مع ان المهام التي يتصدى لها الحاكم الأعلى كثيرة ومتشعبة، لكن ما يتصدر هذه المهام مسؤولية كبيرة جدا، تتمثل بأهمية مراقبة المسؤولين المساعدين والمعاونين للحاكم، فهؤلاء غالبا ما يتواجدون في مناصب كبيرة في الدولة، ويكون لهم نفوذ كبيرة، وقراراتهم يمكن أن تفيد أو تؤذي شرائح كبيرة، لذلك مراقبة هؤلاء ومعرفة طبيعة اعمالهم وأدائهم الاداري والوظيفي يعد من اهم ما يقوك به الحاكم الأعلى.
وسبب هذه الأهمية، أن المسؤولين الذين يتمركزون في مناصب حساسة، تتاح لهم فرص التجاوز على المال العام اكثر من غيرهم، واذا حدث ذلك فإن بوابات الفساد تنفتح على مصاريعها، من هنا لابد للحاكم أن يتابع بدقة وصرامة، ما يقوم به المسؤولون، حتى لو كانوا مقربين منه.
ولنا في الامام علي عليه السلام مثالا كبيرا وواضحا حول هذا الموضوع، إذ يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام) بهذا الخصوص: كانت (رقابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للموظفين في رأس سياسته الإدارية لهم).
ولأن الدولة متعددة المشاغل والمجالات، فالحاكم لا يمكنه القيام بجميع المسؤوليات، أي انه يحتاج الى من يعاونه من المسؤولين، يقومون بتنفيذ سياسته في عموم المجالات، من أجل إدارة شؤون المجتمع بالطريقة المثلى. وفي هذه الحالة يختار الحاكم الأعلى أناس يثق بهم، وبقدراتهم من حيث الكفاءة والاخلاص وما شابه، وذلك من اجل تحقيق النجاح، في تنفيذ الخطوات العملية لسياسة القائد، في الاقتصاد، والتعليم وغيرها، وطالما أن الامر يتعلق بشؤون الناس والمسؤوليات والمناصب، فإن قضية اختيار الموظفين من لدن القائد، ومعرفته لهم وثقته بهم، لا تكفي وحدها لكي تكبح خطر الطمع لدى البشر، هذا يعني أنهم ينبغي أن يكونوا تحت مجهر المراقبة والمحاسبة على الدوام.
جذور الفساد تاريخية
لم يكن الفساد والتجاوز على المال العام، وإساءة المنصب والنفوذ، ظواهر مرتبطة بالعصر الراهن، بل هي ظواهر قديمة نشأت مع نشوء السلطة وما تقدمه من إغراءات وامتيازات للحاكم والمسؤولين، لذلك ليس غريبا ان تجد الفساد ينتشر بين المسؤولين، ويتجدد في حكومات كثيرة سابقة ولاحقة، ومنها الحكومات الراهنة، بمعنى أن انحراف المساعدين والموظفين، أمر يتكرر كثيرا، بسبب عدم قدرة الموظف المساعد على ضبط نفسه، ورغابته، وأنانيته، ولهذا السبب حتى في حكومة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، ومع بساطة الحياة آنذاك، وعدم تغلب الجانب المادي على الروحي، كما يحدث في عصرنا الحالي، مع ذلك، كان الامام علي عليه السلام، يؤدي رقابة صارمة على مساعديه، لكي لا تتمكن منهم أنفسهم، فينحرفوا ويتجاوزوا على اموال الشعب.
فقد كان الامام علي عليه السلام كما يفول سماحة المرجع الشيرازي، ينصح المسؤولين الولاة (ثم يوجههم، ثم يعاتبهم على تصرفات غير لائقة، ثم إن لم يفد ذلك كله كان يعمد إلى عزلهم، وعقوبتهم إن استحقوا العقوبة).
بمعنى ان هذه المراقبة لا تتم من اجل غاية إيذاء المسؤول، بل لكي تمنعه من التجاوز على حقوق الناس، وهذه المتابعة من لدن القائد لمعاونيه، إنما تدل على رعاية مزدوجة، الاولى محافظته على موظفيه من الزلل، والثانية حمايته لحقوق الشعب، ولذلك لم تكن هناك موانع أو عوائق، من معاقبة المخطئ بعد منحه فرصة النصح والتوجيه، ولاشيء يمنع الامام عليه السلام، من عزل الموظف الذي لا يتمكن من ضبط نفسه، وصون أمانته، المتمثلة بأموال وحقوق عامة الناس، لذلك ليس هناك مسؤول محصّن من الملاحقة والعقوبة اذا اساء استخدام مركزه ومنصبه.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه (السياسة من واقع الاسلام): إن (الحصانة الدبلوماسية، والحصانة الإدارية، وحصانة الوظيفة، ونحو هذه المصطلحات لا مفهوم لها عند علي بن أبي طالب عليه السلام، إذا خرج الدبلوماسي عن الحق، وجار الإداري، وعمد الموظّف إلى ما لا يليق به من إجحاف).
