عالم الخلود يستحق أن نستعد له جيدا في دنيانا، ولابد من الانتباه دائما إلى أن فرص العمل الصالح موجودة بكثرة في دنيانا، وإذا أردنا الاستعداد الجيد لعالم الخلود، علينا أن نستثمر عالم الزوال جيدا، من خلال أعمالنا الصالحة التي تسعفنا في (يوم الحسرة)، حيث يتحسر الإنسان على ما ضاع في دنياه من أعمال وفرص كبيرة للخير...
(الحياة بالآخرة هي الحياة الحقيقية لنا، ويجب أن نعدّ أنفسنا لها)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
شتّان ما بين عالم الزوال، وبين عالم الخلود، فالأول دائما في حالة زوال، وإن بدا أحيانا كأنه لا يُفنى، لكن في الحقيقة (عالم الدنيا) هو عالم زوال فانٍ، على العكس تماما من (عالم الآخرة) فهو عالم البقاء والأبدية، وهو غير قابل للزوال مطلقا، هذا بالضبط الفارق بين عالم الدنيا وعالم الآخرة الذي سمّيَ أيضا بعالم الحسرة، حيث يبقى الإنسان في حالة حسرة مستمرة لأنه لم يستعد جيدا لعالم البقاء أو عالم الخلود.
في الغالب ينشغل الناس في دنياهم، فالجميع يتحرك، ويسعى ويجمع ويجتهد ليكسب المزيد، فينشغل في عالم الدنيا انشغالا تاما، وينسى عالم الخلود، ينسى الآخرة بسبب انشغاله المستمر بمعيشته وتوفير احتياجاته، وأحيانا بل في معظم الأحيان لا يكتفي الإنسان بتلبية حاجاته المهمة، بل ينشغل بما هو فائض عن حاجته، فيضيع عمره القصير هدرا فيما يبذله من مساع وجهود لكنز الأموال أو امتلاك الأطيان، أو توسيع نفوذه وسلطانه، فينسى أنه في عالم الزوال، حتى تفاجئه لحظة الفناء والانتقال إلى عالم الخلود، حينئذ يتحسّر لأنه لم يستعد جيدا لعالم الخلود، ولم يعمل ما يكفي لضمان مرتبة ومكانة جيدة.
من هنا كان على الإنسان أن يعرف بأنه ذاهب إلى الزوال شاء أم أبى، وإذا كان انشغاله في عالم الدنيا مشروعا، لكي يعيش عيشة متوازنة غير بائسة، فعليه أن لا يغرق في عالم الدنيا وينسى العالم الأهم وهو عالم البقاء والخلود.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:
(كل الناس في هذه الدنيا، لهم حياة ومعيشة، ولا فرق بين أن يكون رجلاً أو امرأة، أو أباً أو أمّاً أو ابناً أو بائعاً أو مشترياً، وفي أي مقام كان فهو ينشغل بالدنيا، ولكن بالنتيجة عليه أن يترك هذه الدنيا وهذه المعيشة، ويذهب إلى العالم الآخر والحياة الأبدية الخالدة).
متطلَّبات الاستعداد لعالم الخلود
إن النقطة المهمة التي على الإنسان أن يتنبّه لها دائما وأبدا، هي عدم إهمال الآخرة، فمثلما عليه تطوير حياته وموارده والاهتمام بتربية أولاده، وترفيه عائلته وتعليم أبنائه بشكل جيد، وتوجيههم نحو بناء حياة جيدة متوازنة، لا يحتاج فيها إلى الآخرين، عليه في نفس الوقت أن لا ينسى الآخرة، وتتطلبه، لكي يعيش عيشة خالدة في جنائن الخلد.
من الغريب حقا أن ينغمس الإنسان في عالم الدنيا، ويضيع فيها وينسى الفناء والزوال، وحينها سوف تأتي لحظة المواجهة، في ساعة الحسرة، فلا يكون أمام الإنسان أية فرصة لكي يحسن مكانته في الآخرة حيث ينتفي العمل حينئذ، فالأعمال محصورة في الدنيا أو في عالم الزوال، وعلى الإنسان أن يستعد لعالم الخلود انطلاقا من عالم الدنيا لعالم الخلود من خلال أعمال الخير والصلاح التي يقوم بها، ويتجنب أعمال الشر ويتحاشى انتهاك حقوق الآخرين، ولا تلهيه مغريات الدنيا ومزاياها عن عالم البقاء الأبدي.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(مع قِصَر الحياة في الدنيا، ووجودنا القصير فيها، كم يجب أن نصرف من أوقاتنا للدنيا؟ فكم يريد أن يعيش المرء في الدنيا؟ وحتى لو عاش كثيراً، كمئة عام مثلاً، لكن الحياة في الآخرة هي ملايين السنين وأكثر، ولا شكّ بحاجة إلى الاستعداد، فيجب أن نصرف مقداراً من أوقاتنا لأمور آخرتنا. وإلاّ سيأتي اليوم الذي نندم فيه ونتحسّر: «وَأَنْذِرْهُمْ یَوْمَ الْحَسْرَةِ». سورة مریم: الآية 39).
