هناك نوعان من البشر يبحثان عن رزقهما بطريقتين مختلفتين، منهما شخص يسعى لتأمين معاشه وعائلته وهو عمل صحيح، بمعنى هدفه الحصول على رزقه فقط، وهناك من يسعى في تجارته وتأمين رزقه لكن هدفه في ذلك أن يحقق رضا الله تعالى عليه، بمعنى لا يعزل رزقه عن مرضاة الله...
(الأسوأ بين الناس هو مَنْ لا ينفعه عِلْمهُ شيئاً)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
من الصعب أو النادر أن نعثر على بشر لا يريد أن يتعلم شيئا ما في حياته، فالتعلّم من الآخرين أو من قراءة الكتب، أو بأية وسيلة أخرى كانت، أمر يبتغيه الناس، حتى يحسّنوا من حياتهم ويطوّروها، ويؤمّنوا مصدر رزق أفضل لهم ولعوائلهم، وهذا هدف مشروع لا مانع فيه إلا حين يدخل التعلّم في أبواب الحرام والانحراف، أما إذا كان بابا لكسب الرزق وتحسين الحياة بطريقة مشروعة فلا مشكلة في ذلك، بل هو أمر واجب.
إذا كانت الحياة الدنيا تتطلب من الإنسان أن يتعلّم ويوظّف علمه لمنعة مشروعة، فهذا الهدف لا ينفي توظيف التعلّم للفوز في الدار الأخرى، وهذا يستدعي توظيف التعلم لأعمال وأقوال تزيد فرص المتعلّم بكسب الآخرة، من خلال عمل الخير والإكثار منه وإسناده والتشجيع عليه، بالإضافة إلى الهدف الدنيوي المشروع وهو تأمين سبل العيش الكريم.
لكن هناك من يتعلّم دونما استفادة مما تعلمّه، وهناك من يريد التعلّم كي (يخدع الآخرين)، فقد ورد في وصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر الغفاري: (يا أبا ذر، من ابتغى العلم ليخدع به الناس، لم يجد ريح الجنة).
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (يا أبا ذر):
إن (النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يحدّد لنا في هذا المقطع من الوصيّة الأسوأ بين الناس، حيث يشير إلى أنّ الأسوأ هو من لا ينفعه علمه شيئاً، أو لا ينتفع ممّا تعلّم، أي من يعلم ما هي الموبقات ـ مثلاً ـ ثم يعمد إلى اقترافها. ومن الواضح أنّ مثل هؤلاء الأفراد قد ضلّوا وهم أعجز عن هداية الآخرين).
فمن يضل طريق الهداية لا يمكنه أن يهدي الآخرين لطريق الصواب، وهناك من يسير في طريق العلم الشاق، ليس لطلب العلم ذاته، وإنما بحثا عن المناصب والمغانم، وهو ليس أقل خسارة من ذلك الذي يوظّف ما تعلّمه كي يخدع الآخرين، فهؤلاء أشخاص قال عنهم النبي الأكرم (ص) حرموا أنفسهم من (ريح الجنة) بأعماله الخاطئة.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ من طلب العلم للحصول على المناصب ومغانم الدنيا، فقد حرم نفسه من ريح الجنّة، أي أنّه ليس يُمنع من دخولها فحسب، بل لا يمكنه الاقتراب منها أيضاً).
كيف يكون رزقك كبيرا مباركا؟
هناك نوعان من البشر يبحثان عن رزقهما بطريقتين مختلفتين، منهما شخص يسعى لتأمين معاشه وعائلته وهو عمل صحيح، بمعنى هدفه الحصول على رزقه فقط، وهناك من يسعى في تجارته وتأمين رزقه لكن هدفه في ذلك أن يحقق رضا الله تعالى عليه، بمعنى لا يعزل رزقه عن مرضاة الله، أما الأول فهو يسعى دون أن يكون له هذا الهدف، لكن الكاسب الذي يبتغي رضوان الله يعلم تمام العلم بأن تحصيل الرزق عندما يقترن بالقبول الإلهي، فإنه يكون رزقا كبيرا ومباركا وصاحب الرزق يكون (حبيب الله).
كلاهما عمله صحيح ومشروع لكن من يقرن رزقه برضا الله، فإن عمله وسعيه وكدّه كلّه مأجور ويُثاب عليه، لهذا من الأفضل أن يتعلّم الإنسان كسب الرزق مع مراعاة هذه النقطة المهمة جدا، وإن كان له الحق أن يكسب رزقه مما يتعلّمه، لكن الأفضلية تبقى بسعي الإنسان المرتبط بهدف التقرب إلى الله تعالى.
