بتآكل الثقة بالنفس. في المقابل، وجد أولئك الذين لديهم مكاتب منزلية مريحة وقليل من المسؤوليات الأبوية، فوائد في العمل عن بُعد. منحهم ذلك كونهم بمفردهم تحكّماً أكبر مع قدر أقل من مصادر الإلهاء. وغياب التنقل، منح الناس مزيداً من الوقت والطاقة مع توفير المال لهم. الأشخاص الذين كانوا يعملون في أماكن عمل غير سارّة أو معادية أصبحوا الآن خالِين من اللقاءات المزعجة. هذا الوضع علّم الكثير من الناس أن الوظيفة لا يجب أن تكون على النحو الذي كانت عليه. وقد يكون هذا الإدراك أحد الأسباب التي تجعل الكثيرين لا يعودون إلى وظائفهم القديمة وأدّى إلى الاستقالات العظمى.
اضف تعليق