الدنيا جسر للآخرة، فالإنسان مهما عاش في الدنيا فهو كمن يمرّ على قنطرة، هذه سنّة الحياة التي تجري في الإنسان سواء كان عمره خمسين عاماً أو مئة عام أو أقل من ذلك أو أكثر، لأنه مهما طال عمر الإنسان تبقى حياته الدنيوية مثل القنطرة التي يُستفاد منها للعبور إلى الجانب الآخر...
(من طبيعة الإنسان أنه يسعى إلى إحياء هذه الدنيا بكلّ طاقاته)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
من القضايا الطبيعية جدا، أن يسعى الإنسان إلى بناء حياته وتطويرها وتحسينها في المجالات والمستويات كافة، فهذه طبيعة أنشأها الخالق تعالى في المنظومة التكوينية للإنسان، والهدف منها واضح، فحياة الإنسان يجب أن يعيشها بالمستوى الأفضل والأحسن، وهذا شيء مباح شرعا وقانونا وعُرفا، فالدين لا يعترض على الإنسان عندما يسعى جاهدا لتحسين حياته وعائلته وحياة كل من يقع ضمن مسؤوليته، وكذلك الشرع لا يعترض.
حتى الأعراف الاجتماعية الجيدة المتعارف عليه، لا تقف حاجزا بين الإنسان وطموحاته في تحقيق حياة جيدة ومستوى معيشي أفضل، بل القوانين أيضا تمنح الإنسان الفرص التي تكفل له تحسين حياته والارتقاء بمستوياتها، لكن هناك إشكالية غالبا ما ترافق طموح الإنسان وسعيه في تحسين حياته وتحقيق طموحاته، هذه الإشكالية تحدث عندما يسعى الإنسان للارتقاء بحياته ومن معه بأسلوب يخرق المسموح في الشرع والقانون والعُرف.
هنا تبدأ المشكلة بالظهور، وينتج عنها افرازات لا تليق بالإنسان، فحين يتجاوز الإنسان الخطوط الحمر غير المسموح بها، هذا يتسبب بإرباك وفوضى في حياة الآخرين، وقد يهبط مستوى معيشتهم، ويتعرضون للضغط النفسي والخوف والقلق، وهذه افرازات تحطم حياة الناس، ولا يجوز ولا يصح أن يحسّن الفرد مستوى حياته ومعيشته على حساب الآخرين، وتجاوزه للأحكام الشرعية والقوانين والأعراف يضرب مصالح الآخرين، خصوصا أولئك الباحثون عن السلطة والمال والمناصب.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في محاضرة قيمة له عنوانها (حبّ الدنيا) وهي ضمن سلسلة نبراس المعرفة:
(كم من أناس وقد تجاوزت أعدادهم الملايين، أتلفُوا دنياهم وآخرتهم، لأنهم علّقوا آمالهم بالمناصب والملذّات، فعرّضوا أنفسهم للقتل بسبب حبّ الدنيا، بل وقام بعضهم بقتل الأبرياء وسرقة أموالهم والاعتداء على أعراضهم بسبب حبّهم لتلك المناصب الدنيوية. فهدروا بذلك كرامتهم وكرامة الناس الأبرياء).
لا للطموحات المميتة
لهذا فإن التمسك بالدنيا أكثر من المقدار المسموح، سوف ينعكس بالضد تماما، وتبدأ الافرازات السيئة تظهر بشكل واضح، لتؤذي الناس الآخرين، وتعكّر صفو حياتهم، وتقلل من درجة اطمئنانهم، وهذا أمر غير مسموح به، فلماذا تتجرّأ وتطور حياتك وتحسّن معيشتك على حساب حقوق الأخرى؟، هذا الأمر مرفوض بشكل قاطع، بل يمكنك أن تصل إلى أعلى المستويات ولكن باستخدام الأساليب المسموح بها في إطار الشرع والقانون.
لهذا فإن مقدار حبّك للدنيا سوف يجلب لك الضرر بنفس مقدار محبتك لها، لذا تمت النصيحة بأن لا يتعلق الإنسان بالدنيا، ولا يتمسك بها، بل يعيشها مثل (عابر سبيل)، أو عابر جسر، لأن الدنيا ما هي إلا جسر يقود الإنسان إلى الآخرة، فهل يجوز أن تبني بيتا على الجسر، وهل تثبت طموحك العالي بمنصب رفيع وأنت إنسان عابر في مكان زائل؟
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ حبّ الدنيا بأي درجة كان، صغيراً أو كبيراً سوف يجلب الخطايا للإنسان بمقدار نسبة المحبّة للدنيا والتعلّق بملذاتها الزائلة).
وهنا يقدم سماحته قصة عن وفاة أحد الشباب بسبب حبّه للمال، ولكن ما فائدة المال عندما يفقد الإنسان حياته نفسها، وما فائدة الإصرار والتصادم واللهاث وراء السلطة والمال والمكاسب وأنت يمكن أن تفقد حياتك في لحظة، أين فائدة المال أو السلطة أو المنصب حين تتعرض للموت وأنت في ريعان الشباب؟
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في تفاصيل هذه القصة:
(ذات مرّة رأيت شاباً قد توفي، فسألت أحد أقربائه: لماذا توفي هذا الشاب وهو لايزال في ريعان شبابه؟، قال أقربائه: لقد توفيَ بسبب مشكلة مالية وقعت بينه وبين شخص آخر، فذات مرة دار بينهما نقاش حادّ حول ذلك الموضوع المالي، وإذا بالشاب لشدّة إرهاقه وعصبيته جلس على كرسي كان خلفه، فمالت رقبته على كتفه وفارق الحياة. عندما نقلوه إلی المستشفى قال الأطباء إنه مات بسبب الجلطة. ولكن لماذا مات هذا الشاب؟ أليس المال وسيلة للعيش؟).
