الحاكم هو المسؤول عن كل شيء طالما كان يتربع على قمة الهرم السلطوي الإداري والسياسي، وكونه لم يصدر هذا الأمر أو ذاك، وهو لا يعلم بهذا أو ذاك، فإنه يبقى مسؤولا ويتحمل نتائج الأخطاء، ومطلوب منه أن يبادر بمعالجتها، وإن لم يكن سببا في حدوثها...
(قدّم الرسول صلى الله عليه وآله قانونا لكل الحكام الإسلاميين)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
الحاكم هو المسؤول الأعلى في الدولة من حيث إدارة السلطة والسياسة، والشؤون الأخرى المهمة التي تهم حياة الناس، وغالبا ما يكون للحاكم من يؤيده ويصبح معاونا له، ويوجد المعارض الذي لا يتقرّب من الحاكم ولا من حكومته، المشكلة التي تواجه الحكام ليس في المعارضين لهم، لأن المعارض معروف للحاكم وأجهزته الأمنية، لكن المشكلة تكمن في المؤيدين المقرّبين للحاكم، فكيف تحدث هذه المشكلة؟
كما ذكرنا المعارض معروف، أما المؤيد فهناك من يدعم الحاكم في العلن، لكنه يضمر له المعاداة والمعارضة باطنا، فترى هذا النوع من المؤيدين يتملق الحاكم، ويتقرب منه، ويزداد تزلّفا على غيره من المؤيدين، لكنه في حقيقة الأمر هو من المعادين، وهؤلاء يسمّون بـ المنافقين، وقد ذُكروا كثيرا في الآيات القرآنية الكريمة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:
(كما نعلم، وذكره القرآن الكريم أيضاً، أنّ أصحاب النبي الكريم صلى الله عليه وآله على قسمين. قسم منهم منافقون أي الذين أظهروا الإسلام، ولكن أبطنوا وأخفوا الكفر في قلوبهم. وقدّ خصّص الله سبحانه وتعالى لهم سورة كاملة في القرآن الكريم وسمّاها بـ (المنافقون) وأشار في سور أخرى إلى المنافقين).
وغالبا ما يقوم المنافق بفعل أو يتلفّظ بكلمات ورأي معين يفضحه على حقيقته، فقد كان هناك أشخاص يلتفون حول النبي صلى الله عليه وآله، باعتباره قائد المسلمين الأعلى، ومنهم أحد الأشخاص المنافقين حيث هجم على يهود مسالمين وقتل بعضهم وسيطر على ممتلكاتهم، وادّعى أنه ينفّذ أمر الرسول (صلى الله عليه وآله).
أما الحقيقة فإن هذا التصرف فردي، قام به ذلك المنافق، لأن الإسلام حرّم قتل الناس، ومنع إلحاق الأذى بهم، ولذلك حين وصل خبر ما قام به هذا المنافق للرسول صلى الله عليه وآله، تبرَّأ منه فورا، ومن كل الذين شاركوه في هذا الهجوم على اليهود الذين كانوا يسكنون أطراف المدينة المنورة، وحدث هذا التبرّي أمام الجميع وفي العلن.
و وفقا للأحكام الشرعية والأخلاقية، فإن الرسول (صلى الله عليه وآله) لا علاقة له بهذا الاعتداء، ولم يأمر به، وإنما ما قام به ذلك المنافق هو تصرّف فردي يتحمل مسؤوليته المنافق الذي قام به ومن شاركه في ذلك.
حدود مسؤوليات الحاكم
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يذكر لنا هذه الحادثة وبعض تفاصيلها فيقول: (ذات يوم شنّ أحد المنافقين مع جماعة من رفاقه، هجوماً على اليهود المسالمين في فترة سلمهم مع النبي الكريم صلى الله عليه وآله، الذين كانوا يعيشون أطراف المدينة المنوّرة، وقتلوا بعضهم وصادروا أموالهم. فوصل الخبر إلى النبي الكريم فقام صلى الله عليه وآله أولاً بإعلان التبرّي من أصحاب الهجوم أمام الملأ وخاطب الله تعالى بالتبرّي من ذلك المنافق، وأعلن صلى الله عليه وآله بأنّ الشيء الذي حصل هو تصرّف شخصي من ذلك المنافق).
وباعتبار أن النبي حاكما شرعيا ومسؤولا عن الأفراد الذين يعيشون في دولة الإسلام، سواء كانوا مسلمين أم من أديان أخرى، فإن هذه المسؤولية يترتب عليها استرداد حقوق الناس المعتدى عليهم، وهذا بالضبط ما قام به الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، حيث سلَّم الإمام علي عليه السلام صندوقا من الذهب، وطلب منه تعويض اليهود الذين قام المنافق بالاعتداء عليهم دون علم من قائد المسلمين الأعلى.
