q
في تاريخنا تجارب عملية لمن بدأوا من الفقر المدقع، ومن الضغوط الاجتماعية والمعيشية وحتى السياسية، ثم شقّوا طريق العلم والمعرفة الى حيث المعالي، وأصبح عالماً يفيد الاجيال بعلمه، او قائد بدأ فرداً عادياً في المجتمع، ثم تميّز عن الآخرين بتحمّل المسؤولية، وتصديق ما يتحدث عنه من أخلاق وآداب وأحكام على سلوكه الشخصي...

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}

سورة المائدة، الآية:105

من يريد بناء بيت في منطقة سكنية يهتم بشكل أساس الى قطعة الأرض لديه، ويفكر في توفير كافة شروط القوة والمتانة بما يؤهلها لحمل بناء كبير يدوم لسنوات طوال، وفي العراق تحديداً؛ ثمة اهتماماً بالغاً بمسألة أساس البيت او أي بناية أخرى، وما يطلق عليه بـ "الباتلو"، أو "الرفت" المحشو بالحصى (الجلمود) والاسمنت الممزوج بالرمل الاحمر ليشكل مادة خرسانية شديدة القوة تبعث الاطئمنان الى قلب صاحب البناء.

هذا المشهد الطبيعي والمألوف ربما يكون الى جوار بيت متهالك وقديم، أو قطعة أرض تعلوها الأنقاض، فهل يدخل هذا التهالك والحطام في برمجة ذلك البناء، او يشكل مورد استفادة لتشييده وتحقيق مواصفات النجاح فيه؟!

على الصعيد المادي الملموس لا تُرتجى علاقة بين الحالتين مطلقاً، بينما على صعيد الافكار والرؤى نلاحظ أمراً مختلفاً حيث التعكّز على فشل الآخرين وما يعده طرفٌ أنه حالة سلبية او انحراف او حتى ركون الى الباطل، مع اعتقاد الطرف الآخر بصحة ما يذهب اليه، فيتحول هذا الاعتقاد –غير الصحيح- الى أساس لبناء صحيح في عالم الفكر والثقافة والإصلاح الاجتماعي وحتى السياسي.

ماذا لدينا؟

لا أجدني بحاجة الى ذكر ما في خزائن القيم الأخلاقية ومنظومة الآداب والأحكام والقوانين والتشريعات ما يكفي لبناء أمم وشعوب، ومعالجة أحوالها المعيشية، بل وجعلها ترفل في الازدهار، وتتلمس طريقها نحو التطور والتقدم، ويكفي دليلاً على ما نقول؛ فيما يرشح بين فينة وأخرى من كبار العلماء والحكماء في العالم عن مناقب الإسلام، وما فيه من خير للإنسان، إنما نحن بحاجة الى تحويل هذه المواد الخام الى مفردات عملية تأخذ مكانها في عملية البناء والتأسيس، أو تأخذ دورها بشكل دقيق في عملية الإصلاح والتقويم.

مثالاً على ذلك؛ الطريق الى النجاح، ففي تاريخنا تجارب عملية لمن بدأوا من الفقر المدقع، ومن الضغوط الاجتماعية والمعيشية وحتى السياسية، ثم شقّوا طريق العلم والمعرفة الى حيث المعالي، وأصبح عالماً يفيد الاجيال بعلمه، او قائد بدأ فرداً عادياً في المجتمع، ثم تميّز عن الآخرين بتحمّل المسؤولية، وتصديق ما يتحدث عنه من أخلاق وآداب وأحكام على سلوكه الشخصي، ثم على فكره ومنهجه، مع التحلّي بالشجاعة والاقدام، متحدياً العقبات مهما كانت خطيرة عليه وعلى حياته، فاستحق التفاف الناس حوله والاصغاء اليه، ثم اتباع ارشاداته وما يدعو اليه.

وفي نهاية المطاف؛ تحقيق ما تصبو اليه الأمة من حرية واستقلال وكرامة. هذا الصنف من التجارب هي التي خاضتها أمم نتحدث عنها اليوم بأنها فاقدة للروح والأخلاق والانسانية لأنها انغمست في الحياة المادية، وأعطت الأولوية للإنتاج والمنفعة تحت شعار التطور العلمي والابداع في المجال التقني والتكنولوجي، فالشعب الذي نتحدث عن حالته السلبية لم يبدأ مسيرته العلمية نحو التقدم تحت راية قائد مخمور او مصاب بداء الكآبة او محترف اللصوصية والاختلاس، بل كانوا قادة مفكرين طرحوا بدائل للواقع السيئ الذي كانت تعيشه اوروبا والولايات المتحدة الاميركية واليابان والصين في فترات زمنية مختلفة، وهي افكار تفيد طبيعة الانسان هناك، وطريقة عيشه وثقافته وتاريخه، وما حصل من افرازات سلبية فهي بسبب التطبيقات الخاطئة، وتدخل عوامل اخرى أفسدت المنجزات العلمية وحولتها الى نقمة على أهلها.