ونتيجة لهذه المتابعة الصارمة، والتحذيرات المتتابعة لم يلحظ المؤرخون تجاوزا على المال العام في حكومة الامام عليه السلام، كما يحدث في حكومات اليوم، مع ان دولة المسلمين كانت واسعة ومترامية، وكانت ادارة شؤون الأمة في غاية التعقيد، ولكن حزم القائد الأعلى كان يحد من تجاوز المسؤولين على حقوق الامة وثرواتها في بيت المال او خارجه.
مسؤولية الرجل التنفيذي الأول
لقد اثبتت كثير من الأدلة، في العراق، ان هناك اموالا وثروات هائلة تم التصرف بها بصورة مسيئة خلال السنوات الماضية، وتم التجاوز عليها من مسؤولين حكوميين، كما تشير وثائق مفوضية النزاعة المعلنة على الملأ، فالفساد في العراق اليوم لا احد يستطيع ان ينكره او يغطي عليه، خاصة بعد الازمة المالية التي ضربت البلاد بعد الهبوط الدراماتيكي لأسعار النفط.
لذلك لم تعد الجماهير تطيق صبرا وهي تعاني من سوء ادارة المسؤولين للمال لأموالهم، وهذا يحتم على الحكومة الاحتراز من غضب الجماهير، كما يستوجب الامر ان يتنبّه الحاكم الاعلى (او الرجل التنفيذي الأول في الحكومة) الى التجاوز الخطير على المال العام، وضرورة محاسبة المختلسين والفاسدين، ومحاكمتهم، وإبدالهم بمن يليق بحفظ الامانة، ويخلص للشعب، ويلتزم قولا وفعلا بتعاليم الاسلام، ولابد من ملاحقة الاموال المنهوبة واعادتها الى خزينة الدولة، فهي كلها اموال الفقراء والشعب عموما.
ان هذا الواقع الاداري الخطير يستدعي من القائد الأعلى مراقبة ذاتية صارمة، ومحاسبة المسؤولين على مدار الساعة، فالأمر المهم في هذه المرحلة الحرجة، هو مراقبة الموظفين والمسؤولين المساعدين، وحملهم على عدم التجاوز على اموال وحقوق الناس، وليس صحيحا أن يغض القائد بصره عن مساعديه، وموظفيه، بحجة انه يعرفهم جيدا ويعرف درجة اخلاصهم، ولا يتوقع منهم التجاوز والخطأ، فالمناصب لها سحر السلطة الغامض، الذي يدفع بصاحب المنصب الى جادة السوء.
أن المتابعة والمراقبة والتوجيه تعطي نتائج كبيرة في هذا المجال، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه عن هذا الجانب بالذات: (كان الولاة والموظّفون الذي يبثهم هنا وهناك يعرفون أسلوب أمير المؤمنين عليه السلام جيداً، لكن مع ذلك كله لم يكن ليفوّت علياً عليه السلام مراقبة أحوال ولاته وعمّاله ومحاسبتهم، لكي لا يظلم بعضهم الناس).
ومحاسبة المسؤولين لا تعني انزال القصاص غير العادل بهم، بل حمايتهم من الزلل لأن التجاوز على اموال الشعب خيانة، هكذا يراها سماحة المرجع الشيرازي عندما يقول بوضوح تام: ان (خيانة أموال المسلمين خيانة للمسلمين)، ولا ينبغي التهاون مع من يخون الامانة في منصبه، ومسؤوليته حيال اموال الناس ومصالحهم، فالعقوبة يجب ان تكون حاضرة ومقررة لمن يستحقها، من المسؤولين المتجاوزين، والذين لا يهمهم سوى تحقيق مصالحهم.
كما يؤكد على ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (من مارس مثل هذه الخيانات يستحق التقريع. هكذا يؤدّب أمير المؤمنين علي عليه السلام عمّال البلاد في سياسة الإسلام، وهكذا ينبغي أن يكون تأديب الإمام للولاة، والعمّال، والموظّفين، لكي يأمن المسلمون من الخيانة والحيف) وهذه بالضبط مسؤولية الحاكم الاعلى في اية دولة اسلامية، كي يحافظ على اموال الشعب من الهدر والاختلاس وما شابه.
اضف تعليق