إن التأمين الاجتماعي في عهد الإمام علي (ع) كان أمرا حاسما، وأن رواية النصراني الذي اضطر إلى التسول كانت حالة نادرة وغريبة ومستهجنة، وتم قطع دابر مثل هذه الحالات من خلال الإجراءات الصارمة التي اتخذها قائد الدولة الإمام علي (ع)، وهذا ما يجب أن يسير فيه قادة المسلمين اليوم...
تَرِد مفردة التأمين في هذا المقال بمعنى الضمان، وهو مطمح يتطلع له كل إنسان، حيث يرغب الجميع العيش بكرامة وأمن وسلام، كما أن كل إنسان يسعى لتأمين احتياجاته المختلفة، لكن هنالك جهات تقع عليها نسبة كبيرة من تحقيق هذا الضمان أو التأمين الاجتماعي، وقد أكدت مبادئ الإسلام على أهمية تأمين حياة الفرد والأسرة، وشُرِّعت الأحكام التي تضمن حاجات الإنسان من حيث المأكل والمشرب والمسكن والملبس وبقية الاحتياجات الأساسية.
هذا النوع من التأمين صار اليوم من أبرز ما تتبجح به الدول والأنظمة التي تصف نفسها بالمتقدمة في مجال حقوق الإنسان والاقتصاد، حيث تعلن أنها تمتلك وتطبق ضمانا اجتماعيا يلغي حالة الفقر، ويقضي على وجود متسولين، ويؤمّن للجميع حياة متوازنة، وبات التأمين أو الضمان الاجتماعي من أهم ما تسعى إليه دول العالم كافة، لاسيما المتقدمة منها، في حين إن أول من طبّق هذا النظام هو الإسلام، وإن أول من أسس للتأمين الاجتماعي الضامن هو الإسلام.
لكي نثبت ذلك، توجد لدينا أمثلة واضحة مأخوذة من تجربة حكومة الإمام علي (عليه السلام)، وكيف تم تصفير حالة الفقر بين الناس، وإنهاء حالات التسول والاستعطاء بكل أنواعها، على الرغم من أن سعة المسؤولية التي كان يديرها ويقودها أمير المؤمنين (عليه السلام) ثقيلة واسعة وكبيرة، ومع ذلك لم تكن هناك مظاهر للتسول أو الاستعطاء، بل كانت حقوق الناس الأساسية مُصانة مكتملة ومحمية تماما.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (نفحات الهداية):
(كانت الحكومة الظاهرية لبضع سنوات بيد الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، عندما كان في الكوفة، وكانت الكوفة مدينة كبيرة، وبحسب ما أثبته بعض المؤرخين، فإن مساحتها كانت تتجاوز الخمسمائة كيلومتر مربع، والبعض قالوا إن مساحتها أكثر من ذلك، وكانت تمثّل عاصمة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه).
تعميم التأمين الاجتماعي وترسيخه
ومن الأدلة القاطعة على ترسيخ التأمين الاجتماعي وتعميمه بين الجميع إبان حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، أن هناك رواية تفصّل لنا حادثة واحدة عن متسول رآه قائد المسلمين الإمام علي (عليه السلام) مصادفة وهي يتجول في المدينة لمتابعة أحوال الناس، وكانت رؤية هذه المتسول صادمة للإمام (عليه السلام)، وغريبة وغير مألوفة تماما.
يقدمها لنا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بالقول:
(روي في أحوال أمير المؤمنين سلام الله عليه، أنه خلال الأربع سنوات وبضعة أشهرـ وهي مدة حكومته الظاهرية سلام الله عليه ـ حدث أمر لمرة واحدة فقط، لم يذكر التاريخ غيره، ولا يوجد في سائر الكتب ما يشير إلى أن تلك الحادثة تكررت في زمان حكومة الإمام سلام الله عليه).
ويذكر سماحته (دام ظله):
(تقول الرواية إنه ذات يوم كان أمير المؤمنين سلام الله عليه يجتاز في أحد شوارع الكوفة، فرأى شخصاً يتكفف، فقال: ما هذا؟ فأجابه بعض من لا يعرف حقيقة الإسلام، قائلاً: هذا نصراني.. قد هَرِمَ وصار لا يقوى على العمل، فهو يتسوّل!!، وربما تصور ذلك المجيب أن الأمر يختلف عند الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، إذا كان المتسول غير مسلم، والحال أنه في القانون الإسلامي لا يختلف الأمر من هذه الجهة.. الناس اليوم لا يعلمون هذه القضايا، وقد لا يصدّقون بها، وسيقولون: فلماذا المسلمون اليوم ليسوا على هذه الشاكلة؟).