حين يكون همّ الإنسان كسب رزقه من دون أن يضع في حسبانه ونيّته مرضاة الله، فإنه يخسر ذلك الثواب والأجر الذي يحصل عليه كاسب الرزق الذي يحذر ويحتاط من الزلل والخطل والإساءة، بل وحتى الهفوة الصغيرة في تحصيل الرزق، فيكون واعيا مطبّقا لما تعلّمه لتحصيل رزقه بما يرضي الله ليجعل منه وفيرا مباركا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(بعض الناس ينطلق إلى العمل لتأمين معاشه، وبعضهم يتاجر لأنّه يعلم بأنّ الكاسب - بالكسب الحلال- حبيب الله، وهو يريد أن يحقّق رضا الربّ المتعال، فالطرفان يصلان إلى أهدافهما، وكل منهما يؤمّن معاشه عن هذا الطريق، ولكن ذلك الذي يقصد السوق تقرّباً إلى الله سبحانه، فإنّ كل عمله ثواب وأجر، ويكون عند الله أحبّ من ذلك المجرّد عن نيّة التقرّب، وليس له من همّ سوى تأمين معاشه، رغم أنّ ما يقوم به هو أيضاً سلوكٌ مطلوب وممارسة ضرورية).
وضع العلم في خدمة الناس
هناك علماء يسعون للتعلّم وتحصيل العلم، ولكن لغايات مختلفة، فالعلم أشبه بالرزق الذي يسعى إليه الإنسان، وإذا تعلّم أية مهنة أو مهارة فعلية أو فكرية علمية كلامية، فإنه يتمكن من توظيف ذلك لكسب الرزق، لذلك هناك من يتعلّم لا ليضع علمه في خدمة الناس وحل مشاكلهم وتوجيههم نحو الصواب والصلاح، وإنما هناك من يذهب في الاتجاه المضاد.
مثلا هناك علماء يتعلمون ولا يضعون علمهم في خدمة الناس، بل على العكس من ذلك تماما، إنهم يحاولون خداع الناس بعلمهم الذي تعلّموه!!، فهؤلاء يسعون وراء تحصيل العلم، لكنهم للأسف يذهبون إلى أهداف أخرى غير مساعدة الناس وتوعيتهم وتوجيههم نحو الصلاح وأعمال الخير وما شابه، بل يعملون على خداع الناس، بمعنى يسعى لكسب العلم لكنه لا يسعى لنشره بين الناس ومساعدتهم على الوعي وقراءة الحياة بصورة صحيحة.
إن من يقرر التعلّم وتحصيل العلم لغرض خداع الناس، والتلاعب بإرادتهم وعقولهم، ويقلب (الباطل حقا والحق باطلا)، فإنه لا يشم ريح الجنة بل ويُحرَم من رؤيتها، فمن يتعلّم عليه أن يعلّم الناس وينشر علمه الصحيح فيما بينهم ويجعلهم أكثر معرفة وثقافة ووعيا لفهم الحياة، واتخاذ المواقف والأعمال والسلوكيات والمبادئ الصحيحة حيال ذلك.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(النوع الآخر من العلماء الذين لن يجدوا ريح الجنّة ويحرمون من رؤيتها، أولئك الذين يسعون وراء العلم، ولكن هدفهم من التعلّم كسب القدرة على خداع الناس، وإرادتهم تصيير الباطل حقّاً والحقّ باطلاً).
هناك من يبتغي العلم، وهذا مهم وإيجابي جدا، بل ومطلوب من كل إنسان، لكن المشكلة في ذلك تبدأ مع الغاية من التعلّم، أي لماذا يريد أن يتعلم؟، هذه الغاية الفعلية المخفية وليس المعلنة، هي حجر الزاوية في كون التعلّم إيجابي أم عكس ذلك، لأنه هناك من يريد أن يتعلّم ويكسب المزيد من العلم لكي يهيمن على الناس ويتلاعب بمصائرهم ووعيهم وعقولهم.
حين يضع الإنسان ما يتعلمه في إطار السيطرة على الناس والهيمنة على عقولهم، فهو بذلك يوظّف ما تعلّمه كي يكون فيما يريده هو وليس فيما يريده الله تعالى، لذلك مثل هذا العلم والتعلّم لا يفيد الناس، ولا يفيد الإنسان الذي بذل وقتا وجهدا كي يتعلّمه.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الابتغاء يعني الطلب، و «من ابتغى العلم» أي من سعى وراء العلم، وهو بطبيعة الحال يجهد جهده لكسب العلم، إلاّ أنّ دافعه لذلك هو التعلّم لبسط هيمنته على أذهان الناس ليجرّهم إلى حيث يريد هو، لا إلى حيث يريد الله تعالى).
وأخيرا لابد من أن يعرف الإنسان ما هي الغاية مما يتعلّمه من علوم ومهارات مختلفة؟، فتحديد الغاية مسبقا من التعلّم يضع الإنسان في الطريق الصحيح، ويصبح علمه نوعا من الرزق المبارك والعميم، حين يقوم المتعلّم بجعل علمه في خدمة الناس، وبما يكسب رضا الله تعالى، وبهذه الحالة فإن الغاية من العلم تكون سليمة وصالحة وإيجابية للجميع.
اضف تعليق