تعتبر الفرنكوفونية التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي بإطناب خلال زيارته لتونس، مجالاً من أكبر المجالات اللغوية العالمية، وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في القرن التاسع عشر، وفي سنة 1970 تأسست رابطة تضم الدول والشعوب التي تتحدث الفرنسية كلغة رسمية أو حتى لغة إضافية....

إيمانويل ماكرون، الرّئيس الفرنسيّ الحاليّ قبلَ استلامه مقاليد الرّئاسة شغلَ منصب وزير الاقتصاد، الصّناعة والشؤون الرّقميّة في فرنسا بين عامي 2014 و2016 في حكومة رئيس الوزراء مانويل فالس Manuel Valls دخلَ مُعتركَ السّياسة عام 2006 كعضوٍ في الحزب الاشتراكيّ تمكّن ماكرون بذكائه وشخصيّته المحبوبة من أن يتدرّجَ بسرعةٍ في المناصب إلى أن أصبحَ عام 2012 نائب الأمين العام للرّئاسة وذلك خلال فترة حكم فرانسوا أولاند للبلاد.

وُلدَ ماكرون وترعرع وسط عائلةٍ مُثقفة من الطّبقة المتوسّطة وارتادَ أرقى المدارس الفرنسيّة بعد أن عملَ لفترةٍ وجيزةٍ كمفتّشٍ في وزارة الاقتصاد الفرنسيّة، انتقلَ ماكرون للعملٍ كمصرفيّ في مصرف روتشيلد الفرنسيّ أطلقَ ماكرون عام 2016 حزبهُ السّياسيّ المُستقلّ En Marche! بمعنى ماضون قُدماً وأعربَ عن رغبته بالتّرشّح للرئاسة في السّابع من أيّار 2017، تغلّبَ ماكرون على زعيمة اليمين المُتطرّف مارين لوبان Marine Le Pen في الانتخابات الرّئاسيّة ليُصبحَ في عمر التّاسعة والثّلاثين، الرّئيس الأصغر في التّاريخ الفرنسيّ.

بدايات إيمانويل ماكرون

وُلِدَ إيمانويل جون ميشيل فريديريك ماكرون Emmanuel Jean-Michel Frédéric Macron في الحادي والعشرين من كانون الأوّل عام 1977، في أميان، فرنسا لوالديه الطبيبين فرانسواز نوغيز Françoise Noguès، وجون ميشيل ماكرون Jean-Michel Macron على الرُّغم من أن والديه لم يكونا مُتديّنين، إلّا أنّه تمّ تعميد ماكرون بناءً على رغبته في سنّ الثّانية عشر تميّز ماكرون منذ صغره بفطنةٍ ونباهةٍ فريدتين، مُبدياً موهبةً وشغفاً في الأدب، السّياسة والمسرح، حيثُ تفوّقَ في مدرسته اليسوعيّة المحليّة La Providence، وخلال فترة المُراهقة وقعَ ماكرون في حُبّ مدرّسته وزوجته المُستقبليّة، الأمر الذي لم يُرضي والديه فقاموا بنقله إلى باريس ليُكملَ عامه الأخير من تعليمه الثّانويّ في مدرسة هنري الرّابع Henri IV المرموقة.

بعد إنهائه للتعليم الثّانويّ، انتقلَ ماكرون لدراسة الفلسفة في جامعة نانتير Nanterre University"، والتحقَ بعدها مُباشرةً بمعهد العلوم السّياسيّة الفرنسيّ Sciences Po حيثُ درسَ العلاقات العامّة، وكلّ ذلك قبلَ أن يتخرّجَ عام 2004 من المعهد الوطني للإدارة École Nationale d’Administration.

إنجازات إيمانويل ماكرون

بعدَ التخرج، انتقل ماكرون للعمل في وزارة الاقتصاد الفرنسيّة بصفة مُفتّشٍ عام وبعد ثلاث سنوات، في عام 2007 تحديداً، قام الرّئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي Nicolas Sarkozy باختيار ماكرون للعمل ضمن لجنةٍ مهمّتها دعم الاقتصاد الماليّ الفرنسيّ وإنعاشه، تحت رئاسة جاك أتالي Jacques Attali.