لذا على الإنسان أن لا يعبأ بالدنيا كثيرا، لأنها دار أو طريق مرور أو عبور مؤقّت لا أكثر، أما البقاء الحقيقي فسوف يكون في دار الخلود (الآخرة)، وإذا كان الإنسان ذكيا عارفا ومؤمنا بحيث يستغل مروره بالدنيا ليجعل منها منطلقا صحيحا نحو آخرته، فإنه يستطيع ذلك من خلال ما يقدمه لنفسه من أعمال صالحة في الدنيا، سوف تكون له ذخرا وسندا في آخرته، وهذا ما يجب أن يتنبّه له الإنسان جيدا، ولا تجرفه مغريات الدنيا فينسى فيها عالم الخلود الذي يجب أن يضمنه جيدا من خلال أعماله في الدار الأولى.
فرص كبيرة لإرشاد الناس
قد يمرض الإنسان، وربما يتعرض للإذلال، وقد يواجه المصاعب في دنياه، لكنه سوف ينساها لأنها عادة ما تكون زائلة ومؤقتة، فمن يمرض سوف يشفى، ومن يتعرض لمصاعب معينة يمكن أن يتجاوزها لاحقا، ومن تكون عيشته صعبة يمكنه تحسينها، فلا شيء ثابت في الدنيا، أما الثبات فهو في عالم الخلود لأنه هو ما يسمى بدار القرار، لذلك فإن الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة الخالدة وليس الدنيا الزائلة.
هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(إنّ الدنيا مع زيادتها ونقصانها، وبانقضائها بأي شكل من الأشكال، لا توجب الحسرة والندم. فلا يتأذّى المرء إن أصيب بمرض في الدنيا، أو إذا افتقر، أو إذا أريق ماء وجهه أو حدث له ما يؤلمه، لأنّ الدنيا محلّ المرور، لا البقاء، والآخرة هي القرار والخلود. فالحياة بالآخرة هي الحياة الحقيقية لنا، ويجب أن نعدّ أنفسنا لها).
فمن لحظة وجود الإنسان في الدنيا عليه أن يستثمرها جيدا، وأن لا يتعرض ليوم السحرة، فالآخرة لا تمنح الإنسان فرصة التصحيح، ولهذا سوف يبقى يتحسّر على فرص العمل الصالح الكثيرة التي أهدرها في دنياه، كما أنه لا يمكن له العودة إلى الدنيا لكي يعمل الصالحات، لهذا عليه منذ الآن وهو موجود في الدنيا أن يستغل كل لحظة من حياته وكل ساعة وكل يوم لكي يعمل الصالحات ويجعل منها ذخرا له في (يوم الحسرة).
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إذا لا نوجِد الاستعداد في أنفسها، فسيكون أمامنا الحسرات الكبيرة، ولهذا سمّيت الآخرة بـ (يوم الحسرة). فمهما كبرت هموم وأذى الدنيا، فهي لا شيء ولا أهمية لها قبال الحسرات المؤلمة المحزنة في عالم الآخرة).
هذه الأمور تبدو مفهومة للجميع، أو أنها بديهية تماما، فالإنسان يعرف الفارق الكبير بين الدنيا والآخرة، ولكن مع ذلك يبقى بحاجة إلى الإرشاد والتذكير والتوجيه والتوعية والتنبيه، لذا مطلوب من كل عارف وعالم وفاهم أن يرشد الناس إلى هذا الفارق الكبير (الواضح) بين عالميّ الخلود و الزوال، بين عالميّ الآخرة و الدينا.
خصوصا أن وسائل الإرشاد باتت كثيرة ومتنوعة ومتاحة للجميع، لهذا يجب استثمار وفرة التوصيل هذه، وتقديم خدمة التوعية والتثقيف والإرشاد للناس حتى لا تفاجئهم (الحسرات الكبيرات) وهم يتذكرون الفرص الكبيرة التي أهدروها في الدنيا، فضيّعت عليهم عالم الخلود، لذا علينا جميع أن نعمل ما بوسعنا لهداية الآخرين وتوضيح البون الشاسع بين عالميّ الخلوة والزوال.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(في السابق كان يصعب إرشاد الآخرين، ولكنه اليوم بات سهلا جدّاً. فمع وجود الآليات والإمكانيات الواسعة اليوم، ومنها ما موجود في أجهزة الهواتف المحمولة والعالم الافتراضي، إن استفيد منها بشكل صحيح وجيّد واكتشفنا آلياتها وما يمكننا القيام عبرها، لوجدنا أنّه فيها القابليات الكثيرة لهداية الآخرين).
إذن عالم الخلود يستحق أن نستعد له جيدا في دنيانا، ولابد من الانتباه دائما إلى أن فرص العمل الصالح موجودة بكثرة في دنيانا، وإذا أردنا الاستعداد الجيد لعالم الخلود، علينا أن نستثمر عالم الزوال جيدا، من خلال أعمالنا الصالحة التي تسعفنا في (يوم الحسرة)، حيث يتحسر الإنسان على ما ضاع في دنياه من أعمال وفرص كبيرة للخير، كان عليه أن يستفيد منها في دنياه لكي يصبح جزءًا لا يتجزّأ من عالم الخلود.
اضف تعليق