ما أعظمها من مدرسة انسانية، تلك التي أسس لها نبي الاسلام محمد بن عبد الله (ص)، وما أروعها من دروس ذات مضامين عظيمة خالدة لا تفرق بين إنسان وآخر إلا على أسس عظيمة كالتقوى والعدل والإيمان وقيم الخير، يحدوها الجانب الانساني وتقودها الاخلاق الرفيعة والتعاون والبحث الدائم عن حلول للعقبات والمشكلات عبر التفاوض والحوار، إنها مدرسة محمدية علّمت المسلمين عند بناء دولتهم بأن الحوار هو الوسيلة الأعلى والأفضل في التعامل مع الآخرين حتى الأعداء منهم.
لقد فضّل الرسول الكريم (ص) اسلوب المدنية الراقية، واحتواء الصراع بالتفاوض البناء، على اسلوب الحرب والصراعات التي لا تجدي نفعا، وقد أخذ أئمة أهل البيت هذا الاسلوب العظيم من جدهم وقائدهم (ص)، فكانت حياتهم عبارة عن كنز من الثراء الانساني الذي خدم الاسلام والمسلمين والانسانية جمعاء ووضع أمامها خارطة طريق لاحتواء الحروب والصدامات بأنواعها كافة، لذلك لم يبدأ الرسول (ص)، ولا الامام علي (ع) ولا أحد من أئمة اهل البيت حربا مع عدو، بل كانت الدعوة الدائمة للحوار وايجاد الحلول البناءة سلميا طريقهم واسلوبهم الدائم.
في كلمته القيمة بحضور عدد من المبلغين والضيوف الكرام، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم، قال سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): (من العبر التي يمكن استلهامها من حياة النبي صلى الله عليه وآله، هي سيرته في حروبه مع اليهود الذين كانوا أطراف المدينة. فقد سعى أحد زعماء اليهود إلى الكيد بالنبيّ صلى الله عليه وآله وقتله والقضاء على الإسلام من أول وصول النبيّ صلى الله عليه وآله للمدينة. فبدأ يعدّ العدّة والعدد، وجمع الكثير من الأموال والسلاح، وعبّأ الكثير من الرجال لذلك، وبقي على هذا المنوال لسنين عديدة).
ولكن عندما يتم تجريب جميع طرق الحوار والمفاوضات، ويبقى الآخر مصرا على استخدام الحرب، ولم تجدي معه جميع المحاولات البناء للحوار والتفاوض، عند ذاك ينبغي أن يستعد المسلمون لخوض القتال دفاعا عن النفس لا أكثر.
كما اكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (المشركون في معركتي بدر وأحد لم يستطيعوا القضاء على الإسلام، وكان لنتيجة تلك المعركتين التأثير على ذلك اليهود بأن يصمّم أكثر على قتل النبيّ. فعزم على ذلك، وعلم النبيّ صلى الله عليه وآله بما عزم عليه اليهودي، فدعا صلى الله عليه وآله أهل المدينة إلى التهيّؤ للدفاع).
عدم الشروع بالحرب ضد عدو
ثمة مبدأ محسوم من المبادئ التي استند إليها الرسول الاكرم (ص)، في بنائه للمجتمع الاسلامي ودولة المسلمين، هذا المبدأ هو علوّ شأن التعامل الانساني على جميع التعاملات الاخرى، لذلك لا للحرب ونعم للتفاوض وايجاد البدائل المناسبة البديلة للقتال، وعدم اللجوء إليها إلا اضطرارا، حيث يشير سماحة المرجع الشيرازي في كلمته هذه الى أن:
(النقطة المهمة والداعية إلى التأمل في سيرة النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه وحتى الإمام الحسين صلوات الله عليه هي أنهم صلوات الله عليهم لم يبدؤوا بالحرب ولا بحرب أبداً. فكل حروب النبيّ صلى الله عليه وآله كانت دفاعية ولم يبدأهم صلى الله عليه وآله بالحرب).