في العام التّالي، تركَ ماكرون موقعه الوظيفيّ وانتقل للعمل في مجال الاستثمارات في مصرف روتشيلد "Rothschild & Co. " حيثُ أظهرَ مُجدّداً قدرته على التّعلّم بسرعة، مُتدرّجاً في الرّتب الوظيفيّة إلى أن أصبح مُديراً تنفيذيّاً فيه، حيثُ اكتسبَ شهرةً كبيرةً وسُمعةً حسنةً عن دوره في صفقة شركة نستله Nestlé من عام 2012 البالغ قيمتها 12 مليار دولار، والتي استحوذت بموجبها على قطاع الأغذية في شركة فايزر" Pfizer".

بعد أن أسّسَ لنفسه علاقةً وثيقةً مع زعيم الحزب الاشتراكي فرانسوا أولاند François Hollande، أصبحَ ماكرون عندما تمّ انتخاب أولاند ليُصبِحَ رئيساَ للبلاد عام 2012، نائب الأمين العام للرّئاسة في قصر الإيليزيه في عام 2014، تمّ تعيين ماكرون وزيراً للاقتصاد، الصّناعة والشؤون الرقميّة في فرنسا، وفي العام التّالي من تولّيه لتلكَ المسؤوليّة، تقدّم ماكرون إلى مجلس الوزراء بجملةٍ من القوانين والتّشريعات بهدف إنعاش الاقتصاد الفرنسيّ، إلّا أن القانون كان محطّاً للجدل، كما أنّ المجلس قد استعان بعد 200 ساعة من النّقاش بإحدى موادّ الدستور لتمرير القانون والذي أصبحَ يُعرفُ لاحقاً باسم "قانون ماكرون".

شكّل ماكرون عام 2016 حركةً جديدةً حملت اسم "ماضون قُدماً-En Marche!" كما أعلنَ في آب عن تنحّيه عن منصبه كوزيرٍ للاقتصاد أثبت ماكرون خلال فترة استلامه للحقيبة الاقتصاديّة والماليّة، أنّهُ رجلٌ ناجحٌ حيثُ تمكّن خلالها من مواجهة العديد من التّحديات والصُّعوبات أعلن ماكرون في تشرين الثّاني من عام 2016 عن رغبته رسميّاً في الترشّح للانتخابات الرّئاسّة للعام 2017.

وعلى الرُّغم من حداثة عهده في المجال السّياسي ومن أنّه لم يُنتخب من قبل لشغلِ أيّ منصبٍ، إلّا أنّه قد لاقى دعماً من كلا الطّرفين (اليمينيّ، واليساريّ) وذلك بعد مُقترحاته بتخفيض ضرائب الشركات والسّكن، تحسين الوضع الاجتماعيّ ورفع الراتب التّقاعديّ إلى جانب تكريس الموارد والثّروات لخدمة مجالات الدّفاع، الطاقة، البيئة والنّقل لعبَت كلٌّ من التّغطية الإعلامية المؤيّدة لماكرون، والعثرات التي واجهت منافسيه الأكثر خبرة، دوراً مًهمّاً في تربّع الشّاب ذو التّسعة وثلاثين عاماً على صدارة استطلاعات الرّأي، كما أصبح المُرشّح المُتصدّر مع نهاية الدّورة الأولى من الانتخابات بتاريخ الثّالث والعشرين من نيسان، متفوّقاً على مُنافسته مارين لوبان Marine Le Pen من حزب الجبهة الوطنيّة وبذلك تكون فرنسا قد خاضت الانتخابات الأولى منذُ تشكيل دستور الجمهوريّة الفرنسيّة الخامسة عام 1958، التي يغيب فيها التّيارين التقليديّين اليمينيّ واليساريّ عن الدّورة الأخيرة من الانتخابات وضع السّباق الانتخابي النّاخبين أمام مُرشّحين متناقضين في أغلب القضايا، حيثُ دعمَ وتبنّى ماكرون سياسة التّجارة الحرّة والحفاظ على وحدة وقوّة الاتّحاد الأوروبيّ، بينما تمسّكت لوبان بقوميّتها وتختلف مع ماكرون في كثيرٍ من الأفكار على الصّعيدين الدّاخليّ والخارجيّ.

