q
النفايات الإلكترونية العالمية تحتوي على نحو 60 مليار دولار من المواد الخام، مثل الذهب والبلاديوم والفضّة والنحاس. ومع ذلك، يُجمع 17% منها حول العالم سنوياً على إعادة تدويرها. والعديد من البلدان الغنية تصدّر نفاياتها إلى البلدان النامية التي تفتقر إلى الإدارة السليمة للنفايات، مثل أفريقيا...

تخيّل أن تنفق آلاف الدولارات لشراء سيارة، ثم تكتشف بعد سنتين من قيادتها، أن ذلك الصوت المزعج الصادر منها لا يمكن صيانته عند الميكانيكي. لا لأن العطل صعب التصليح، بل لأن الشركة المنتجة قامت عمداً بهندسة تصميم يهدف إلى أمرين: أولاً، جعلها وحدها قادرة على صيانة السيارة في مراكزها. وثانياً، دفع المستهلك إلى شراء منتج جديد. وهذا ما يحصل منذ سنوات في عالم الإلكترونيات من الهواتف إلى أجهزة الحواسيب اللوحية والمحمولة، في سلوك يجعل المستخدم أسير خياراتٍ محدودة. فما هي الأساليب الاحتيالية التي تعتمدها الشركات؟ وما هو انعكاس هذا السلوك على الطبقات الفقيرة والبيئة؟

في البدء كان تغيير بطارية الهاتف الخلوي أمراً بسيطاً. استبدال بطارية هاتف «نوكيا» المحمول كان أشبه باستبدال بطارية جهاز التحكم بالتلفاز. حتى الحواسيب المحمولة كانت كذلك. وينطبق ذلك أيضاً على غالبية المكوّنات التي تدخل في صناعة الأجهزة الإلكترونية بالنسبة إلى محال الصيانة. إنما الآن باتت شركات التكنولوجيا تستخدم جميع أنواع الحيل التي تصعّب عملية الصيانة حتى تبقى محتكرة من قبلها. فعلى سبيل المثال، تلجأ بعض الشركات إلى استخدام براغٍ لا يوجد لها مفكّ إلا لدى الشركة. شركات أخرى ترفض نشر خريطة التصميم، ما يعقّد عملية الصيانة. ومنهم من يعتمد أموراً أكثر احتيالية مثل لصق مكوّنات الجهاز معاً فيصبح إعادة جمعها كما كانت تماماً، أمراً صعباً. أو يقومون بلحام المكوّنات الرئيسية معاً لجعل تحديث الجهاز وإصلاحه مستحيلاً، أو وضع ملصق يقول إن الكفالة تبطل في حال إزالة الملصق. كل هذه الأمور تجعل تفكيك الجهاز أمراً مستحيلاً من دون إتلافه أو خسارة الكفالة. كذلك يقوم بعضهم برفض بيع قطع الغيار مبرراً ذلك بأن الصيانة مستحيلة أو باهظة الكلفة. كل ذلك، لا يحصل بالصدفة، بل هو نتاج سنوات من الهندسة المتعمّدة من قبل شركات التكنولوجيا لاحتكار عملية الصيانة والتحديث.

