فلسفة أهل البيت صلوات الله عليهم، تقوم على فعل الخير المعضَّد والمقرون بالدعاء، لأن الله تعالى هو القادر على تيسير فعل الخير، وجعله جاريا على يد هذا الإنسان أو ذاك، ولكن هذا الفعل يقوم على أسس وشروط، أولها أن يكون الإنسان مستحقاً لهذه المكانة والمرتبة، أي مكانة أن يجري الله تعالى الخير على يد هذا الإنسان، ومن خلاله يتم تقديمها للناس.
ورد ذلك في المضامين القيمة التي وضعها سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه الثمين الموسوم بـ (حلْية الصالحين) المخصص لتقديم قراءة لمضامين عدد من الأدعية المباركة للإمام الصادق عليه السلام، وفي هذه الحلقة من القبسات، خصص سماحة المرجع الشيرازي قراءته لقول الإمام سلام الله عليه: )وأجر للناس على يديّ الخير ولا تمحقه بالمنّ(.
إن إجراء فعل الخير على يد الإنسان لا يعني أنه هو صانع الخير، وإنما هو وسيلة يتم من خلالها نقل الخير الى الآخرين، أما صانع الخير فهو الله تعالى، ولكن يمكن أن يطلب الإنسان من خلال الدعاء أن يجري على يديه او يديه الخير طلبا لرضا الباري عز وجل وأيضا لقضاء حوائج الناس من خلاله، علما أن هذه الوسيلة (الإنسان)، هي مخيّرة وليست مجبرة.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: (يستفاد من كلمة «أجرِ» مضمونان: المضمون الأوّل: أنّ الإمام يُنسب فعل الخير الذي يفعله الإنسان إلى الله تعالى؛ حيث يُفهم ذلك من صيغة الطلب «أجرِ». وهذا معناه أنّ الإنسان المباشر بفعل الخير هو وسيلة أمّا الفاعل الحقيقي للخير فهو الله تعالى؛ إلاّ أنّ هذه الوسيلة مختارة وغير مجبرة على فعل الخير وتركه ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ إذ لولا الاختيار لبطل الثواب والعقاب).
ولغويا سوف نستدل على أن فعل (أجر) الذي استعمله الإمام عليه السلام في دعائه، يفيد بالاستمرارية، استنادا الى ما ورد في النص القرآني واستعماله لمفردة على وزن (فعلان) كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله:
(المضمون الثاني: أنّ مادّة هذه الكلمة، (أجر) وهي: الجريان، هي على وزن فَعلان، وكما هو معروف في كتب اللغة فإنّ هذا الوزن يدلّ على الاستمرار وعدم الانقطاع، كما في وصف الله سبحانه للحياة الآخرة بأنّها هي الحيَوان، في قوله تعالى: ﴿وَإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾(1) فاستعمل صيغة فَعَلان (حيوان) أي الحياة المستمرّة المتواصلة التي لا انقطاع لها).
إعطاء النِعَم للمتديّن وغير المتديّن
ولا يتم تخصيص منح الخير الى أناس بعينهم، أو فئة محددة من البشرية، بل كما نفهم من تفسير وملاحظات سماحة المرجع الشيرازي ومعنى دعاء الإمام (ع)، أن الخير يشمل الجميع، مسلم أو غير مسلم، ب حتى من لا يعتنق أي دين يكون مشمولا بهذا الخير، هذه هي مبادئ أئمة أهل البيت عليهم السلام، إنهم يطلبون بشفاعتهم عند الله أن يجري الخير على أيدهم ليشمل حتى الكافر، فأية قيم هذه، وأية إنسانية فريدة من نوعها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع: (الكلمة الثانية، من هذه الفقرة هي قوله سلام الله عليه: (للناس). وهذا معناه أنّ الإمام يطلب من الله تعالى أن يجري على يديه الخير لجميع الناس وليس للمؤمنين أو المسلمين وحدهم بل لكلّ الناس مؤمنين ومسلمين وغيرهم بل حتى لغير المعتقدين بدين أصلاً. هكذا يسأل الإمام من الله تعالى، ويرشدنا أنّه ينبغي لنا أن نسأل الله تعالى في أن يجري الخير على أيدينا لكلّ الناس).
هذه هي فلسفة الخير التي يؤمن بها أئمة أهل البيت، وطبقوها عمليا في حياتهم على الرغم من أن الحكام المتجبرين وحكوماتهم الظالمة كانت تحاصرهم وتحاربهم وتستهدفهم أبشع استهداف، لكن الخير بالنسبة لهم عليهم السلام، لا يُقصَر على المسلمين فقط، إنما البشرية جمعاء لها حصة بالخير الذي يجريه الله تعالى على أيديهم ومن خلال شفاعتهم عنده سبحانه، وهو تعالى الذي يختار من يستحق من عباده أن يجري على يديه الخير للإنسانية كلها، ومن بينها المسلمين.
