العدل كمنظومة لتطهير القلوب

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

ضرورة وجود العدل كأساس تقوم عليه إدارة الأفراد والعوائل والمدن والبلدان، لأن العدل ببساطة له قدرة تامة وحاسمة في تطهير القلوب، وإذا تطهرت القلوب، نجحت وتقدمت المجتمعات، وكذلك ينجح ويتقدم الأفراد والعائلات، لأن العدل سوف يدعم العلاقات المتوازنة القائمة على المراعاة والمساواة والدعم المتبادَل...

(العدل هو أن تضع كل شيء في حجمه وتقديره) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

العدل مفردة تأتي في إطار العدالة بين الأشياء، وبين الناس أيضا، ولنتصوّر أن مجموعة من البشر يعيشون في ظل منظومة عدل جيدة، ماذا ستكون النتائج؟، الجواب لابد أن حياة هؤلاء الناس ستكون في غاية الاستقرار والسعادة، كون الحقوق محفوظة، والعلاقات محمية، والثقة تعم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الناس مع بعضهم البعض أيضا.

منظومة العدل تقوم بتنسيق العلاقات والمشاعر بين الناس، ما مدى صحة هذا التوصيف على المستوى الواقعي أو الفعلي، هل حقا العدل ينسق القلوب كما تقول السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتها الفدكية؟

بالطبع في عالمنا البشري الراهن لا توجد تجربة معروفة عن سيادة العدل في مجتمع معين أو دولة معينة، لكن القضية هنا نسبية، ويمكن أن نحسم القول بأن المجتمع أو الجماعة التي تسودها العدالة تجدها متقاربة ومتحابة لأن العدل ينسق قلوب أفراد هذه الجماعة، ويجعلهم واثقين من بعضهم البعض، صادقين في تعاملاتهم، لن تقترب منهم الأحقاد ولا الضغينة، لأن العدل هو السائد فيما بينهم.  

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يذكر في محاضرة له تأتي ضمن (سلسلة نبراس المعرفة: العدل) ما يلي:

(قالت مولاتنا الزهراء صلوات الله عليها في خطبتها الفدكيّة: جَعَلَ اللَّهُ... الْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ). التنسيق هنا بمعنى التطهير، بینما العدل أن تضع كل شيء في حجمه وتقدیره المناسب).

 فالتنسيق بين الأشياء هو تطهيرها، وتنقيتها من جميع الشوائب التي تعلق بها، بينما العدل هو وضع الأشياء وفق حجومها ومقاديرها من دون تمييز أو إخلال بحجم ومقدار الأشياء، وفي هذه الحالة سوف نضمن نوعا من الانسجام التام في العلاقات المتبادَلة، وفي التعاون والتناسق، وفي الحركة، وتنظيم الحقوق وما شابه، لأن جميع هذه الفعاليات في إطار العدل ستكون مضمونة وجميع العلاقات متوازنة وموثوقة.

ضبط ميزان الحقوق والواجبات

ثنائية التنسيق والعدل هنا تضمن نتائج جيدة، وتبعد الخلل في ميزان الحقوق والواجبات، تماما كما تقوم أعضاء الجسد كل وفق حجمها وشكلها وضمن المهمة الموكلة لهذا العضو أو ذاك، فأعضاء الجسد ليست متشابها في أحجامها، الأنف مثلا أصغر حجما من قدم الإنسان، وتبعا لهذا الاختلاف هناك اختلاف في العمل والمهمة التي تقوم بها أعضاء الجسد، وهذا يعيدنا إلى نص الحديث الشريف: (بالعدل قامت السماوات والأرض).

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إن أعضاء جسم الإنسان كل واحد منها له حجم خاص يتناسب مع وظيفته، فعين الإنسان وأذنه وأنفه لها أحجام تختلف عن حجم القدم والید وبعض الأعضاء الأخری، فلو کانت جمیع الأعضاء بحجم واحد لما استطاع الإنسان الاستفادة منها بشکل صحیح، ولما قامت هذه الأعضاء بوظائفها الجسدیة. لأن (بِالْعَدْلِ قامَتِ السّماواتُ وَالأَرْض).

وهكذا فإن العدل فريضة إلهية، هدفها الأول والأخير هو (تطهير القلوب)، ومسح الضغائن تماما، وجعل القلب ذلك الوعاء الصالح الجميل الذي لا يقبل بدخول أي شيء قبيح إليه، بل يسمح فقط للأشياء الجميلة المتسامحة أن تدخله، استنادا إلى منظومة العدل التي تسود بين الجميع، وتنظّم العلاقات فيما بينهم، وخاصة ما يتعلق بالواجبات والحقوق وحمايتها.

