يعوّل ترامب على آرتميس لاستعادة أمجاد الستينيات بعد إعادة العظمة إلى لفضاء»، واستثمار ذلك في تزخيم حملته الانتخابية، ويهدف المشروع إلى أن تذهب الولايات المتحدة بسفنها الفضائية إلى خارج الكوكب، فتحاصره عبر قواتها الفضائية العسكرية، كأنها شرطي الفضاء، وتنعم وحدها بخيراته وموارده. ربما يُراد من القمر...
وقّع ترامب العام الماضي قانون إنشاء «قوّة الفضاء»، فرع القوات المسلحة السادس، فكرة التوسّع في الفضاء لم تبدأ مع الرئيس الحالي، إذ تُعدُّ خطوته استكمالاً لاستراتيجية عمرها أكثر من نصف قرن، ومع إطلاق الصاروخ «فالكون 9»، الشهر الماضي، بعد مضيّ 50 عاماً على رحلة «أبولو 11» إلى القمر، تَستخدم أميركا، مجدّداً، الوسائل المتاحة كافة، ومنها الدعائيّة، لجلاء قوّتها، معيدةً الأنظار إلى الفضاء، في خضمّ تعويلها المتجدّد على رحلة جديدة، تترك انطباعاً عن التفوّق الأميركي، في استعادة لمشهد عام 1969.
في 30 أيار/ مايو الماضي، وجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرصة لـ«يعيد لأميركا عظمتها»، من بوابة الفضاء هذه المرّة. فرصةٌ تزامنت مع إطلاق الصاروخ «فالكون 9» التابع لشركة «سبايس إكس» من قاعدة «كينيدي» في فلوريدا إلى محطة الفضاء الدولية، وعلى متنه كبسولة «كرو دراغون»، حاملةً رائدي الفضاء روبرت بنكن ودوغ هورلي. ركّز الإعلام الأميركي على هذا الإنجاز، لكون الرحلة الفضائية المأهولة هي الأولى لشركة خاصة، والأولى التي تنطلق من أراضي الولايات المتحدة بعد توقفٍ دام 9 سنوات.
ترامب المأزوم على خلفية فشل إدارته في معالجة تفشّي وباء «كورونا» وتبعاته الاقتصادية، والانقسامات الحادّة التي بيّنتها جريمة جورج فلويد، وجد في الرحلة ضالته، لضخّ بعض المعنويات في روح الناخبين. حكى عن التفوّق الأميركي واستعادة «الولايات المتحدة مكانتها المرموقة كرائدةٍ عالمية». وقال: «لا يمكن أن تكون الرقم واحد على الأرض، إذا كنت الرقم اثنين في الفضاء. ولن نكون الرقم اثنين في أيّ مكان... أصدرتُ تعليمات بفتح المجالات كافة أمام شركات الفضاء المبتكرة الخاصة مثل سبايس إكس، وأنشأنا أوّل نظام شامل لإدارة حركة المرور الفضائية في العالم. ووقّعت الشهر الماضي على أمر تنفيذي يحدّد سياسة الولايات المتحدة لاستعادة الموارد الفضائية والمعادن واستخدامها». مثّلت هذه الرحلة فرصة للإدارة الأميركية، لِلَملمة نفسها، فتلقّفت حدثاً اعتبرت أن من شأنه موازنة فشلها، وتوسيع نفوذها نحو الفضاء.
من كينيدي إلى أوباما
بدأت عمليّة تطوير برنامج الفضاء الأميركي في عهد جون كينيدي عام 1961. هَدَف الأخير إلى لوصول لسطح القمر بحلول نهاية ذلك العقد. الرغبة في «استكشاف الفضاء» لم تكن وحدها لتمثّل دافعاً إلى غزوه. فبرنامج الاتحاد السوفياتي الفضائي مثّل قلقاً حقيقياً بالنسبة إلى الأميركيين، خصوصاً بعد إطلاق القمر الاصطناعي «سبوتنيك» عام 1957، ولاحقاً صعود يوري غاغارين إلى الفضاء في 1961، مفتتحاً عصر السباق نحو الفضاء. بعدها بعام (وهو العام نفسه الذي اغتيل فيه كينيدي)، نجحت وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» في إيصال جون غلين إلى الفضاء. خلف ليندون جونسون «المغدور».
وكان من أكثر السياسيين ارتباطاً ببرنامج الفضاء الأميركي، إذ أسهم، عندما كان زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ، في تمرير قانون الملاحة الجوية والفضاء الوطني لعام 1958، والذي أُنشئت بموجبه «ناسا». طيلة فترة حكمه (1962-1969)، ظلّ جونسون ملتزماً بتمويل كل ما تحتاج إليه الوكالة في مهمتها إلى القمر. ورغم الصعوبات المالية التي أرهقت البلاد بفعل حرب فيتنام، وصلت موازنة الوكالة عام 1966 إلى 4.4% من الموازنة المالية العامة. ورث ريتشارد نيكسون مشروع الهبوط على القمر، وقطف ثماره. فبين عامَي 1969 و1972، سيّر الأميركيون رحلات عديدة إلى القمر، أشهرها رحلة «أبولو 11» الأولى التي حملت على متنها نيل أرمسترونغ وباز ألدرين إلى سطح القمر.
