كلّ إنسان حتى لو بلغت مراتب إيمانه وتقواه درجة عالية، عليه أن يحذر كل الحذر من الشهوات الكثيرة التي تحيط به، وتغريه، وتدعوه إليها بكل الصور والسبل والأشكال، فإذا ضعف أمامها سقط فيها، لهذا نحتاج جميعا إلى الدعم الإلهي والرحمة الإلهية التي تحمينا من السقوط في فخ الشهوات...
(إنّ الإنسان محاطٌ بالشهوات شاء ذلك أم أبى، وانتبهَ أم تغافل)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
هنالك نواقص كثيرة تحيط بالإنسان، وتجعله يبحث عنها ويرغب بها، وقد يندفع إليها بقوة بغض النظر عن كونها مشروعة أو خلاف ذلك، فالشَهْوَة أو التَوْق هي قوةٌ نفسيةٌ تؤدي إلى رغبةٍ شديدةٍ لشيء ما أو ظرفٍ يُرضي الشعور، بينما يكون الشخص يمتلك بالفعل شيئًا هامًا آخر أو كميةً من شيءٍ مطلوب. للشهوة أشكالٌ متنوعةٌ مثل الرغبة الجنسية والحب والمال والقوة. وقد تأتي بأشكالٍ عاديةٍ مثل شهوة الطعام وهي مختلفة عن الحاجة إلى الطعام.
لذلك نلاحظ أن الشهوة تشكل ضغطا كبيرا على الإنسان، لاسيما تلك التي لا تدخل في إطار المشروعية والقبول الاجتماعي، ولا تعير انصياعا للقانون أو العرف، فيندفع صاحب الشهوة تحت ضغط شديد منها، فتقوده إلى ما لا يُحمَد عقباه، لهذا هنالك تحذيرات شديدة من الانسياق وراء الشهوات، كونها تكون فخا قاتلا في بعض الأحيان تتربص بالإنسان، وقد يعجز من مواجهة ضغط شهواته والحد منها.
لذلك كلّ إنسان حتى لو بلغت مراتب إيمانه وتقواه درجة عالية، عليه أن يحذر كل الحذر من الشهوات الكثيرة التي تحيط به، وتغريه، وتدعوه إليها بكل الصور والسبل والأشكال، فإذا ضعف أمامها سقط فيها، لهذا نحتاج جميعا إلى الدعم الإلهي والرحمة الإلهية التي تحمينا من السقوط في فخ الشهوات، وهذا يتطلب أن نستعين بشكل دائم بالله من هذا الفخ.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (حلية الصالحين):
(مهما بلغ الإنسان من المراتب العالية ـ سواء الدينية أو الدنيوية ـ فهو بحاجة إلى عون الله تعالى وتسديده).
لقد وُجدت الشهوة في الإنسان عند الخلْق، و وُلِدَت بولادته فلا خلاص منها، وهذا يعني أنها تعيش معه وتحيط به، وتحاول أن تسحب أقدامه ليسقط في حبائلها، نعم هناك شهوات يمكن إحاطتها بالمشروعية، لكن هناك الكثير منها لا يخضع ولا يمكن السيطرة عليه حتى من الناس الذين لديهم تقوى و ورع والتزام.
سبل النجاة من الشهوة
في هذه الحالة ليس أمام الإنسان سوى التمسك بالله بقوة وصدق وإخلاص، وعليه التشبث بالدعاء المستمر لله، كي يُنجيه من شهواته التي تتربص به وتسعى للإيقاع به، ولو لا توفيق الله ومعونته للإنسان، لا يمكنه الخلاص من الشهوة كونها معجونة في جسده وتسري في دمه كما يُقال، ولا سبيل لمقارعتها إلا بالدعاء المستمر للحصول على التسديد الإلهي.
هذا ما يؤكّده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حين يقول:
(حتى الذين توفّرت فيهم ملكة العدالة بأعلى درجاتها وأصدق معانيها، واجتنبوا في مقام العمل كلَّ المحرّمات، وأتوا بكلّ الواجبات، وكان عندهم فوق ذلك كلّه ورع كامل، ليسوا بقادرين على النهوض والارتقاء من دون أن يعينهم الله تعالى على ذلك ويأخذ بأيديهم؛ لأنّ الشهوات المختلفة من شأنها أن تحول ـ ولو شيئاًـ دون ذلك).
هذا يعني أن الإنسان حتى لو تنبّه لشهواته، وأشّر وجودها حوله، لأن هناك من يتأمل نفسه جيدا، ويكتشف شهواته ويعرفها من خلال مراقبته ومحاسبته لنفسه، لكن مع كل هذا الانتباه والمراقبة والحيطة، إلا أن الشهوات تبقى حاضرة بقوة، لدرجة أن الإنسان إذا أغفل عنها لحظة، سحبته إلى مساحتها التي تعجّ بالرغبات، لذلك يجب أن يفهم الإنسان بأنه في جميع الأحول، محاط بالشهوات سواء تنبّه لها أم أغفلها.