فعندما أطلق آدم سميث، عالم الاقتصاد الاسكتلندي في القرن الثامن عشر مقولته: "دعه يعمل دعه يمر" لتأسيس نظرية التجارة الحرة واقتصاد السوق بعيداً عن تأثيرات الحكومة، لم يكن يتصور ظهور شريحة واسعة في المجتمع الغربي تشبه التماسيح في سلوكها الانتهازي والوحشي في الاستئثار بالثروة والتطاول على مساحات عمل الآخرين، والطغيان بكل اشكاله، ثم ظهور طبقة اصحاب المليارات مقابل جيوش الفقراء والجياع في البلاد الغربية نفسها وفي العالم بأسره.

لكننا نسأل عما إذا كانت هذه الفكرة "دعه يعمل" موجودة في النظام الاقتصادي الاسلامي أم لا؟ وكيف كان يعيش افراد الأمة طيلة القرون الماضية، وللعلم؛ فان التجار المسلمين في القرون الخوالي يبدو أنهم فرغوا من شغل التجارة وجربوا أنفسهم في شغل التبليغ للدين في بلاد الهند واندونيسيا والصين، فالمصادر التاريخية تخلّد بصمات لتجار مسلمين وصلوا هناك لتسويق بضائعهم، ثم استثمروا الوقت للتبليغ للإسلام وما فيه من قيم ومفاهيم أخلاقية وانسانية، فكان لهم الفضل في تحوّل الملايين هناك الى الدين الاسلامي، والى ارتفاع صوت التوحيد في الشرق الأقصى، وحصل الشيء نفسه في بلاد المغرب، وفي افريقيا ايضاً.

الأخلاق والآداب والمفاهيم الانسانية وكل ما يتصل بالروح يتعرض للتصدّع الشديد في الغرب، وفي بلاد عديدة بالعالم، وفي بلاد الاسلام فان كل هذه موجودة في بطون الكتب وفي بعض المظاهر السطحية في الشارع، فنحن بدلاً من الحديث عن هذه الثروة الهائلة والخزين العظيم من التراث، وتحويله الى مواد إنشائية للبناء والتأسيس، نسلط الضوء على ذلك التصدّع والفقر الأخلاقي والروحي، وإفرازاته المعروفة مثل؛ المتابعة المليونية لأخبار وأحوال مطربين أو رياضيين او ممثلين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

تعزيز الثقة

بين الافراد والجماعات تكمن العديد من القيم والعادات الحسنة النابعة من الدين، وهو ما نلاحظه في مدارس وجامعات ومؤسسات الدولة وفي الاسواق رغم الصورة السلبية المرسومة عن الواقع الاجتماعي وابتعاده عن الدين والقيم والالتزامات، كما اكتشف ذلك أحد الناشطين في إقامة المجالس الفاطمية مؤخراً وهو يوزع استمارات العمل التطوعي على طلبة الاعدادية بمدينة كربلاء المقدسة، ووجد التفاعل والاستجابة من عديد الطلبة مع المشروع، وهذا يُنبئ عن وجود عوامل بناء مستمدة من جذور عميقة فيما خلفه لنا رسول الله، من الكتاب المجيد وسيرة الأئمة المعصومين.

هذه الحالة الايجابية لا ينبغي أن يمسّها غبار انقاض الآخرين وسلبياتهم، إلا في سياق التحذير من احتمالات التأثّر، وهي ليست مسألة حتمية، اذا اخذنا بنظر الاعتبار النظام التربوي الموجود، فنحن ندعو الشباب لطلب العلم والاقتداء بالعظماء والناجحين والالتزام بأحكام الدين والأخلاق والفضيلة ليس خوفاً من أن يكونوا مثل الشباب الضائع في بعض بلدان العالم، وإنما ليكون رأسه مرفوعاً يتطلع المراقي العليا في التطور، مستنداً الى ارث عظيم يجعله أغنى انسان في العالم؛ مادياً ومعنوياً في الوقت نفسه، وهذا القرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة في الآية الكريمة من سورة الاعراف: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

اضف تعليق