من أمثلة الدوافع لهذه المعادلة غير المتوازنة، بين وطن طارد، ومهْجر جاذب، انّ المهاجر لم يعد ذلك الأمّي والفقير، والعامل في الاشغال الشاقة في المصانع والمزارع، بل أتاح له التسامح والاقتصاد القوي، والوعي بأهمية التنوع، فرص هائلة للتأهيل والتدريب، فيما رسمت النجاحات صورة إيجابية للمهاجر المتفوِّق علميا...
جاليات عراقية تتشبّث بهويتها في المهجر، لكنها ترفض العودة الى البلد الأم يبدو في الموضوع مفارقة، لأنّ الذي يغادر بلده الأصلي، يفكّر على الدوام في العودة اليه، لكن تعاقب الأجيال، والعيش في ظروف حياتية إيجابية، يجعل مشروع الرجوع، فكرة مؤجّلة على الدوام، إن لم تكن ملغيّة، تماما.
نحن لا نتحدث عن عقول عراقية مهاجرة شهيرة، فذلك أصبح حديثا عتيقا، لكن المستجدّ يدور حول جيل عراقي ترعرع في المهجر، وأصبح في طليعة النخب.
يستطيع هذا الجيل، الذي في أغلبه لم يواكب أحوال الحياة في العراق، لكنه يدركها، انْ ينقل تجارب ناجحة، في الهندسة والطب والخدمات، والعلوم المختلفة، وأنْ يوظّف المعارف في الجامعات الأوروبية والأمريكية، ومراكز الأبحاث.
لا يحدث ذلك الا بتعزيز عوامل الجذب الى الداخل، والاستفادة من مشاريع الدول المتقدمة التي وظّفت الإمكانيات الهائلة والظروف الملائمة، لإغراء الكوادر "الجاهزة" بالهجرة اليها، وسرقة العقول التي أنفق عليها البلد الأصلي، الأموال الطائلة، والزمن.
تعالوا نحصي الآلاف من الأطباء العراقيين والمهندسين، ورجال الأعمال والرسامين، والتجار، الذين تفخر بهم دول أوربا والولايات المتحدة.
التقيت مهندسا عراقيا، من الجيل الثاني في هولندا، حائز على الدكتوراه في الهندسة المدنية، وهو على وشك السفر الى العراق، للمرة الثانية، مع الشركة الهولندية المتعاقدة في العراق.
مهندس آخر، دكتوراه في الهندسة الكيماوية، سوف يقصد العراق، بعد سفرة مسبقة له الى هناك، للعمل ضمن مشروع نفطي في الجنوب مع شركة إنكليزية.
لكن كلاهما، لا يود البقاء الدائم في الوطن الأم، بسبب الصورة السلبية المتخيّلة في الذهن، وفي حين ان الدول التي انفقت على تعليم وتأهيل هؤلاء، ضمنت ان هؤلاء لن يعودوا الى بلدانهم، فإنها في ذات الوقت، كسبت العقول المهاجرة، من دون ان تنفق على تنشئتها، فِلسا واحدا.
شاب عراقي آخر يعمل في أكبر شركة مالية تبحث عن مصادر الأموال المستثمرة والعابرة للحدود، يتحدث عن ان العراق في جوهر ملف البحث عن أصول الأموال، والمتابعة، مرجحا صعوبة الاستقرار المالي والاقتصادي بسبب تجاذبات السياسة والصراع الإقليمي الذي يؤثر على تدفق الأموال بحسب خلاصة الأوليات التي استنبطها خلال عمله.
وإذا كان الرسام يفشل في بلده، وينزوي تارة الى مهن أخرى فان رسامين عراقيين، تحتفي بهم مؤسسات الفن العالمية، وتمكنوا من تحويل الفن الى جهد ربحي، يدرّ عليهم بالأموال الوفيرة.
نزولا الى الجيل الأول، فانّ رجل مال عراقي مثل نعيم دنكور في لندن، منحته الملكة إليزابيث لقب السير، إكراماً لانجازاته، فيما ثالث المليارديرات العرب في بريطانيا، رجل الأعمال العراقي المعروف نظمي أوجي الذي يمتلك ويدير(GMH) القابضة، وتبلغ ثروته 2.2 مليار دولار، فانّ هؤلاء لن يقرروا العودة الى العراق، بكل تأكيد.
الأمر يتعدى خسارة العقول الى الأموال، اذ لا تتوفر إحصائية عن حجم الأموال التي بحوزة النخب العراقية المقيمة في الغرب، لكنها تتجاوز ومن دون شك مئات الملايين من الدولارات في البنوك الأجنبية، والتي يصعب جذبها للاستثمار في الداخل، فيما الأفظع من ذلك، انه حتى رأس المال في الداخل يستقر في خارج البلاد، ويُستثمر في مشاريع هناك.
من أمثلة الدوافع لهذه المعادلة غير المتوازنة، بين وطن طارد، ومهْجر جاذب، انّ المهاجر لم يعد ذلك الأمّي والفقير، والعامل في الاشغال الشاقة في المصانع والمزارع، بل أتاح له التسامح والاقتصاد القوي، والوعي بأهمية التنوع، فرص هائلة للتأهيل والتدريب، فيما رسمت النجاحات صورة إيجابية للمهاجر المتفوِّق علميا، والمبدع حياتيا، والمخلص عمليا، والمؤهَّـل للإدارة والقيادة.
فضلا عن كل ذلك، فان المهاجرين يقعون ضمن متوسط سن صغير، اذ تزداد نسبة الشباب بينهم وتصل إلى أكثر من 70% في بعض البلدان، فضلا عن ان اغلبية المهاجرين من الشباب، ما يجدّد الحياة في بلد الهجرة، ويترك الوطن الأم، طاعنا في السن.
اضف تعليق