(إنّ الإنسان محاطٌ بالشهوات شاء ذلك أم أبی، والتفت أم تغافل. فقد يتأمّل الإنسان فيلتفت إلى مختلف شهواته، وقد يغفل فلا يلتفت) هذا ما يقوله سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) عن هذه القضية التي طالما أرَّقت الإنسان وتلاعبت بأفكاره وعواطفه وإرادته.
أما لماذا تواجدت الشهوات معنا بالولادة؟، ولماذا يصعب السيطرة عليها إلا بالاستقامة والاستعانة بالله؟، إن الهدف من وجود الشهوات عند الإنسان هو الاختبار الإلهي له، فكل بشر يولد ويطأ الأرض تولد معه الشهوات نفسها، لا فرق بين إنسان وآخر، لكي يكون الاختبار الإلهي عادلا، ومن يتمكن من صدّ شهواته والتحكم بها هو الفائز على غيره.
النجاح في الاختبار الإلهي
الإنسان الذي يسيطر على شهواته يصطف إلى جانب الناس الطيبين، أما الذي يفشل في السيطرة على شهواته ويكون طائعا لما تفرضه عليه، فهو من الخبثاء الفاشلين المنصاعين لشهواتهم التي تدفع بهم نحو الأفعال الشريرة.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إنّ الله سبحانه وتعالى أودع فينا الشهوات لكي يختبرنا ويَميز الخبيث من الطيّب).
مشكلة الشهوات أنها كبيرة وكثيرة وهائلة، ولا يمكن حصرها في مساحة محددة، وهذا يجعل من السيطرة عليها أمرا غاية في الصعوبة، فربما يتدرب بعض الناس على مقارعة هذه الشهوة أو تلك، وقد ينجح بعضهم في مسعاه هذا، ولكن لكثرة الشهوات فإنه قد يفشل في السيطرة على شهوات أخرى حتى لو نجح في بعضها.
لذلك من الصعوبة بمكان أن يتمكن الإنسان من التحكم بشهواته، ولكن بالدعاء الخالص لله، والسير في طريق الاستقامة، وترويض النفس وتعليمها وإجبارها والضغط عليها، مع التزام الدعاء المستمر لله بالإعانة والمساندة، يمكن أن يفلت من فخ الشهوات الذي يسعى للإطاحة به، في عملية اختبار يخوضها جميع الناس دون استثناء.
وكلما ازدادت قدرات الإنسان المالية والسلطوية والوظيفية وغيرها، كانت شهواته أشد وطأة عليه، فيعاني أكثر ممن هو أقل منه مسؤولية ومركزا وظيفيا أو اجتماعيا، ولكن لابد من التنبّه إلى أن البشرية كلها تخضع لهذا الاختبار كنوع من التمايز بين الأخيار والأشرار.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(قد ينجح المرء في كبح بعض شهواته، كالمرتاضين الذين يحقّقون ذلك ببعض الممارسات، ولكن ماذا يفعل الإنسان حيال الشهوات التي لا تعدّ ولا تحصى؟ وإن استطاع الإنسان أن يخفف من غلواء بعضها بالترويض والتمرين فإنّ هذا وحده لا يكون كفيلاً بكبح بعضها الآخر الذي يمكن أن يثقله ويشدّه إلى الأرض).
وهكذا ليس أما الإنسان إلا خوض هذا الامتحان، والذي يسعى لعبوره، عليه أن يفهم جيدا بأن الصراع مع الشهوات غالبا ما ينتهي بخسارته حتى لو كان يتحلى بالذكاء والوعي والنشاط المتعدد والمثابرة، فإيقاف الشهوة عند حدها لا يتم بالذكاء ولا بالوعي ولا بالنشاط، وإنما بالدعاء المخلص لله، فهو جلّ وعلا هو الذي ينجي الإنسان من قوة الشهوات.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دامك ظله):
(مهما كان الإنسان ذكياً وواعياً ونشطاً، مستوعباً لأطرافه وما يحيط به، غير أنّه لا يستطيع أن يصنع شيئاً مع ما عليه من ثقل الشهوات ـ وهو ثقل واقعي غالباً ما يحول دون الإنسان ورقيّه ـ ما لم يُعنْه الله تعالى ويأخذ بيده، وهذا بحاجة إلى الدعاء؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأ ُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾).
كل شيء أصبح واضحا أمام الإنسان، فقد خلقه الله ومعه مجموعة من الشهوات التي تسعى لإلقائه في فخ لا يخرج منه إلا خاسرا، لكن الله تعالى وهب الإنسان عقلا وقدرة على مقارعة الشهوات، وأعطاه مزايا أخرى تعينه للفوز والنجاة، ومنها التقوى والورع والإيمان، وفوق هذا كله وسيلة الدعاء التي تفتح الطريق للإنسان كي يهزم جميع الشهوات.
اضف تعليق