منظومة العدل هذه تكفل خلوّ القلوب من كل شيء ضار للإنسان، تمنع وجود الحقد في القلوب، وتمحو جميع حالات السواد التي تسعى كي تتسلل للقلوب بطرق خبيثة، العدل يغلق جميع الأبواب التي ينفذ منها الحقد أو الغل نحو القلوب، هذه هي المهمة الكبيرة التي يتكفل بها العدل، وهي مهمة سعى لنشرها وتطبيقها الأنبياء والرسل والأئمة والأولياء الصالحين، حتى لا تظهر المساوئ الموجودة في القلوب على الألسن.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): 

(إن الله تعالى فرض العدل لتطهير القلوب مع بعضها حتى لا تكون متناحرة ومتنافرة فیما بینها، وأن تکون خالیة من الحقد والغلّ والأمور الخفية المظلمة التي تخرج من القلب وتظهر على اللسان واليدّ، لتصطحب معها الموبقات والمشاکل).

العدل لا يخص البشر وحدهم، فهنالك أيضا النظام الكوني الهائل القائم على العدل والتناسق التام، لدينا مثلا الكرة الأرضية أو كوكب الأرض وما يمثله من حجم هائل غباري يحتوى على كميات هائلة من الطبقات الغبارية المختلفة، لابد أن يكون هناك انسجام ونوع من التوازن والتعادل في الأحجام والمسافات، لأن أي خلل في هذا المجل حتى بمقدار قيد أنملة سوف يؤدي إلى خلخلة النظام الكوني كله.

ولو أن الشمس كانت أكبر أو أصغر من حجمها الحالي، لحدث اختلال مع الكرات الأخرى التي تملأ الكون ضمن دائرة المنظومة الشمسية، لذا فإن الله تعالى ضبط الكون وأجزاءه كلها بنظام قائم على التوازن والعدل، حتى يكون منضبط ودقيق في حركيته. 

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(الشمس على سبیل المثال ـ هذه الكرة الترابیة الضخمة التي تصدر عنها حرارة عالیة ـ إن كان حجمها أكبر أو أصغر لما انسجمت مع باقي الكُرات الأخری التي تقع ضمن دائرة المنظومة الشمسیة، فكل شيء عند الله قائم بالعدل).

العدل يزيد من متانة المجتمع

كذا الأمر لو أن الأرض كانت على غير ما هي عليه الآن من حالة لا صلبة ولا مائعة، بل صلابتها بدرجة مناسبة ومتوسطة تسمح للطبيعة بأن تنمو وتتمدد فيها، فالغرس النباتي مثلا لا يمكن أن يتم في أرض صلبة، والإنسان في نفس الوقت لا يمكن له العيش في أرض مائعة أو رخوة، وهذا يعني أن حالة التوازن مطلوبة.

كذلك فيما يتعلق بالمسافات بين الكواكب والمجرات مثلا، المسافة ما بين الأرض والشمس، لو أنها اختلف عما هي عليه الآن بعدا أو قربا فإن زيادة الحرارة ستقتل الكائنات، إذا تقاربت الشمس والأرض، وفي حالة التباعد سوف يحل البرد والتجمد بالكائنات، إذن هناك نظام ثابت وعادل سواء في المسافات أو في الأحجام، وهذا ينطبق على الإنسان أيضا.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:

(الأرض مثلا لو كانت صلبة كالحديد لما نبت عليها شيء، ولو كانت رخوة كالماء لما تمكن الإنسان العيش علی سطحها. کما إنّ المسافة بین الشمس وبین الكرة الأرضية هي التي تجعل الكائنات تعيش عيشة طبيعية، فلو كانت هذه المسافة أبعد لتجمدت هذه الكائنات،‌ ولو كانت أقرب لأحترق كل شيء على سطحها).

أما من الناحية الواقعية، فإن العدل يزيد من متانة ورصانة الأسرة وأفرادها، ويسهّل من إدارة العوائل والقرى والمدن أيضا، فإذا تمت هذه الإدارة استنادا واعتمادا على منظومة العدل، فإن جميع القلوب سوف تتطهر، والسبب هو وجود العدل كأساس لإدامة العلاقات والفعاليات والتعاملات فيما بين الناس.

كما أن الزيادة أو النقصان سوف تقود إلى حالة من الاختلال في منظومة العدل، وهذا سيؤدي بالنتيجة إلى نقص في العدل حتى في حالة الزيادة، لذلك إذا زاد الشيء عن حدّه سوف يختلف ضده كما يُقال في الأمثال.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(وهكذا في إدارة الأسرة والقرى والمدن، إذا كانت الإدارة قائمة بالعدل فإن القلوب تطهر، لأن طهارة القلوب لا تتحقق إلاّ بالعدل، لأنه إذا حصل الإفراط أو التفريط فكلاهما سیؤدیان إلی النقص، ولذا قالوا: الزائد كالناقص).

ختاما ضرورة وجود العدل كأساس تقوم عليه إدارة الأفراد والعوائل والمدن والبلدان، لأن العدل ببساطة له قدرة تامة وحاسمة في تطهير القلوب، وإذا تطهرت القلوب، نجحت وتقدمت المجتمعات، وكذلك ينجح ويتقدم الأفراد والعائلات، لأن العدل سوف يدعم العلاقات المتوازنة القائمة على المراعاة والمساواة والدعم المتبادَل.

اضف تعليق