نعيش اليوم ذكرى استشهاد الإمام الكاظم (عليه السلام)، على أيدي طغاة العباسيين، وقد هبّت الملايين من الزوار انتصارا للحق على الظلم، وللإيمان ضد الاستبداد والطغيان، وتعظيما وتخليدا للمواقف العظيمة للإمام الكاظم (عليه السلام) وهو ينتصر للناس، ويتعامل معهم بمبدأ الإيثار ونكران الذات، لأنه من الفضائل الكبيرة...
(إنّ مَن أنكر ذاته لا يرجّح الدنيا وملذّاتها على حكم الله تعالى)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
نعيش اليوم ذكرى استشهاد الإمام الكاظم (عليه السلام)، على أيدي طغاة العباسيين، وقد هبّت الملايين من الزوار انتصارا للحق على الظلم، وللإيمان ضد الاستبداد والطغيان، وتعظيما وتخليدا للمواقف العظيمة للإمام الكاظم (عليه السلام) وهو ينتصر للناس، ويتعامل معهم بمبدأ الإيثار ونكران الذات، لأنه من الفضائل الكبيرة.
لقد آثر الإمام الكاظم أن يضحي بما كان عليه من نفوذ وسلطة، وقرّر أن يعمل ضد الطاغية العباسي واستثمار فرصة القدرة على مساعدة الناس بأقصى ما يمكن، وبقي متمسكا بقيمة نكران الذات، وعمل بها، وقارع من خلالها زمر الفساد والاستبداد، في العهد اللارشيد، حيث القمع والكتل والتنكيل والتصفية والتعذيب بلغ أوجه.
لكن الإمام الكاظم عليه السلام تمسك بمبدأ الانتصار للفقراء المظلومين، ولم يحابي السلطة، بل اعتمد أسلوب الاختراق للسلطة من خلال عدد ممن يثق بهم الطاغية، مثل ابن يقطين، فتمسك الإمام الكاظم عليه السلام، بسياسة نكران الذات، ودعم الفقراء والمظلومين حتى وهو يتبوّأ منصبا في سلطة العباسيين، لأن نكران الذات أساس كل فضيلة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (نفحات الهداية):
(إنّ الإنسان الذي يحبّ ذاته يرتكب كلّ رذيلة من أجلها، كما في الحديث النبوي الشريف: (حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة)، فكذلك يكون معرفة الله والقيام له ونكران الذات أساس كلّ فضيلة. فمن ينكر ذاته يترفّع عن الرذائل).
هناك نقيضان موجودان في داخل كل إنسان، وهما نكران الذات التي كلّلت سيرة الإمام الكاظم عليه السلام، وحب الذات وهي نقيض الإيثار والتضحية، فمن يحب ذاته لا يعترف بشيء اسمه نكران الذات، ولا يمكن أن يضحي بمصالحه في سبيل الآخرين، وهذا هو المرض الفتاك الذي يصيب الطغاة، ومحبي السلطة وحماتها بالقمع والاستبداد.
حب الذات مبدأ الحكام المستبدين
هناك حكام لا يخطر في بالهم مبدأ أو قيمة تُنصف الإنسان، وهؤلاء لا يعرفون في الحياة سوى أنفسهم، وحماية مصالحهم، وعروشهم، وكراسيهم، وأغلبهم إن لم يكونوا جميعا، في غاية الاستعداد للتضحية بكل شيء من أجل السلطة، فيما نلاحظ أن العظماء الخالدين يضحون بكل شيء من أجل التمسك بفضيلة نكران الذات، أما نقيضهم فإنهم متمسكون بالسلطة وبالذات وبمفاتن الدنيا كلها.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(انظروا في الطرف المقابل إلى الرؤساء والحكّام في الدنيا – الذين يحبون ذواتهم-. إنّ شتيمة واحدة توجّهها للحاكم كفيلة بأن تطيح برأسك، أو تعرِّضك للتعذيب، وربّما تعرِّض أبناءك وإخوتك وعشيرتك وأصدقاءك إلى التحقيق والتعذيب والاستجواب بسببها).
حين تمس شخصية الرئيس أو الحاكم، فإن الدنيا كلها تقوم ولا تقعد، وكأن الأرض تختلّ بجهاتها الأربع، فيسارع هذا المستبد الطاغية إلى إشعال نيران الحقد والكراهية في كيانه كلّه لمن يعارضه في رأي أو في كلمة، أو يشعر مجرد شعور بأنه يهدد سلطته، حينئذ يبطش بمعارضيه شر بطشة، ومنهم من يقتل الناس لمجرد الشك بهم.
وإذا أراد أن يرأف بالناس يسجنهم بالظن، أو تلفيق التهم الباطلة والكيدية، فيزج بهذا وذاك في سجون الدولة لمجرد الاشتباه بهذا الشخص أو ذاك، وقد تطول سنوات الحكم، لأناس أبرياء يذوقون آلام السجون وظلمها وظلامها وآلامها هم وعائلاتهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ما أكثر الدول التي يصدر حكّامها قانوناً بالسجن ـ لمدة عشر سنوات أو أقلّ أو أكثر لمَن يسبّ الحاكم، وما أكثر الذين يُسجنون بالظنّة والتهمة فيها).
