كفّوا عن التجاوز على حقوق الآخرين

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

إن الفرصة متاحة اليوم لمن يرتكبون التجاوزات كي يكفوا عنها، ويتوقفوا عن القيام بالأعمال التي تتجاوز على حقوق الناس، وهي معروفة خصوصا تلك التي تتعلق بالمال العام والممتلكات الخاصة، وكل عمل يشكل إساءة وتجاوزا على حقوق الناس، الفرصة لا تزال موجودة، والتراجع عن الخطأ اليوم أفضل من غدا...

(إن الله تعالى وعد المظلوم بالانتصار له، وإن الله لا يخلف الميعاد)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

كثيرة تلك التجاوزات التي يقوم بها أو يرتكبها بنو البشر، وفي نفس الوقت يحاول الكثير منها أن يبرر هذه التجاوزات على الآخرين، ويسعى من وراء ذلك لإقناع نفسه بأنه لم يرتكب ذنبا، كما فعل قتلة الإمام الحسين عليه السلام، فبعضهم حاول أن يروج لجريمته ضد سبط الرسول صلى الله عليه وآله، بأنها تقع ضمن الواجب، وبعضهم قال نحن نفذنا الأوامر.

ولكن هذه الأعذار والتبريرات لا يمكن أن تشفع لهم، ولابد للناس جميعا أن يعرفوا بأن أي عمل مهما كان حجمه ومقداره صغيرا، فهناك حساب عليه سواء كان في الإيجاب أو السلب، فالعمل الذي ليس فيه تجاوز على حقوق النماس والنفس وفيه فائدة لهم، يصنَّف من أعمال الخير فيتضاعف عشر مرات وفقا للحكم الإلهي الوارد في كتابه الكريم.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته التوجيهية القيمة:

(إنّ الله تعالى دقيق في كل شيء، فهو سبحانه دقيق في محاسبته لأعمالنا من ثواب وعقاب (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *‌ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، سورة الزلزلة 7، 8، فمن صفاته المقدسة هي (اللطيف الخبير) إشارة إلى إحاطته بعلم كل شيء‌ في هذا الوجود).

إن الله تعالى يرى أصغر أعمالنا وأكبرها، فهو سبحانه يلتقطها حتى لو كانت بحجم الذرة التي لا تُرى بالعين المجردة، بل في حالات معينة فقط، يمكن رؤيتها، كما يصف ذلك سماحة المرجع الشيرازي في مشهد خاص له علاقة بالشمس والظلام.. فـ (هناك الملايين من ذرّات الغبار تتطاير في الهواء قد لا نراها بالعين المجرّدة، لخفّة وزنها وضآلة حجمها، لكننا نستطيع رؤيتها في الأماكن الخاصة، كالنظر إليها من المكان المظلم الذي يدخله بصيص من نور،‌ فلو دققنا النظر في ذلك المكان ‌لوجدنا هذه الذرّات تتطاير بالملايين في هذا الجزء الصغير من الهواء).

التبريرات الواهية لا تنفع المتجاوزين

بهذه الدقة المتناهية من التوصيف يعبّر القرآن الكريم عن أهمية العقاب والثواب فيم يتعلق بحقوق الآخرين، كون هذه القضية من أعظم القضايا عند الله تعالى، فلا يجوز خلط الأوراق، ولا تُقبَل الأعذار، أو التبريرات الواهية، كما يحاول بعض المتجاوزين الظالمين أن يفلتوا من عواقب ما فعلوا.

لذلك فإن الأشخاص الصالحين المصلحين، يدعون ليلا نهارا بالفوز (بحسن العاقبة)، من الله تعالى، كون الحساب الدقيق آتٍ لا ريب فيه، وإن الإفلات منه لا يمكن على الإطلاق، من هنا يجب أن يحاذر الجميع من قضية التجاوز على حقوق الآخرين، سواء كانت أموالا (كأموال اليتامى أو الفقراء) أو سواء كانت ممتلكات عينية، أو حتى الحقوق المعنوية لا يجوز إلحاق التجاوز بها، فهناك تحذير كبير من المساس بقيمة الناس وحرمة أشخاصهم لأن الله تعالى أعطى لكل إنسان كرامته الخاصة به، وعلى الجميع أن يلتزم بحمايتها.