قبلَ وقتٍ قصيرٍ من الإعلان الرسميّ عن نهاية الحملة الانتخابيّة في الخامس من أيّار، أعلن فريق الحملة الانتخابيّة لماكرون عن تعرّض مُرشّحهم الرّئاسيّ لـ "عمليّة اختراقٍ إلكترونيّ ضخمةٍ ومُنسّقةٍ" والتي انتهت بنشرِ وثائقٍ وبياناتٍ تتعلّقُ بماكرون وعملهِ على موقعٍ يتيحُ نشرَ ومشركة الملّفات على كلّ حال، لم تكن عمليّة الاختراق ذات أثرٍ كبيرٍ على نتيجة الانتخابات، فعندما تمّ إحصاء الأصوات في السّابع من أيّار، تبيّن بأنّ ماكرون قد حصدَ أكثر من 66 بالمئة من الأصوات مُحقّقاً فوزاً قاطعاً على مُنافسته لوبان، ليُصبحَ الرّئيس الأصغر في التّاريخ الفرنسيّ.

حرص على إحياء الفرنكوفونية

عند وصوله إلى نقطة "الفرنكوفونية" التي كانت نقطة محورية في خطابه أمام النواب التونسيين تحت قبة برلمان باردو، بدا الرئيس الفرنسي الشاب متحمسًا طامحًا لنصر جديد، حيث يعتبر مستقبل الفرنكوفونية إحدى أولويات السياسة الفرنسية الجديدة في هذا الخطاب قال ماكرون: "الفرنكوفونية ليست مشروعًا فرنسيًا، فتونس من البلدان التي حملت الفرنكوفونية، فهي ملك لهذا البلد"، وتابع قائلاً: "الفرنكوفونية ليست مشروعًا قديمًا، بل مشروع مستقبلي، فتحدث اللغة الفرنسية يعد فرصة حقيقية، على المستويات اللغوية والاقتصادية والثقافية".

ماكرون: "من المهم أن تبقى اللغتان متصلتين، لهذا أشجع على تطوير الفرنكوفونية وأن يكون لأبناء تونس مصدرًا للثروة" وأضاف ماكرون "أتمنى أن تحيا الفرنكوفونية في بلادكم"، مشيرًا إلى أن الفرنكوفونية ستساعد التونسيين والتونسيات على النجاح في عدة مجالات وفي دول مختلفة، وقال أيضًا "أرغب في إعطاء دفعة للفرنكوفونية في تونس"، محددًا هدف "مضاعفة عدد متعلمي الفرنسية خلال سنتين" أي حتى انعقاد قمة الفرنكفونية بتونس في 2020.

وخلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره التونسي الباجى قايد السبسي، قال الرئيس الفرنسي: "ألاحظ أن الشباب في تونس ينتشر وسط عالمين لغويين، العربية والفرنسية وهذا مصدر ثراء في المتوسط"، وتابع "من المهم أن تبقى اللغتان متصلتين، لهذا أشجع على تطوير الفرنكوفونية وأن يكون لأبناء تونس مصدرًا للثروة".

ماذا تعني الفرنكوفونية؟

تعتبر الفرنكوفونية التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي بإطناب خلال زيارته لتونس، مجالاً من أكبر المجالات اللغوية العالمية، وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في القرن التاسع عشر، وفي سنة 1970 تأسست رابطة تضم الدول والشعوب التي تتحدث الفرنسية كلغة رسمية أو حتى لغة إضافية، حملت اسم "الفرنكوفونية الدولية" وفي سنة 2005 تغير اسمها إلى المنظمة الدولية للفرنكوفونية، ومقرها باريس، تضم 84 دولة وحكومة (58 عضوًا و26 مراقبًا).

انتقل عدد الفرنكفونيين في العالم من 220 مليون شخص سنة 2010 إلى 274 مليون خلال سنة 2014 منهم 96.2 مليون في القارة الإفريقية ويعتبر الجغرافي الفرنسي أونسيم روكولو أول من أطلق كلمة الفرنكوفونية عام 1880، وفي سنة 1926أسس مجموعة من المثقفين جمعية لكتاب اللغة الفرنسية، وفي عام 1950 تم إنشاء الاتحاد الدولي للصحافة باللغة الفرنسية.