لم تتّسم فترة (1974-1981)، بمشاريع فضائية استثنائية، حتى إن تمويل «ناسا» تراجع في تلك الحقبة. لكن ذلك سيتغيّر في السنوات اللاحقة، وستشهد الفترة الممتدة بين عامَي 1981 و2001 زيادة في تمويل الوكالة، والبدء بإنشاء محطة الفضاء الدولية أواخر عام 1998، في ولاية بيل كلينتون الثانية.
في عهد جورج دبليو بوش (2001-2009)، حصلت تغييرات بالغة الأهمية في برنامج الفضاء، يمكن اختصار فحواها بالآتي: كان وَقعُ انفجار صاروخ «كولومبيا» خلال عملية إطلاقه عام 2003، ووفاة روّاد الفضاء السبعة، كارثياً. سعت الإدارة إلى تشجيع القطاع الخاص على الدخول في مجال الفضاء، وذهب بوش في سياسته بعيداً، إلى حدّ قوله إنّ الولايات المتحدة لديها الحق في أن «تمنع» وصول أيّ جهة تعتبرها معادية لها إلى الفضاء. غيّر الرئيس الجمهوري توجيهات «ناسا»، واضعاً هدفاً جديداً نصب عينيه: العودة إلى القمر بحلول عام 2020، وإكمال مشروع بناء محطة الفضاء الدولية.
ومن أجل العودة، بدأت «ناسا» بناء مركبة «أوريون» الفضائية، القادرة على حمل الرواد والذهاب بهم إلى القمر. قام باراك أوباما (2009-2017) بإلغاء المهمة بعدما تبيّن أنها عالية التكلفة، ولكنه قرّر الإبقاء على تمويل بناء «أوريون»، وجعلها مرتبطة بمحطة الفضاء الدولية كخطة إجلاء لمَن يقومون بتشغيلها في حال حدوث أي كارثة. وبدلاً من الذهاب إلى القمر مجدداً، قرر أوباما توجيه الوكالة نحو إرسال البشر إلى أحد الكويكبات بحلول عام 2025، ومن ثم إلى المريخ بحلول 2030. كما توقّفت الإدارة الجديدة عن إرسال رواد فضاء أميركيين من الأراضي الأميركية بدءاً من عام 2011. وكانت «ناسا» تشتري مقاعد على متن صواريخ «سويوز» الروسية، التي بدورها ترسل رواد الفضاء الأميركيين من القواعد الصاروخية في كازاخستان إلى محطة الفضاء الدولية، وبكلفة 80 مليون دولار للمقعد الواحد. وإذا ما قورن هذا بالإنجازات الأميركية السابقة، فإنه يبيّن خفوت الدور الريادي للولايات المتحدة في تكنولوجيا الفضاء.
الاقتصاد القمري
يشبه عهد ترامب، بطريقةٍ ما، عهد نيكسون، خصوصاً لجهة جني ثمار مَن سبقه. فور انتخابه، ألغى الرئيس الحالي توجيهات أوباما، ووجّه «ناسا» بالعودة مجدداً إلى القمر ومنه إلى المريخ. غير أن مشروع ترامب الفضائي لم يتضح حتى العام الماضي، عندما كشفت إدارته عن خطة «آرتميس» (في الميثولوجيا اليونانية، آرتميس هي آلهة القمر، وهي أخت الإله أبولو). خطةٌ تهدف إلى إرسال امرأة ورجل إلى سطح القمر بحلول عام 2024، وإنشاء محطة صغيرة لتدور حوله، وتفعيل التعاون مع الشركات الخاصة من أجل بناء عربات خاصة ومعدات مهمّتها بناء مساكن دائمة للبشر على سطح القمر، كما التعاون مع عدة شركات خاصة أميركية ذات خبرة في مجال صنع معدات الحفر، من أجل استخراج المعادن من باطن القمر، مثل الذهب والبلاتينوم والهيليوم 3 والجليد، أي المياه.
هذه الثروات الطبيعية الموجودة على القمر، ستُستغلّ لإقامة ما يسمى «الاقتصاد القمري»، وذلك إمّا عبر بيع الذهب والبلاتينوم المستخرج من التربة، أو استخدامها في صنع معدات إلكترونية على القمر. كما أنّ عملية فصل العناصر الكيميائية في المياه، مثل الهيدروجين والأوكسيجين، تنتج، عملياً، وقود صواريخ، سيتم بيعه إلى دول أخرى، من أجل استكمال مسار رحلاتها إلى المريخ. فيصبح القمر، هنا، محطة وقود وانطلاق للصواريخ. أمّا بالنسبة إلى الهيليوم 3، فيمكن استخدامه لصنع قنبلة نووية نظيفة، لا تترك، بعد انفجارها، أيّ إشعاعات نووية على الأرض، بعكس اليورانيوم والبلوتونيوم.
يعوّل ترامب على «آرتميس» لاستعادة أمجاد الستينيات بعد «إعادة العظمة إلى لفضاء»، واستثمار ذلك في تزخيم حملته الانتخابية. ويهدف المشروع إلى أن تذهب الولايات المتحدة بسفنها الفضائية إلى خارج الكوكب، فتحاصره عبر قواتها الفضائية العسكرية، كأنها شرطي الفضاء، وتنعم وحدها بخيراته وموارده. ربما يُراد من القمر، هذه المرّة، أن يضاف إلى نجوم العلم الأميركي.
اضف تعليق