من هنا يتبين لنا دقة القرآن في الوصف والتعبير عن المحاسبة الإلهية التي تطال حتى الذرة التي غالبا لا يمكن ريتها بالعين المجردة، فإذا كانت هذه التجاوزات الصغيرة بحجم الذرة يطالها الحساب، فما بالنا بالقضايا الكبيرة والذنوب العظيمة التي يرتكبها بعض الناس بسبب مناصبهم، أو وظائفهم أو مراكزهم التي تتيح لهم هذا النوع من الاختلاس والتجاوز، فلا يمكن أن تمر مثل هذه الأعمال مرور الكرام يوم لا ينفع مال ولا بنون.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): 

(هكذا تظهر لنا الدقّة في تعبير القرآن الكريم في المحاسبة، ‌حيث يرى القرآن أن لكل ذرة وزن وحجم وإن كان صغيراً وضئيلاً، فالذرة لا تُرى غالباً بالعين المجردة في كل مكان. أما مثقال الذرّة، الذي هو أقل من الذرّة فلعل القرآن الكريم مبتكراً لهذا المصطلح).

فرؤية الله تعالى لا تتعلق بحجم العمل، سواء كان صغيرا أو كبيرا، وإنما يتم فرزه إذا كان يقع في جانب الخير أو الشر، جميع أعمال الإنسان تتوحد في يوم الحساب، وتحضر في السجل الشخصي لكل إنسان، ويتم فحصها وفقا للعدالة الإلهية التي تضمن حقوق الجميع دونما زيادة أو نقصان، حيث ينال كل صاحب حق حقه، وكل مرتكب لذنب عقابه.

(إن مثقال ذرّة يعني أصغر جزء يمكن التمثيل والتشبيه به، وقد ذكره القرآن هنا في جانب الثواب والعقاب في قوله تعالى:‌ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فالعمل سواء كان شراً أو خيراً يراه الله اللطيف الخبير).، هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في محاضرته هذه.

يوجد نوعان من العقاب

وحول عمل الخير، فإن الله تعالى يجزي القائمين به، فينالوا ما لهم من خير الجزاء، ولكن إذا كان العكس هو الذي يحصل، ويرتكب الإنسان عملا منافيا للحق، فهناك نوعان من العقاب، إذا كان عمل الشر بين الإنسان وربه فمن الممكن أن يغفر له تعالى كونه عفو كريم.

أما إذا كان التجاوز يلحق الظلم والتجاوز بحقوق الآخرين، فإن الأمر هنا يتعلق بصاحب الحق حصرا، له هو وحده حق العفو عن الآخر الذي ارتكب الذنب بحقه، أو يرفض التنازل عن حقه وهذه هي المشكلة الحقيقية التي سوف يواجهها المجرمون المتجاوزون على حقوق الناس، فإذا لا يعفوا عنهم صاحب الحق، هنا تكمن المشكلة والطامة الكبرى.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):  

(إذا كان عمل الخير بين العبد وربّه فسوف يحفظه الله للإنسان كما يقول سبحانه (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) سورة آل عمران، 195. وأما إن كان العمل شراً (والعياذ بالله) كمن يعصي ربّه، فإن هذا الشرّ، إذا كان من حقوق الله تعالى فمن الممكن أن لا يرى الإنسان ذلك الشرّ فيه لأن الله تعالى كريم).

وهكذا فإن كل مظلوم سوف يمكنه القصاص من الظالم، وكل صاحب حق في المال أو الممتلكات المختلفة، أو الحقوق المعنوية، وأي حق كان، فإن الله تعالى سوف يلزم كل من تعدى على الناس بأن يأخذ نصيبه من العقاب الذي يستحقه.

ذلك لأن الله سبحانه وتعالى وعد كل المظلومين بأخذ القصاص ممن ظلمهم، ولا يفيدهم في يوم الحساب أي عذر أو أي تبرير، وما عليهم سوى الانصياع إلى حكم الحق وإنزال العقوبات التي يستحقونها تجاه تجاوزاتهم على ممتلكات وأموال وحقوق الآخرين كافة.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد على هذه النقطة فيقول:

(أما إذا كان الشر في التعدي على حقوق الناس، وظلم الآخرين، من مال أو حق أو ما أشبه ذلك، فإن هذا الظلم سوف يراه الإنسان، لأن الله تعالى وعد المظلوم بالانتصار له، وأن الله لا يخلف الميعاد، بمعنى آخر من الممكن أن يتجاوز الله تعالى وعيده بكرمه وجوده إذا تاب العبد طبعاً، لكنه لا يخلف الميعاد في حقوق الآخرين).

لذا فإن الفرصة متاحة اليوم لمن يرتكبون التجاوزات كي يكفوا عنها، ويتوقفوا عن القيام بالأعمال التي تتجاوز على حقوق الناس، وهي معروفة خصوصا تلك التي تتعلق بالمال العام والممتلكات الخاصة، وكل عمل يشكل إساءة وتجاوزا على حقوق الناس، الفرصة لا تزال موجودة، والتراجع عن الخطأ اليوم أفضل من غدا، لأن الحمل سوف يكون أقل كلما تاب الإنسان في وقت أبكر مما يليه.

اضف تعليق