نحن في الغالب نقول بصوت عال للناس، عليكم أن تصلوا أرحامكم وأصدقاءكم، وأن لا تقطعوا تواصلكم مع هؤلاء أو غيرهم، ولكن أليس من الأفضل أن نقوم نحن بهذا الفعل أمام الجميع، حتى يكون التأثير في الآخرين أبلغ من الكلام والنصيحة، هذا ما يُنسَب لفن تعميق العلاقات وتحسينا وتطويرها، لتكون النتيجة بناء مجتمع مثالي...
(حتى الذي لا يصلك، ويقطع معك صلة الأرحام، عليك أن تصله بنفسك)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
هناك تدرّجات ومسمّيات اجتماعية وردت في كتابات وتقسيمات ومؤلّفات علماء المجتمع، تبدأ بالفرد الذي يشكل العيّنة الاجتماعية الأصغر، ثم تبدأ بعده الأسرة، فالقبيلة صعودا إلى المجتمع الأكبر، الذي يتكون من مجموع الأفراد والعوائل والقبائل وسكان القصبات والمدن المختلفة، مجموع هذه المسمّيات يُطلَق عليها بالنسيج الاجتماعي.
المجتمعات الجادة، تشدّد قبضتها على كل الأدوات المادية والمعنوية والأخلاقية، لكي تصنع نسيجا اجتماعيا متجانسًا، حتى يكون متميزا بالقوة والمتانة والرصانة، وتعتمد على كل فنون العلاقات لتحقيق هذا الهدف، فكلما كان النسيج الاجتماعي مصنوعا بالطرق الصحيحة، كان المجتمع قويا متماسكا تسوده الأخلاق اللطيفة، وتحكمه السلوكيات الرحيمة، ويغدو هذا المجتمع نموذجا للمجتمعات الأخرى، بأخلاقه ورحمته وتعاونه واستقراره وحتى بقوته هو مثال للمجتمعات الأخرى، وذلك من خلال إتقانه لفنون العلاقات الاجتماعية.
كيف يتحقق مثل هذا النسيج الاجتماعي الرصين؟
هناك مجموعة نصائح و وصايا أوصانا بها أهل البيت عليهم السلام، ومجموعة أحكام بسَّطتها لنا الشريعة بشكل واضح وسلسٍ، ومنها على وجه الدقة وصية (صلة الأرحام)، فهي طريقة وفن وأسلوب ناجح جدا لصناعة النسيج الاجتماعي المتكافئ، ولذلك يُنظَر إلى أهل البيت (المعصومين (عليهم السلام) نماذج قيّمة لصلة الرَّحم)، كونهم تمسكوا بهذا السلوك في جميع علاقاتهم، وعملوا به وطبقوه وأوصوا بتطبيقه حتى يُبنى المجتمع الرصين.
وهناك عُرف اجتماعي معمول به وهم أن من يزورك تزوره، ومن يدعوك لوليمة تدعوه لمثلها، ومن يسلم عليك تسلم عليه، لكن أين تكمن الميزة الفنية في هذا الجانب، إنها تكون من حصة الإنسان الذي يسلّم على من لا يسلم عليه، ويدعو من لا يدعوه، ويزور من لا يزوره، هذا الاختلاف العكسي مع الآخرين يدخل في صميم فن العلاقات الراقية.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول محاضرته القيّمة (صلة الرحم)، وهي ضمن سلسلة محاضرات نبراس المعرفة:
(من الطبيعي أن يصِل الإنسان من وصله، فإذا دعاك شخص ما إلى مأدبة طعام، سوف تدعوه إذا كانت لديك مأدبة أيضاً، ومن الطبيعي أيضاً أن تسلّم على من يُسلم عليك، وأن تهدي من يهدي إليك، وما إلى ذلك).
كيف تتميز في علاقاتك الاجتماعية؟
لذا فإن التميّز لا يكمن في ردات الفعل المتوقّعة، فأمر طبيعي أن الإنسان الذي يبادرك بفعل اجتماعي معين سوف تجيبه بنفس الطريقة، ولكن الميزة الكبيرة تكمن في الخطوة غير المتوقّعة التي تقوم بها تجاه الآخرين، فالإنسان الذي لا يسلّم عليك، كيف تتصرف معه؟، أمامك خيارات معينة، منها أن تواجهه بالمثل، أو تتجاهله، ولكن أفضل وأقوى الاحتمالات أن لا تعامله بالمثل، فتدعوه حين لا يدعوك، وتزوره حين لا يزورك وهكذا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(من طبع الإنسان أنه يوجّه دعوه لمن دعاه ويردّ جميله بالمقابل، ومن الطبيعي أن يفرض عقله عليه الإحسان لمن يحسن إليه، وهذا ما تدعو السنن الشرعية كلها إلي، ولكن الكلام في الشخص الذي يلتقيك ولا يسلّم عليك، فهل تسلم عليه إذا لقيته في مكان ما؟).