وتهدف هذه المنظمة التي تعتمد على تقاسم نفس اللغة والاشتراك في القيم الإنسانية التي تنقلها اللغة الفرنسية، إلى الترويج للغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، وكشف تقرير للمنظمة عن وضعية اللغة الفرنسية خلال سنة 2014، أن عدد الأشخاص الناطقين باللغة الفرنسية قد ارتفع بنسبة 7% خلال 4 سنوات، خصوصًا في دول إفريقيا جنوب الصحراء وشمال إفريقيا، حيث ارتفع عدد الأشخاص الذين يتحدثون اللغة الفرنسية بنسبة 15%، لينتقل بذلك عدد الفرنكفونيين في العالم من 220 مليون شخص سنة 2010 إلى 274 مليون خلال سنة 2014 منهم 96.2 مليون في القارة الإفريقية.

استغلال اللغة الفرنسية سياسيًا

تركيز ماكرون على إعادة إحياء الفرنكوفونية في تونس، يؤكد حسب عديد من الخبراء، تواصل استغلال فرنسا للغة سياسيًا وليس فقط ثقافيًا، فرغم انتهاء حقبة الإمبراطورية الاستعمارية، تظل أداة سياسية، فمنذ بداية الجمهورية الفرنسية الخامسة 1958، تم تأسيس 17 جهة حكومية (وزارات/هيئات) لتولي مسؤولية الفرنكوفونية من بين هذه الجهات الـ17، خمس عشرة تتبع أو كانت تتبع جهات رسمية وهي وزارة الخارجية، مما يعني أن انتشار اللغة الفرنسية يلتقي مع حماية مصالح فرنسا في الخارج، ويتم تصوير الفرنكوفونية كمرادفة للتنوع والتعددية، إلا أنها أداة للهيمنة.

مثلت اللغة الفرنسية إحدى أدوات الغزو الفرنسي لإفريقيا

يرى ناقدون للفرنكوفونية أن اللغة الفرنسية التي يتم تقديمها سابقًا على أنها "مفتاح باب الحضارة"، كانت في الحقيقة "مفتاح باب الاستعمار"، ولغة "القيم الاستعمارية والعنصرية" التي يتم تدريسها لأهالي المستعمرات في إفريقيا وفي روايتها الفرنسية "غناء الزنبقق والريحان" تشرح الكاتبة الجزائرية لطيفة بن منصور هذه المحاولة لاستعمار الروح التي كانت اللغة الفرنسية محركها الأساسي: "فالقائمون على مدارس الاستعمار كانوا يريدون إخضاع النفوس، غسلها، تعقيمها لإنتاج فرنسيين صغار على دراية بمعارك فرنسا في بواتييه، آليزيا وووترلو، على دراية كاملة بأسماء الشعراء والكتاب الذين يبرزون مجد وواجهة فرنسا - الوطن الأم - أكثر مما يفعله الجنرالات".

أمام هذه المحاولات المتكررة من فرنسا لإعادة إحياء الفرنكوفونية، يرى تونسيون أن هذه المنظمة لم تعد تتوفر على مقومات البقاء والاستمرارية، وعوامل هدمها وتجاوزها أصبحت حاضرة بقوة، مثل الانتشار الواسع للإنجليزية كونها لغة العلم والتواصل، في مقابل التراجع المستمر للدور الفرنسي على الساحة الدولية.

تونس قاعدة الفرنكوفونية الجديدة

منذ وصوله إلى قصر الإليزيه وتوليه منصب الرئاسة، ما فتئ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يشدد على ضرورة الارتقاء بالفرنكوفونية والنهوض باللغة الفرنسية بعد ما شهدته من تراجع في السنوات الأخيرة أمام لغات عالمية أخرى حرص ماكرون على النهوض بلغة بلاده وإحياء الفرنكوفونية ظهر جليًا في زيارته الأخيرة إلى تونس مؤخرًا، وسط الأسبوع الماضي، التي ركز فيها على الجانب الثقافي، مؤكدًا أن هذا البلد العربي سيكون خلال سنتين، قاعدة جديدة لتعليم اللغة الفرنسية.