هذا ما كان يحدث في جميع الدول التي قادتها أو لا تزال تقودها أنظمة دكتاتورية، وهذا أيضا ما كان يحدث في ظل الحكم العباسي، حتى ساد البطش والظلم والاستبداد، وقُتل كثير من الناس وزهقت أرواح بريئة لمجرد الاشتباه أو سوء الظن، وقد تصل جرائم السجون والتعذيب إلى قتل الناس دونما شعور بأدنى درجة من الإنسانية والرحمة.
وهل توجد الرحمة والرأفة في قلوب القساة، أولئك الذين ينظرون إلى مبدأ (نكران الذات)، بعين واحدة، أو بلا بصيرة، لكنهم يؤمنون أشد الإيمان بمبدأ (حب الذات) فيعبدون ذواتهم، ويقتلون الناس من أجل حماية مناصبهم وسلطاتهم ومغانمهم بغير وجه حق، بل لأنهم مجرمون ظالمون طغاة، وهناك أمثلة معروفة على حالات القتل المجاني الاعتباطي، حيث تحفل بها حكومات المستبدين، لكن التاريخ وثَّقها وسجلها ضدهم.
أفضلية العمل بأحكام الله تعالى
وهكذا فإن الاحتمال والاشتباه ومجرد الشك، أو الظن، يمكن أن يودي بحياة الناس في ظل الأنظمة الدكتاتورية، وقد ثبت تاريخيا كما في حكومات العباسيين وحكامهم، أنهم يقتلون لمجرد الاحتمال أو الظن، لأنهم لا يعترفون بنكران الذات.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يذكر لنا أحد هذه الأمثلة فيقول:
(لقد طالعتنا مجلة معروفة أنّ أحد المجرمين الجلاوزة أذاق اثنين من المؤمنين أنواع التعذيب ولمدة شهرين حتى فارقا الحياة، ثم تبيّن له بعد ذلك أنّه كان مشتبهاً بهما! تصوّر كيف تنقلب المعادلة عندما تصبح الذات هي الحاكمة. إنّ الاحتمال وحده يكفي لقتل الناس وظلمهم! لماذا؟ لأنّ نكران الذات غائب. والذات تقول أنا كلّ شيء. أمّا الذي ينكر ذاته فيقول: الله أكبر وهو فوق كلّ شيء).
إن الإمام الكاظم عليه السلام لم يرجّح ذاته في الدنيا، بل أنكرها عملا والتزما بأحكام الله تعالى وتقرّبا منه سبحانه، وهذا بالطبع لا يحرم المؤمن من (حلال الدنيا)، فأحكام السماء لم تمنع ما هو حلال عليهم، والحلال كثير جدا، وخياراته واسعة، وهناك الكثير الذي يمكن للإنسان المؤمن أن يحصل عليه في إطار الأحكام الشرعية.
لكن ما هو غير مباح، هو الحرام من الرغائب والملذات المحرّمة التي غالبا ما يكون مصدرها حب الذات، وليس نكرانها، وترك الدنيا إذا استوجب الأمر ذلك، كما فعل الإمام الكاظم عليه السلام وهو يحارب نظام الطاغوت العباسي، مضحيا بأغلى ما لديه، حياته، على الرغم من أن الطاغوت قرّبه كي يتحاشى قوته الروحية وتأثيره الشعبي الكبير بين الناس.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ مَن أنكر ذاته لا يرجّح الدنيا وملذّاتها على حكم الله تعالى، ولا يعني هذا أن يترك الإنسان الدنيا ويتخلّى عنها؛ فإنّ الله خلق الدنيا للمؤمنين وهم أَولى بها من الظالمين وأعداء الله، ولكن المقصود أن لا تملكهم الدنيا بل يملكوها ويأخذوا منها - من طريق الحلال - ما استطاعوا على أن يكونوا في الوقت نفسه مستعدّين للتخلّي عنها غير آسفين لو دار الأمر بينها وبين الله وأحكامه).
وهكذا هو الإمام الكاظم (عليه السلام)، يستشهد من أجل أن تبقى فضيلة نكران الذات عالية القيمة، وفاعلة، حتى لو كان ثمن نكران الذات تقديم النفس قربانا إلى الله تعالى، وقد ضحى الإمام الكاظم عليه السلام بنفسه، وترك بحبوحة السلطة ومغانمها لأنها تقوم على الظلم وهتك حرمات الناس، وبخس حقوقهم، فآثر الإمام الكاظم عليه السلام أن يحتفظ بنكران الذات من أجل الناس وإن قاده ذلك إلى الشهادة المباركة من أجل قيمة الإيثار.
اضف تعليق