نحن نعيش اليوم نتائج التنكّر للغدير، والانحراف عنه، فخسرنا الكثير، ولا زلنا نعاني من تراكمات ذلك الخطأ الفضيع، لأننا لو لم نخسر الغدير لأصبحنا اليوم في طليعة الأمم العادلة المتوازنة، لكن حجم خسارتنا في الحقيقة كبير لدرجة أننا لا يمكن أن نعرف مقداره أو مداه أو ما يترتب عليه من خسارات مستمرة...
(الإمام علي سلام الله عليه مرسي دعائم الحرية في العالم)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
علّمتنا التجارب أشياءً كثيرة، بعضها كبير في أهميته، وهناك ما هو متوسط الأهمية، وبعضها عالٍ جدا في قيمته، ولهذا فإن خسارته لأي سبب كان، سوف تلحق بنا ضررا هائلا، وهذا بالضبط ما ينطبق على أمة الإسلام والمسلمين، وحتى على البشرية التي تتشارك الإقامة في كوكب الأرض، حيث أن خسارتنا للغدير حجمها كبير ومؤلمة للغاية.
لماذا نصف هذه الخسارة بالكبيرة، وما هو الشيء الذي خسرناه بسبب خسارتنا للغدير، بعد الانحراف عمّا أراده الله ورسوله صلى الله عليه وآله، بتتويج الإمام علي عليه السلام قائدا للمسلمين في يوم الغدير وفي منطقة يُقال لها (غدير خم)، ثم أية أهمية كبيرة لمنهج الغدير، عندما يوصَف بأن خسارة المسلمين والبشرية له تعني خسارة فادحة لهم لا يمكن تعويضها.
الأسس أو البدايات يجب أن تكون صحيحة، فكل ما يقوم على أسس صحيحة يستمر صحيحا وجيدا في تطوره وتقدمه وتصاعده، وكل شيء ينبني على أسس عوجاء منحرفة، فإن البناء لن يستمر، لأنه سوف ينحرف ويتهاوى، ويدمّر كل من يكون تحته أو قريبا منه، وهذا بالضبط هو الذي حدث بخسارة المسلمين للغدير.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يُطلق بعض التساؤلات المهمة حول الغدير بأسلوب واضح لا يتلفَّع بالغموض، فيقول سماحته في كتابه القيّم الموسوم بـ (نفحات الهداية):
(إن عيد الغدير هو أعظم الأعياد في الإسلام على الإطلاق، كما ورد في الروايات! فما هو السرّ في ذلك؟ بتعبير آخر: ما الذي كان يحدث فيما لو تحقق واستمرّ مفهوم الغدير؟ وما الذي خسرناه إذ أقصي الغدير وطويت صفحته في التاريخ؟).
إن الخسارة الكبيرة تكمن في الحقيقة بخسارتنا لقيادة نبوية فذة، صحيح أن القائد أو الخليفة الجديد ليس النبي محمد صلى الله عليه وآله، ولكن خلافة علي عليه السلام، تعني امتدادا لا يقبل الشك لحكومة وأسلوب الرسول صلى الله عليه وآله في إدارة الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفي كل المجالات الأخرى، لماذا؟
الإمام علي ترعرع في المدرسة النبوية
الجواب سهل و واضح، لأن علي عليه السلام تربى في مدرسة النبي صلى الله عليه وآله، وعاش معه، وفتح عينه عليه في أوائل وعيه، فنهل من شخصية الرسول الكريم الكثير، وانبنت شخصيته في رحاب الأفكار العظيمة لنبي الإسلام صلى الله عليه وآله، فأخذ عنه الصفات العظيمة التي تحلّى بها، الاعتدال، والحكمة، والتوازن، ورباطة الجأش، والعفو، واللين، والصفح، والنظرة البعيدة المدى.
نعم الإمام علي ليس نبيّا، ولكنه تربّى في رحاب الرسول صلى الله عليه وآله، وكان الأسوة الحسنة للإمام علي، وتعلّم منه الصبر والأناة، والقلب المحب الواسع الصبور، واستيعاب الآخر والتعامل معه على أنه إنسان قبل أي شيء ثانٍ، لهذا كانت خسارة المسلمين والآخرين كبيرة، لأنهم فقدوا شخصية عظيمة كشخصية الرسول صلى الله عليه وآله.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لأنّ المولى أمير المؤمنين عليه السلام هو المتفضّل علينا بما وهبه الله تعالى، لذلك لو لم يُقصَ الإمام سلام الله عليه وسُمح له بأن يحكم الأمّة مباشرة خلال هذه الثلاثين سنة التي عاشها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لكانت حكومته امتداداً كاملاً ودقيقاً لحكومة النبي صلى الله عليه وآله، بفارق واحد فقط وهو أنه ليس بنبي كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله نفسه).