إن شهوة النفس تضغط على الإنسان كي يكون رد فعله مماثلا لما يقوم به الآخرون تجاهه، فلا تقبل نفس الإنسان التنازل للآخر، ظنّا منها أن عدم السلام على من لا يسلّم هو التصرّف الأمثل أو الأصحّ، ولكن الأمر ليس كذلك أبدًا، الصحيح هو أن تستثمر فن العلاقات السليمة، وأن تخالف وتردع نفسك عندما لا تجاريها بما تطلبه منك.
فهي سوف تأمر أن لا تسلم على من لا يسلّم عليك، لأنها أمارة بالسوء، وتمنعك عن اعتماد السلوك الأخلاقي المتميز، واعتماد الفنون الأخلاقية الرائعة في التواصل مع الناس.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(من طبع الإنسان أنه لا يسلّم على من لم يسلّم عليه، لأن طبيعة النفس الأمارة بالسوء لا تسمح بذلك. وهكذا بالنسبة لمن كانت لديه وليمة ولم يدعك إليها، فمن الطبيعي أن لا تدعوه إلى وليمتك، رداً على عمله. فمن غير الطبيعي أن تتنازل وتدعوه إلى وليمتك، لأن هذا التنازل يخالف شهوات نفسك الأمارة بالسوء).
عليك أن تخالف نفسك، فهي تجد لك كل المبررات كي لا تسير في طريق بناء النسيج الاجتماعي المتين، وقد تسخر من فنّك الرصين في تطوير العلاقات الاجتماعي، وتقول لك بأنك ضعيف وكذا، فتسعى لمنعك من المبادرة اللطيفة التي تجعلك محترما متميزا أمام الجميع.
الإحسان بالقول والعمل
فعندما يأتي أحدهم بأحد الأفعال غير الصحيحة، كيف تواجهه، مثلا أنت تعرف بأنه لا يستحق الهدية منك، لأنه لم يبادر في يوما ويقدم لك هدية من أي نوع كان، لكن مع ذلك قمْ بما لا يفعله هو، هذا ما يسمى بفن العلاقات الصحيح، فحين تبادله بنفس فعله لا تأتي بأي شيء جديد، ولكنك حين تهديه هدية رغم أنه لم يفعل هذا معك، هنا يكمن الاختلاف والتميّز.
يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) هذه النقطة المهمة فيقول:
(لكن العمل الصحيح، أن تدعوه إلى تلك المأدبة وإن لم يدعك إليها، وأن تسلّم عليه وإن لم يسلّم عليك، وأن تقدّم له هديه وإن لم يهدك بهدية. هذا هو معنى مخالفة النفس الأمارة بالسوء).
أمامك طريقان في إدامة العلاقات الجيدة مع محيطك الاجتماعي، فما تقدمه للناس بلسانك يُعدّ من القضايا المعنوية غير الملموسة، فحين تقول له كلمة جيدة وتمنحه صفة راقية، فإنك تكسبه بلسانك وهذا كما يُقال (أضعف الإيمان)، ولكنك اعتمدت هنا على فن العلاقات الراقية ونجحت في كسب القلوب.
وهناك طريق آخر حينما تُحسِن للآخرين بالعمل وليس باللسان، كأن تقدّم له هدية، أو تساعده في عمل معين، أو تنفذ له حاجة فعلية يحتاجها منك، هنا سوف تعتمد فن العلاقات العملية الملموسة التي تفوق الكلام، لأنه أسهل عادة من العمل الذي يتطلب جهدًا أو أموالا أو وقتا وهكذا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إن قيامك بهذا العمل هي نقطة أخلاقية مهمة جداً، فالأمر بالمعروف والدعوة إليه والتشجيع عليه والتوجه إليه قد يكون باللسان وهذا أضعف الأمرين، وقد يكون بالعمل وهذا أقوى الأمرين).
نحن في الغالب نقول بصوت عال للناس، عليكم أن تصلوا أرحامكم وأصدقاءكم، وأن لا تقطعوا تواصلكم مع هؤلاء أو غيرهم، ولكن أليس من الأفضل أن نقوم نحن بهذا الفعل أمام الجميع، حتى يكون التأثير في الآخرين أبلغ من الكلام والنصيحة، هذا ما يُنسَب لفن تعميق العلاقات وتحسينا وتطويرها، لتكون النتيجة بناء مجتمع مثالي.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(عندما يدعو الإنسان الآخرين بقوله: صِلوا من قطعكم، فكم سيكون تأثير هذا القول على المجتمع؟، لابد أن يكون له تأثير على بعض النفوس الطيبة والقلوب الرقيقة. ولكن إذا قام الإنسان بهذا العمل بنفسه ووصل من قطعه، فهذا سيكون له تأثير أكبر في نفوس الآخرين).
في الخلاصة أو النتيجة نحن نحتاج إلى اعتماد فن العلاقات الذي يساعدنا على بناء منظومة قيم فعالة، تجعل العلاقات الاجتماعية أكثر متانة ورصانة، ويكون المجتمع قويا متماسكا تحكمه القيم الأخلاقية والمعنوية وليست القيم الدخيلة، وعلاقة صلة الرحم فن من فنون العلاقات الناجحة التي تبني مجتمعا راقيا متطورا.
اضف تعليق