تتحجّج شركات التكنولوجيا بمعزوفة مكرّرة: السماح للمستخدم أو لطرف ثالث بصيانة جهازه يمكن أن تؤدي إلى استعمال مكوّنات أقل جودة، وأن هناك خطراً على بيانات المستخدم، فضلاً عن أن عملية الصيانة الخاطئة قد تؤدي إلى أضرار إضافية. وإضافة إلى ذلك، يقول هؤلاء إن التطورات التكنولوجية باتت متقدّمة لدرجة لا تسمح بالصيانة. لكن لا يمكن الوثوق بالشركات. فعلى سبيل المثال لا يمكن إغفال فضيحة «Throttlegate» التي كشفت أن «آبل» قامت عمداً بإبطاء هواتف «آيفون» الأقدم مع كل تحديث لنظام التشغيل. برّرت الشركة قيامها بذلك، بأنه أمر ضروري لحماية بطارية الهواتف الأقل حداثة من «متطلّبات الطاقة» التي تحتاجها التطبيقات الجديدة، من دون وجود أي دراسة تقنية تثبت ذلك، إذ كان يمكن أن تقول: استبدلوا البطارية وسيعود الجهاز إلى سرعته المعتادة. لكن نيّة الشركة أن تدفع المستهلكين إلى شراء المزيد والمزيد. في السنة الماضية، بحسب ما كشف موقع «xda» فإن «سامسونغ» قامت عن قصد بإبطاء آلاف التطبيقات التي تعمل على هواتفها الذكية مثل «نتفليكس» و«أوفيس» و«تيك توك» و«انستغرام» و«مسنجر»... وذلك عبر خدمة صنعتها هي باسم «Game Optimization Service». حتى أن «سامسونغ» نفسها اعترفت بالأمر.

خلال فترة الجائحة، ظهر نقص عالمي هائل في أجهزة التنفس الاصطناعي وتعطّل بعضها أثناء الاستخدام. يومها اكتشفت المستشفيات أنها مقيّدة من قبل الشركات المصنّعة للمعدات الطبّية التي لا يمكن صيانتها من قبل طرف ثالث، إذ احتفظ الصانعون بخرائط التصميم ما أجبر المستشفيات على التشاور فقط مع فنّيي الإصلاح المعتمدين من قبل الشركات، وهذا ما أخّر وصول الأجهزة إلى من هم بحاجة إليها. بانكشاف هذا السلوك، برزت حركة تدعى «الحقّ بالصيانة» (Right to Repair)، التي تهدف إلى تسهيل المهمة على الأفراد ومحال الصيانة المستقلة لإصلاح وصيانة الأجهزة الإلكترونية، بدلاً من الاضطرار إلى الاعتماد على خدمات الشركة المصنعة. اكتسبت الحركة صدى كبيراً بين المستخدمين وخاصة في الولايات المتحدة، لكن شركات التكنولوجيا تآمرت وتحالفت ضمن مجموعات ضغط لمنع المشرّع الأميركي من تثبيت سلوكهم بقوانين. ولم يكتفوا بذلك، بل تحايلوا على القوانين التي أقرّت بسبب تعاظم النقمة ضدهم، وهنا بعض الأمثلة:

- «آبل»: كانت من أكثر المعارضين علانيةً لـ«الحقّ في الصيانة». ومع تنامي الانتقادات في وجهها، أعلنت الشركة عام 2021 عن برنامج «الصيانة عبر الخدمة الذاتية»، والذي سيسمح للمستخدمين بإصلاح أجهزة «آيفون» الخاصة بهم باستخدام الأجزاء والأدوات التي توفرها «آبل».

لكن، على أرض الواقع، جعلت الشركة من تلك المهمة أمراً بيروقراطياً بامتياز، ووضعت المستخدمين في جداول انتظار لا تنتهي، كما حصرت الصيانة في متاجرها ما يعني القيادة لساعات بالنسبة إلى غالبية المستخدمين.

- «مايكروسوفت» دعمت بشكل عام الحركة، لكنها واجهت أيضاً انتقادات بسبب صعوبة إصلاح منتجاتها. وفي عام 2020، أصدرت دليلاً لإصلاح أجهزة «سورفايس»، وأعلنت عن خطط لإتاحة معدات الصيانة بالتعاون مع «iFixit» تحديداً لجهاز «سورفايس3». لكن لم تصل الأمور إلى أبعد من ذلك.

- «تسلا» عارضت الحق بالصيانة علناً. معارضتها هذه، تشبه سلوك إيلون ماسك الذي يمانع توحّد العمال وانضمامهم في نقابات. علماً أن هذه الشركة متهمة بأنها تصعّب على ورش الصيانة الميكانيكية المستقلّة، الوصول إلى معداتها التشخيصية وأجزائها. وبهذا الخصوص واجهت «تسلا» تحدّيات قانونية في ولايات عدّة. وفي عام 2021، أعلنت خدمة جديدة تسمى «خدمة تسلا المتحركة»، والتي تتيح لفنيين من الشركة إجراء الإصلاحات في الموقع، بدلاً من مطالبة المستخدمين بإحضار سياراتهم إلى مركز الخدمة.