مدارس فرنسية جديدة في تونس

تأكيدًا لمساعيه إحياء الفرنكوفونية في تونس، افتتح ماكرون في اليوم الثاني من زيارته إلى تونس مقر "الأليانس الفرنسية" (منظمة ثقافية دولية فرنسية تعنى بتعليم اللغة الفرنسية) في مدينة أريانة قرب العاصمة تونس على أن تُفتح خمسة مراكز أخرى خاصة من هذا النوع تعنى بنشر الثقافة واللغة الفرنسيتين في 2018 لا سيما في قابس بالجنوب وفي القيروان في الوسط.

المعهد الفرنسي بتونس

في هذا السياق، سبق لوزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، أن أطلق مبادرة قبل أسبوع تتعلق بوضع استشارة عن مستقبل الفرنكوفونية، باعتبارها إحدى أولويات السياسة الفرنسية في عهدة الرئيس إيمانويل ماكرون، ويدرس ستة آلاف طالب في المدارس الفرنسية العشر في تونس، وتعتبر اللغة الفرنسية اللغة الثانية المعتمدة في تونس.

ماكرون المتوهج يتسلخ بالفرنكفونية الجديدة

هناك وعي لدى صناع السياسة في فرنسا وقصر الإليزيه على وجه التحديد، بأن الشعوب في قارة أفريقيا هي من ستقرر على المدى البعيد مستقبل الفرنكوفونية في العالم وهذه الحقيقة تشكل اليوم أحد الأسلحة الرئيسية الموجهة للسياسة الخارجية للرئيس إيمانويل ماكرون الساعي إلى إعادة التعريف بالدور الفرنسي على الساحة الدولية.

لم يعد الإرث الاستعماري أو النفوذ التجاري المكتسب منذ تلك الحقبة وحده مبررا لترسيخ الفرنسية وتعميم استخدامها فالاستراتيجية الجديدة تنطلق من الوعي بأهمية التزايد السكاني في أفريقيا والديناميكية الاقتصادية التي تحظى بها القارة، حتى أصبح الحديث أكثر اليوم عن تسويق مختلف يتجه إلى تعميم وتطوير الفرنكوفونية الاقتصادية.

وفي عالم يتجه بنسق سريع نحو عولمة الثقافة والقيم، والسباق الأممي، غير المعلن، من أجل الاختراق الحضاري، فإن التحدي المزدوج الذي يعترض باريس اليوم لا يرتبط فقط بالاقتصاد والتنمية في فنائها الخلفي، وإنما أيضا بأهمية الحفاظ على حضور قوي للفرنكوفونية وتطويرها عبر استثمار الزيادات السكانية التي يشهدها عدد من مناطق النفوذ الفرنسي، لا سيما أفريقيا جنوب الصحراء.

ومن هذه الفكرة تستمد جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي قادته إلى تونس والسنغال وقبلها إلى بوركينا فاسو والمغرب والجزائر، أهمية بالغة كونها تعد محاولة تأسيسية لمستقبل جديد للفرنكوفونية، في علاقة شرطية باحتياجات المنطقة في مجالات التعليم والتكوين والاستثمار

ولا يخفى أن هذه الخطط كانت محور دراسة وبحث من قبل الإليزيه والخارجية الفرنسية منذ بدء عهدة الرئيس ماكرون، من ذلك الاستشارة التي أطلقها وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي بشأن مستقبل الفرنكوفونية في العالم، لتتحول بذلك عمليا إلى سياسة فرنسية رسمية في تحركها بالخارج.

وفي زيارة الدولة إلى تونس، وهي الأولى له في المنطقة العربية، يحمل إعلان ماكرون عن فتح ستة مراكز دفعة واحدة للمنظمة الدولية المرموقة "أليانز فرانسيز" المتخصصة في تعليم اللغة الفرنسية وربط ذلك بالفرص المستقبلية للأجيال الجديدة خاصة في مجالات التكنولوجيا الرقمية والطاقات المتجددة، دلالات سياسية واضحة عن استراتيجية باريس الجديدة لتقوية حضورها في العالم.