كثيرة هي حالات الظلم التي حدثت للمسلمين بعد الانحراف عن منهج الغدير، فما أن رحل الرسول الكريم عن عالمنا هذا، حتى تنكّر أولئك الذين بايعوا عليا عليه السلام، وانحرفوا وسلبوا الولاية من الإمام علي، وخالفوا وصية الرسول صلى الله عليه وآله الواضحة، وهم بذلك خسروا العدالة الأزلية، وهيمن عليهم الظلم والانحراف.
فلو أن مجريات الغدير لم يتم الالتفاف عليها، ولو ثبت المسلمون على توجيهات الرسول صلى الله عليه وآله، لعاشوا في ربوع العدل إلى الأبد، كما أن حالات الظلم التي ملأت قلوب المسلمين وبيوتهم ما كان لها أن تحدث لو أن منهج الغدير بقي كما أراد له الله ورسوله.
حكومة الغدير امتداد لحكومة النبي (ص)
إن استمرار حكومة الإمام علي عليه السلام بعد مبايعة الغدير، كانت تعني بلا شك استمرارا وامتدادا لأسلوب حكومة الرسول صلى الله عليه وآله، فلا ظلم، ولا جور، ولا استبداد، ولا تعدٍّ على حقوق الآخرين، مع حماية تامة للحقوق والحريات التي دافع عنها النبي صلى الله عليه وآله، والقيم التي غرسها في قلوب الناس، وأولهم تلميذه النجيب وابن عمه علي ابن أبي طالب عليه السلام.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) أكد هذه القضية حين قال:
(هذا معناه أن كل حالات الخير والعدل التي كانت ستقام منذ ذلك اليوم حتى يوم القيامة، وكذلك دفع كل حالات الظلم التي ما كانت لتقع فيما لو سُمح للإمام سلام الله عليه بممارسة حقه، كان نفعها سيعود للأمّة؛ لعدم تفريطها بمواهب الله تعالى التي وهبها كلّها للإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه).
لهذا فإن الانحراف عن منهج الغدير، والارتداد والالتفاف عليه، أدى إلى قمع الحريات، وتكميم الأفواه، في حين أن الإمام علي ومنهجه، وما جرى في غدير خم، هو حماية لمنهج الحرية والأحرار، وأن كل من يتمتع بالحرية مدين لعلي عليه السلام، أما شيوع القمع فإنه جاء كنتيجة حتمية للانحراف والالتفاف على تتويج علي خليفة للمسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وآله.
إن حالة الانحراف التي حدثت بعد نقض القوم لعهد الغدير، أدت إلى رسوخ هذا الانحراف في جميع مفاصل حياة المسلمين، وقامت حياتهم على منهج منحرف، يغص بالظلم، ويحيط به الاستبداد، ويكبله القمع والضلالة والزيف، وهذا كله ظل قائما ومستمرا في حياة المسلمين بسبب الانحراف الأول عن منهج الغدير.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(كلّ من يتمتع اليوم بشيء من الحرية فهو مدين فيها لأمير المؤمنين سلام الله عليه، وكلّ من كان محروماً من الحرية فالسبب في ذلك يعود لعدم قيام واستمرار الغدير، ولإبعاد الإمام سلام الله عليه عن تحقيق ما أراده الله تعالى ورسوله له).
أما المناطق الأخرى من العالم، والأمم الأخرى في الغرب مثلا، فإنها في الحقيقة مدينة للإمام علي في الحرية التي تعيشها على الرغم من الأخطاء الكثيرة التي تتخلّلها، ذلك لأن حرية الغرب تقوم على المبالغات من ناحية، أو التقتير والتقصير من جهة أخرى، فتعاني من عدم الاعتدال والتوازن.
في حين أن عدالة علي عليه السلام، متوازنة، تقوم على الاعتدال، ولا يشوبها التطرف مطلقا، وخالية من التفريط والإفراط، لهذا فإن العدالة العلوية (الغديرية) تبقى في قمة الاعتدال والتوازن، تحفظ حقوق الناس بعيدا عن أي نوع من التفاوت أو التفريق لأي سبب كان.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إذا كانت هناك اليوم حرية في الغرب، فهي في أساسها مدينة للإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، مع فارق أن الحرية الغربية خاطئة ومبتلاة بالإفراط والتفريط في حين أن الحرية التي طبّقها الإمام سلام الله عليه حرّية صحيحة ومعتدلة).
في النهاية نحن نعيش اليوم نتائج التنكّر للغدير، والانحراف عنه، فخسرنا الكثير، ولا زلنا نعاني من تراكمات ذلك الخطأ الفضيع، لأننا لو لم نخسر الغدير لأصبحنا اليوم في طليعة الأمم العادلة المتوازنة، لكن حجم خسارتنا في الحقيقة كبير لدرجة أننا لا يمكن أن نعرف مقداره أو مداه أو ما يترتب عليه من خسارات مستمرة.
اضف تعليق