لذا فإن المطلوب من الجميع أن يتنبّهوا إلى الافرازات المميتة التي تتسبب بها الطموحات غير المسموح بها، وهي تلك الطموحات التي تضرب العدالة في صميمها، وتتجاوز على حقوق الآخرين، كما يحدث في حالات الاختلاس أو السرقة التي تطال ثروات الفقراء في دول وشعوب عديدة، ولا شك أننا رأينا رؤية العين كيف يتم قتل الأبرياء بسبب حب المال والسلطة.
وهذا ما يذكره سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حين يقول:
(ينبغي التوجّه إلى مسألة مهمة، هي أن حبّ المال وحبّ السلطة وحبّ الملذات الدنيوية كانت ولاتزال سبباً لقتل ملايين الأبرياء وتعرّضهم للظلم).
الدنيا جسرٌ للآخرة
والآن نتوجّه بالسؤال التالي للحكومات السابقة والحالية، التي ظلمت الناس، وجعلتهم تحت التعذيب، وتعاملت معهم بأشد وأبشع أساليب القمع، أليس هذا كله من أجل الاحتفاظ بالسلطة والمال والقوة والمناصب؟
نعم قرأنا عن حكومات في التاريخ قامت بأبشع أساليب التعذيب والمطاردة لكي تبقى عروشها سالمة من السقوط، فألحقت الأذى بملايين الناس الأبرياء، والنتيجة ماذا حصل هؤلاء الحكام، وماذا جنت حكوماتهم غير لعنة التاريخ ولعنة الناس جميعا، وكذلك سوف ينال هذه النتيجة جميع الحكومات التي تؤذي الناس من أجل المال والسلطة والمناصب.
يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) فيقول:
(لنسأل: لماذا الحكومات الظالمة على مرّ التأريخ سواء كانت كافرة تتبنّى دساتير وضعية أو حكومات انتحلت صفة الإسلام، كبني أمية وبني العباس وبني عثمان وأمثالهم؟ لماذا ظلموا الناس؟ ولماذا قتلوا الأبرياء؟ ولماذا عذّبوا السجناء؟!، كانوا يفعلون ذلك من أجل الدنيا، لأن هذه الرئاسة والحكومة التي يحبّونها جرّتهم إلى المعاصي الكثيرة والذنوب الكبيرة، فحبّ الدنيا رأس كل خطيئة).
إذن حب الدنيا يعني حب المال والسلطة والملذات، وهذه افرازات سيئة جدا لتمسك الإنسان بالحياة، فهو في كل الأحوال في طريقه إلى الزوال، وعمره محصور بين الـ 50 سنة والـ 100 سنة أو أكثر قليلا، وماذا بعد، هل سيخلد الحاكم في هذه الدنيا، ولكن أين الحكام الجبابرة، وهل يخلد الأقوياء والأغنياء، فأين قارون وملْكه؟
كل تلك السلطات والأموال والذهب والمناصب إلى زوال، الباقي هو الذكرى السيئة واللعنات الباقية للأبد لكل من ظلم الناس وتجاوز على حقوقهم، فهل يقرأ المسؤولون والحكام والحكومات هذا الكلام، وهل يتعظوا قبل فوات الأوان، وهل يعرف الظالمون إن ما تفرزه الأموال الحرام، والسلطة الظالمة، سوف يذهب هواء في شبك، وأن الإنسان يعبر هذه الدنيا كالقنطرة إلى الآخرة، فهل يفهم الظالمون هذه العبرة ويعودوا إلى رشدهم؟
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الدنيا جسر للآخرة، فالإنسان مهما عاش في الدنيا فهو كمن يمرّ على قنطرة، هذه سنّة الحياة التي تجري في الإنسان سواء كان عمره خمسين عاماً أو مئة عام أو أقل من ذلك أو أكثر، لأنه مهما طال عمر الإنسان تبقى حياته الدنيوية مثل القنطرة التي يُستفاد منها للعبور إلى الجانب الآخر).
لقد باتت افرازات حب المال والسلطة واضحة، وهي تعني حياة وقتية فيها يمتلك الإنسان المال والسلطة، لكنه غالبا يظلم الناس، ويغتصب حقوقهم، وهذا سيجعله مطلوبا لهم أمام الله تعالى، وأن يوم الحساب آتٍ عاجلا أم آجلا، لذا فهذه الدروس التي نقرأها هنا، وهذه الشروحات والوصايا التي نتطلع فيها يجب أن لا تمر مرور الكرام من أمام أعين الحكام، لاسيما أولئك الذين يبطشون ويظلمون لكي تستمر سلطتهم، فكل شيء زائل إلا عملكم الصالح الصحيح.
اضف تعليق