إن اليهود كانوا يضمرون العداء للمسلمين، وكان هذا السلوك واضحا لقائد المسلمين (ص) وللمسلمين أيضا، وقد جرب الرسول الأكرم (ع) كافة السبل والطرائق والأساليب التي تتجنب الحرب، عبر التفاوض حيث يتم ارسال الوسطاء الى الأضداد والمناوئين من أجل ايجاد الحلول المناسبة لجميع الاطراف المختلفة عبر الحوار، على ان يتم استنفاذ جميع اساليب ومحاولات التفاوض، وفي حالة اصرار الآخر على الحرب وشروع بالقتال، عند ذاك يتعلق الامر بالدفاع عن النفس والدخول بالقتال حفاظا على النفوس والممتلكات.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (كان من طرقه للسلم أنه صلى الله عليه وآله كان يبعث رسولاً وممثّلاً عنه إلى العدو ويدعوه للتفاوض. وكان ممثّله صلى الله عليه وآله يسعى كثيراً عبر التفاوض إلى دعوة العدو لعدم الحرب. فبعث صلى الله عليه وآله ممثّلاً عنه إلى اليهود للتفاوض معهم، ولكن لم ينفع معهم. فبدأت الحرب، وكان اليهود يسكنون في الجبال بأطراف المدينة، وكانت لهم فيها القلاع والحصون وبيوتهم، وبهذا كانوا بمثابة المشرفين على المسلمين الذين كانوا يعيشون في الأرض المنبسطة. وهذه الوضعية كانت بمثابة الموقع الاستراتيجي وبصالح اليهود. ولكن الله تعالى وعد نبيّه بالنصر، وهذا ما وقع، وغنم المسلمون غنائم كثيرة).
تعليم الأخلاق والمروءة للناس
لا بأس في أن يسعى الانسان الى الدفاع عن حقه، ولكن قد تكون هناك دروس انسانية تفوق هذا الجانب أهمية، وهي تعليم الناس الاخلاق والمروءة وقيم الخير والتعاون والسلام، لذلك قبل السعي الى تثبيت حق الانسان، عليه أن يسلك السلوك الذي يكرس التعامل الانساني والاحترام بين الناس، حتى المختلفين منهم، فهناك قواعد وتقاليد واخلاق ينبغي أن تحافظ على قيمة الانسان حتى في حالات الاختلاف الشديد.
لذلك كان النبي (ص)، لا يسعى بالدرجة الاولى لاثبات حقه وحق المسلمين، وانما كان الهدف الأول هو تعليم الآخرين الرحمة والاخلاق والمروءة، أي تكريس قيم التعامل الانساني النبيل، وهذا الاسلوب سوف يقود الجميع الى الحق، فالمهم اولا أن يكون تعامل الانسان سليما، يتجنب الحروب والنزاعات، ويقدم التفاوض وسبل الاحتواء على الصدام، كما كانت سياسة قائد المسلمين (ص)، وهو المدرسة التي استقى منها أهل البيت (ع) دروسهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الاطار: (بما ان الله تعالى قد جعل النبيّ صلى الله عليه وآله أسوة وقدوة للعالمين أجمع، فإنه صلى الله عليه وآله لم يك ساعياً لإحقاق حقّه، بل كان صلى الله عليه وآله يريد تعليم الأخلاق والمروءة للناس جميعاً على مرّ العصور. وكان لهذا التعامل من النبيّ صلى الله عليه وآله الأثر البالغ في دخول الكثير من اليهود إلى الإسلام).
بالمقابل فإن الاسلام يرفض الغدر، ولا يقبل بالطعن في الظهر، إن هذا الاسلوب الغادر ليس من اخلاق الانسان القويم، بل هي من أساليب الجبماء الضعفاء الخبثاء، وهو اسلوب مرفوض قطعا جملة وتفصيلا، وطالما رفضه الرسول (ص) وأئمة اهل البيت جميعا، فلا مجال للسماح للغدر بالنفاذ كقيمة للتعامل بين الناس مهما كانت درجة الخلاف بينهم، لذلك ثمة عبرة كبيرة يمكننا الحصول عليها من مدرسة الرسول الكريم (ص)، في هذا الاطار، حيث الرفض القاطع للغدر أيا كانت الحجج أو أساليب التبرير، فالغدر ليس من قيم الانسان السوي النبيل، ولا من قيم المسلمين، ولا من قيم الانسانية.
لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في كلمته القيمة هذه على أن: (العبرة الأخرى التي نتعلّمها من قصّة النبيّ صلى الله عليه وآله التي مرّ ذكرها، هو تعامل ذلك اليهودي. فالغدر والطعن من الخلف لا يجيزه الإسلام، بل حتى غير الإسلام، حيث قبل الإسلام لم يعمل بذلك المشركين وكذلك اليهود والنصارى وأتباع باقي الأديان، وكانوا يعدّون الغدر بأنه ليس من المروّة والرجولة. ولكن ومما يؤسف له ان الدنيا اليوم ابتلت بذلك وصارت لا تعرف إلاّ الغدر).
اضف تعليق