نلاحظ في هذا المجال قول سماحة المرجع الشيرازي الذي يؤكد فلسفة الخير الشاملة بقوله: (كما أنّ الله سبحانه وتعالى يعطي النعم للمؤمن والكافر، والمتديّن وغير المتديّن كذلك الإمام يسأل الله تعالى أن يجري على يديه الخير لجميع الناس دون تمييز. وهكذا كان أهل البيت سلام الله عليهم، يجري الخير على يديهم لجميع الناس).
هذه هي فلسفة أئمة أهل البيت عليهم السلام، يطلبون الخير من الله تعالى أن يجري على أيديهم، فيشمل الجميع، حتى الكفار، ولا شك أن هذه الفلسفة مدروسة مسبقا، لاسيما التأثيرات التي تتركها في نفوس من يطلّع عليها، ويتم شموله بها، فالإنسان الذي يشعر بالمساواة والعدالة في عطاء الخير، سوف تتضح له أمور كثيرة غائبة عن ذهنه وتفكيره، وقد يكون ذلك دافعا له كي يعود الى الجادة الصواب.
الأعمال الخيرية يبطلها المنّ
إن الإمام الصادق عليه السلام خبر هفوات النفس ودرس نقاط ضعفها، ويعرف أن الشيطان يبذل كل ما في وسعه كي يُسقط النفس في حبائله، وإنْ حدث مثل هذا الإغواء واستجابت له النفس، فإن عمل الخير هنا لا يفيد صاحبه بشيء، حيث الشيطان يدفع بالإنسان نحون المنّ بعد أن يقدّم الخير للآخرين، ولكن المنّ يخرّب كل ما يقدمه الإنسان من خيرات، بعد أن يختاره الله تعالى ويجعل منه وسيلة يجري الخير من خلالها.
لذلك يحرص الإمام على أن يدعو الله تعالى كي يعينه على درء خطر الشيطان وتحصين النفس من مغرياته، فقد تندفع النفس نحو الغلو والتبجح، وربما يذهب من يجري الخير على يده الى المنّ على من يقدم لهم الخير، وقد يضعف الإنسان أمام نفسه، وعلى الرغم من أن الإمام (ع) معصوم، إلا أنه يدعوا الله أن يحفظه من الشيطان، كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي:
(إنّ الإمام سلام الله عليه بعد أن يسأل الله تعالى أن يجري على يديه الخير للناس، يسأله قائلاً: ولا تمحقه بالمنّ. أي، إلهي أنت إذ وفّقتني وأجريت للناس على يدي الخير لا تمحقه بالمنّ، فاحفظني من الشيطان ولا تكلني إلى نفسي، فإني لا أستطيع النجاح مستقلاًّ عنك).
وحتى يبقى عمل الخير جاريا مستمر، ولكي يبقى الإمام (ع) وسيلة دائمة لتقديم الخير الجاري لجميع الناس، فإنه (ع)، يدعو من الله تعالى أن يبعد عنه المنّة لأنها تبطل عمل الخير، وهكذا هم أئمة أهل البيت عليهم السلام، على الرغم من أنهم معصومون، إلا أنهم يدعونه تعالى الى حماية النفس من الزلل، وهذا درس إضافي للإنسان كي يحتاط من المنّ وسواه من الأخطاء التي تمحق أعمال الخير.
إذاً هي فلسفة الخير الشامل التي ينبغي علينا أن نتعلمها في مدرسة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام ونتقنها جيدا ونطبقها في حياتنا، وذلك من أجل زيادة الخير أضعافا، وشمول أكبر عدد من البشر بها، طالما أنه تقع في إطار فلسفة الخير الشامل لأهل البيت عليهم السلام.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع بكتابه (حلية الصالحين: (أمّا المحق فهو الإبطال والمحو والإحباط. وقد ورد استعمال الإبطال وأريد منه المحق أكثر، مثل قوله تعالى: ﴿لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى./البقرة: 264﴾ أمّا المحق فقد ورد قليلاً ومنه قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ./آل عمران:141﴾(7)، وهنا أيضاً قال الإمام سلام الله عليه في دعائه: «ولا تمحقه بالمن» لأنّ المنّة تحبط عمل الخير وتبطله.
اضف تعليق