عملياً، ما تقوم به شركات التكنولوجيا، أنها تدفع المستهلكين إلى شراء سلع جديدة عبر تقليل عمر المنتجات بشكل اصطناعي. وهذا أمر طبيعي ضمن العقلية الاقتصادية الرأسمالية التي تريد الاستمرار في بيع المنتجات حتى لو تشبّع السوق بها. بالنسبة إليها انتهاء، أو إنهاء عمر المنتجات، هو أفضل وسيلة لضمان ربح مؤكّد ومتواصل. أفضل الأمثلة التي تقدم لشرح ذلك، هو عندما تحالفت شركة «أورسام» و«فيليبس» و«تونغسرام» و«جنرال إلكتريك» في عام 1924، وقرروا أن المصابيح الكهربائية لا يجب أن تعيش أكثر من ألف ساعة. وهو أمر شبيه لما فعلته «آبل» و«سامسونغ».

ينعكس هذا السلوك المتوحّش سلباً على الطبقات الفقيرة التي لا يسمح لها دخلها بتمويل شراء المنتجات بوتيرة متكرّرة، إلا بإرهاق أنفسها في العمل أو بالاستدانة. بالنسبة إليها إن إصلاح الجهاز يكون أرخص من شراء آخر جديد، وأن الصيانة هو خيار وحيد متاح في غالبية الأحيان. وتقليل عمر الأجهزة من قبل المصنّع، يمنع الفقراء من الوصول إلى المعرفة والموارد، مثل الأفراد الأكثر ثراءً. كذلك، يحرمهم ذلك من تطوير مهاراتهم ويحجب عنهم فرص عمل متعددة. عملياً، هذا السلوك يسحق هؤلاء من أجل دمى استهلاكية معدومي الحيلة.

من جهة أخرى، يعدّ سلوك الشركات مضرّاً بالطبيعة، ولا سيما بالنسبة إلى «E-Waste» أي النفايات الإلكترونية التي تتكدّس في البلدان الفقيرة ويتسرّب منها كل ما تحتويه من معادن سامة إلى باطن الأرض. ففي تقرير نشره موقع «ستاتيستا»، يتبيّن أن النفايات الإلكترونية واحدة من أسرع النفايات نمواً في العالم. بين عامي 2010 و2019، زاد حجم النفايات الإلكترونية بنسبة 60% ووتيرته لا تتباطأ. وذلك يعود إلى مجموعة عوامل مثل عمر الأجهزة الذي بات أقصر، وصعوبة الصيانة، أو لأن الجهاز بات قديماً. وبحلول عام 2030، يتوقع أن يصل الإنتاج السنوي للنفايات الإلكترونية إلى 75 مليون طن متري. وتنتج آسيا نحو نصف النفايات الإلكترونية العالمية وغالبيته مصدره الصين التي تُعدّ أكبر منتج لها عالمياً، وتليها الولايات المتحدة.

النفايات الإلكترونية العالمية تحتوي على نحو 60 مليار دولار من المواد الخام، مثل الذهب والبلاديوم والفضّة والنحاس. ومع ذلك، يُجمع 17% منها حول العالم سنوياً على إعادة تدويرها. والعديد من البلدان الغنية تصدّر نفاياتها إلى البلدان النامية التي تفتقر إلى الإدارة السليمة للنفايات، مثل أفريقيا. ويمكن أن تتكوّن الإلكترونيات من مواد سامة مثل الزئبق والزرنيخ ومواد كيميائية خطيرة قابلة للتسرّب إلى باطن الأرض. بالفعل أصبح هذا التسرّب مشكلة صحية وبيئية كبيرة في غانا حيث يقع أحد أكبر مواقع النفايات الإلكترونية في العالم.

اضف تعليق