هكذا كان يتعامل قائد الدولة، وبهذه الكيفية التي أعادت الأمور إلى نصابها، وحققت العدالة الاجتماعية التي من دونها لن يسود الرفاه ولا التقدم، وهذا ما ينبغي أن يتنبّه له قادة اليوم من المسلمين، فهذا النموذج العظيم وهذه الرواية التي أكدت حرص المسؤول الأول والأعلى على محاصرة الفقر وإنصاف الناس ونشر العدالة الاجتماعية فيما بينهم، يجب أن يكون محط أنظار وبصائر المسؤولين في الدول الإسلامية كافة.
لقد وجه الإمام علي (عليه السلام) اللوم لمعاونيه وللمسؤولين عن الإهمال الذي تعرض له النصراني، لدرجة أنه كان مضطرا للتسول بسبب هذا الإهمال، وهو ما يحدث اليوم بحالات أوسع وأكبر في معظم الدول الإسلامية، وهذا لا ينسجم قط مع مبادئ الإسلام وتعاليمه، وسياسات العدالة الاجتماعية والتأمين والضمان الذي يجب أن يحصل عليه الجميع من دون استثناء بغض النظر عن الديانة أو العرق أو الطائفة وما شاكل.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لكن الإمام أمير المؤمنين جعل يلوم أصحابه على ما رأى من حال ذلك النصراني، وقال: استعملتموه حتى إذا كبُر وعجز منعتموه! أنفقوا عليه من بيت المال).
ليتعلم قادة المسلمين من تجربة أمير المؤمنين
إن هذه الرواية التي تروي لنا بالتفصيل ما تعرض له النصراني، وكيف اضطر للتسول، وكيف عالج أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الحالة الغريبة في عهده وحكومته، ولو أن المعنيين بتوصيل هذه الحادثة قاموا بواجبهم على الوجه الأمثل، وعرضوا هذه الحادثة بتفاصيلها على الأمم الأخرى، لكان الكثير من أفرادها يتأثرون بهذا التصرف الإنساني المسؤول لقائد الدولة أمير المؤمنين (عليه السلام).
وحين يؤمن ويتأثر بما يُعرَض عليه من نماذج صالحة كالرواية التي ذكرناها في أعلاه، فإنه لا ريب سوف يعرضها على آخرين يختلط بهم مثل أفراد عائلته أو أصدقائه أو العاملين معه، وحتما سوف يؤدي هذا التأثير إلى نشر قيم الإسلام وأحكامه وتعاليمه بين الأمم الأخرى.
يؤكد هذا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حين يتساءل:
(هل هناك نصراني، أو أي يهودي، بل أي عابد وثن تعرضون عليه مثل هذا النموذج، ثم لا يتغير؟! إذا صدّق بذلك، فلا بد أن يتغيّر، ويؤثّر في أسرته ويجعلها تتغيّر أيضاً).
إن التأمين الاجتماعي في عهد الإمام علي (عليه السلام) كان أمرا حاسما، وأن رواية النصراني الذي اضطر إلى التسول كانت حالة نادرة وغريبة ومستهجنة، وتم قطع دابر مثل هذه الحالات من خلال الإجراءات الصارمة التي اتخذها قائد الدولة الإمام علي (عليه السلام)، وهذا ما يجب أن يسير فيه قادة المسلمين اليوم.
علما أن ظاهرة التسول اليوم باتت ظاهرة عالمية، ففي معظم دول العالم تجد المتسولين يجوبون الشوارع والساحات والأسواق، يستعطون من الناس بسبب الحاجة، وبسبب ضعف أو غياب التأمين الاجتماعي، وهو ما يجب أن تتم معالجته بصورة حاسمة من قبل قادة المسلمين في الدول الإسلامية كافة.
هنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(هل يوجد بلدٌ في العالم اليوم يخلو من المتسولين؟ لو ذهبتم إلى أغنى بلد في العالم لوجدتم فقراء ومتسولين.. وبالطبع، فإن الأمر يتفاوت من بلد إلى آخر؛ فهناك بلد فيه متسولون وفقراء أكثر، وآخر أقل.. وهكذا فأنتم تلاحظون أنه حتى في أكثر بلدان العالم تقدماً، وفي ظل أفضل القوانين العصرية، يوجد متسولون، في حين لا تجد مثل هذه الحالة في الإسلام، بل لا معنى لوجود حالة تسول في بلد إسلامي!) في حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام).
لقد قدمت لنا حكومة الإمام علي (عليه السلام) على الرغم من قلّة سنوات الحكم، نموذجا راقيا من نماذج التأمين الاجتماعي، وحري بمن يسير في طريق الإمام علي وفي ضوء منهجه، أن يلتزم ببنود ومفردات هذا المنهج، ويعمل على تطبيق التأمين والضمان الاجتماعي الذي ينصف الناس ويحقق لهم كرامة العيش ويقضي على ظاهرة التسول والاستعطاء، وهو أمر ليس بالمستحيل فيما لو قرر المسؤولون أن يتعلموا بصدق وإيمان من تجربة أمير المؤمنين (عليه السلام) في نشر العدالة الاجتماعية والضمان الاجتماعي.
اضف تعليق