فمع أن الرسول صلى الله عليه وآله لا علاقة له بهذا الاعتداء ولم يصدر أمرا به، فهذا يعني أنه غير مسؤول عنه ولا عن تبعاته، لكن الإسلام يرى غير ذلك، وقائد المسلمين الأعلى الرسول صلى الله عليه وآله يرى غير ذلك أيضا، فالحاكم طالما يتربع على قمة السلطة، فهو مسؤول عمّا يحدث في دولته وفي مجتمعه.
لهذا بادر الرسول الكريم بخطوة رد الاعتبار للمعتدى عليهم، وجبر خواطرهم، وتصحيح الخطأ الذي وقع في حقهم، على الرغم من أنه ليس طرفا في ما حدث، ولكن طالما هو الحاكم فيترتب عليه معالجة أخطاء المسؤولين الآخرين، وهذا درس كبير قدّمه الرسول صلى الله عليه وآله، لجميع الحكام، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، لاسيما قادة الدول الإسلامية اليوم، فعليهم العمل بهذا المنهج لأنه يمثل رأي الإسلام في مسؤوليات الحاكم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ثم أعطى صلى الله عليه وآله للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه صندوقاً من الذهب، وأمره بأن يذهب ليجبر ما قام به ذلك المنافق ورفاقه. وقد قام النبي صلى الله عليه وآله بهذا الردّ من الفعل وهو بريء من أي دور فيما قام به ذلك المنافق ورفاقه ولم يأمره بذلك أصلاً ولم يسمح له، وهذا يعني أنّ ما حصل ليس على عاتق النبي صلى الله عليه وآله، لا عرفاً ولا شرعاً).
قانون لكل الحكام الإسلاميين
وأضاف سماحته (دام ظله) قائلا: (ما أريد أن أبيّنه هو بما أنّ قول وتقرير النبي الكريم صلى الله عليه وآله، في منطق الشرع، هو في مقام قانون الإسلام، ولذا قام صلى الله عليه وآله بذلك الرد من الفعل لكي يضع قانوناً لكل الحكّام الإسلاميين. ووفقاً لهذا القانون الإسلامي والنبوي، يجب على كل من يحكم منطقة أو أرضاً من البلاد الإسلامية، ويجلس على كرسي الحكم، أن يقوم بمثل ما قام به النبي صلى الله عليه وآله، في الموارد التي تشابه ما قام به ذلك المنافق).
وهكذا لم يقف الحاكم الأعلى متفرجا على الخطأ الذي ارتكبه المنافقون بحق بعض الرعية، وإنما تصرّف وفقا لرؤية الشرع والإسلام في معالجة أخطاء كهذه، ولهذا ذهب الإمام علي (عليه السلام) إلى المعتدى عليهم، وعوضّهم، وأجبر ما لحق بهم من جرم وجناية، وتم تعويضهم ماديا واعتباريا.
هذا هو الدرس البليغ الذي يجب على كل الحكام أن يسيروا عليه، لاسيما المسلمون منهم، فجميع حكام العالم أمامهم درس إنساني كبير في كيفية رفع الظلم والحيف عن الناس، وجبر ما يتعرضون له من اعتداءات وسلوكيات مرفوضة جملة وتفصيلا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول في هذا الأمر:
(وفقاً لأمر النبي صلى الله عليه وآله، ذهب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه إلى ذوي المتضرّرين من ذلك الهجوم وقام بجبر ما لحقهم من جرم وجناية وأضرار وخسائر).
وهكذا قام الإمام علي بمعالجة نتائج هذا الاعتداء، بعد أن تم التوجيه بذلك من قبل الرسول صلى الله عليه وآله، وبالفعل تم تدارك الجريمة، ومعالجة أضرار هذه الجناية، وهذا ما فعله حاكم دولة المسلمين الرسول صلى الله عليه وآله، قبل أكثر من 1400 سنة، فحريّ بالحكام الحاليين خصوصا في الدول الإسلامية أن يعرفوا جيدا ما هي مسؤولياتهم ويتعلموا من هذا الدرس الكبير:
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(لقد قام الإمام علي صلوات الله عليه بعدّة خطوات، تدارك بها الجريمة وأجبر بها الجناية).
إذَا هكذا ينظر الإسلام إلى مسؤوليات الحاكم، فهو مسؤول عن كل شيء طالما كان يتربع على قمة الهرم السلطوي الإداري والسياسي، وكونه لم يصدر هذا الأمر أو ذاك، وهو لا يعلم بهذا أو ذاك، فإنه يبقى مسؤولا ويتحمل نتائج الأخطاء، ومطلوب منه أن يبادر بمعالجتها، وإن لم يكن سببا في حدوثها.
اضف تعليق