وفي الواقع تستند هذه الاستراتيجية إلى تقديرات متفائلة تضعها المنظمة الدولية للفرنكوفونية، وهي أن إجمالي تعداد سكان الدول الناطقة بالفرنسية كلغة رسمية سيفوق على المدى البعيد مجموع سكان الدول الناطقة بلغات أخرى رسمية منافسة، مثل الألمانية والإسبانية والبرتغالية وحتى العربية.

حققت اللغة الفرنسية نموا بنسبة 7 بالمئة في العالم بين عامي 2011 و2014، وباعتماد مؤشرات النمو الديموغرافي لمنظمة الأمم المتحدة تتوقع منظمة الفرنكوفونية أن يصل عدد المتحدثين باللغة الفرنسية إلى 715 مليون نسمة في عام 2050، أغلب هؤلاء بما نسبته 85 بالمئة، سيكونون من مواطني أفريقيا.

لكن تدرك المنظمة الدولية أن نجاح الاستراتيجية الجديدة لا يتوقف فقط على الزيادة الديموغرافية المطردة في أفريقيا بالأساس، ولكن أيضا على تطوير البنية التحتية للقطاع المدرسي وتكوين المعلمين وتعزيز المشروعات الثقافية الفرنكوفونية في القارة وإلى حين بلوغ ذلك الهدف فإن أرقام منظمة الفرنكوفونية تشير حتى الآن إلى مؤشرات مهمة تضع اللغة الفرنسية كإحدى أهم اللغات في العالم، فهي تعد اليوم اللغة الخامسة الأكثر تداولا على وجه الأرض، إذ تشمل أكثر من 274 مليون نسمة موزعين في 102 دولة، وهي تأتي في المركز الثاني كأكثر اللغات الأجنبية تعلما بعد الإنكليزية.

كما تحتل اللغة الفرنسية المرتبة الثانية داخل المنظمات الدولية والإعلام الدولي، والثالثة كأكثر اللغات استخداما في مجال الأعمال والأنشطة الثقافية الدولية، والرابعة في الفضاء السيبيرني

ومن دون شك تختزن الفرنكوفونية إرثا إنسانيا ومعرفيا كان حاسما في مسار القرون الحديثة ارتبط بمرحلة التنوير والثورة الفرنسية وحقوق الإنسان وبداية تشكل ملامح المجتمع التعاقدي في دولة القانون القائمة على الفصل بين السلطات، ولكن أيضا هناك ميزات أخرى فرنسية خالصة طبعت الفرنكوفونية بدءا من عاصمة الموضة باريس ومدينة السينما كان، فضلا عن مؤسسات التعليم الجامعي العريقة منذ القرون الوسطى، وهي تستقطب اليوم أكثر من ربع مليون طالب ما يشكل 10 بالمئة من عدد الطلاب في البلاد.

صحيح أن اللغة الإنكليزية قد حسمت منذ عقود مسألة الريادة في قطاعات العلوم والأعمال والعلاقات الدولية حتى باتت لغة العولمة الرسمية، لكن مع ذلك فإن هناك الكثير من نقاط القوة التي تدعم الفرنكوفونية في مسعاها للبقاء تحت الضوء، كلغة تضيف الكثير من الفرص للأجيال الجديدة في القارات الخمس.

والأهم من ذلك بالنسبة إلى الإليزيه أنه يتوجب على الفرنكوفونية استثمار اللحظة الراهنة والسير جنبا إلى جنب مع طموحات ماكرون المتوهج على الساحة الدولية، لا سيما مع ترنح الجارة ألمانيا تحت وطأة الأزمة وسط التحالف الحكومي، إلى جانب التبعات المتوقعة لفض الاشتباك بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، والتي قد تطال اللغة الإنكليزية داخل مؤسسات الاتحاد.

مركز النبأ الوثائقي يقدم الخدمات الوثائقية والمعلوماتية
للاشتراك والاتصال [email protected]
او عبر صفحتنا في الفيسبوك (مركز النبأ لوثائقي)

...............................
المصادر
- اراجيك
-نون بوست
-بيان اليوم
-موقع المنار
- فرانس 24

اضف تعليق