يبلغ مريض الذات إلى أقصى درجات الظلم والعناد، ويصل إلى حالة إغفال وجود الله تعالى، فنجده في هذه الحالة مستعدا للقيام بأي عمل حتى لو لم يكن مشروعا، لكي يبلغ غاياته، وينسى أو يتناسى الله تعالى، وأنبيائه، ويبدأ يشعر بنفسه وكأنه هو الإله، ولا يرى في ذلك مشكلة...
(إنّ مَنْ ينكر ذاته يترفّع عن الرذائل) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
من المشاكل النفسية الكبيرة التي تعترض حياة الإنسان، عجزهِ عن صنع التوازن الصحيح في ذاته، والنظر إليها بنظرة ليس فيها مغالاة، بحيث تتساوى في الاهتمام والتوقير مع الآخرين، ولا ينظر إلى ذاته وكأنه الأفضل من الجميع، أو أنه أهم من الذين يحتك معهم في العمل والدراسة وغير ذلك، فمن الأهمية بمكان أن يتخلص الإنسان من حالة التوقير المتعالية لذاته، وأن يرى شخصه متساوٍ مع الآخرين في الحقوق والواجبات.
لكن المشكلة الموجودة في الإنسان، أنه غالبا من يوقّر ذاته أكثر ممّن يحيط به، وانطلاقا من ذلك يجعل منافعه في المقدمة، ويترفّع على الآخرين، ولا يكون متعاونا معهم، ويشعر دائما أن الأولى به الاهتمام بنفسه، وبمنافعه، أما حاجات الآخرين ومصالحهم فهي غير ذات أهمية بالنسبة له، فيُصاب بالنرجسية وحب الذات، ويصبح السلوك الأناني جزء لا يتجزأ من شخصيته، وبذلك تزداد مصائبه وأخطائه، ولكنه لا يشعر بذلك لأنه مشغول بذاته أولا.
لا يتوقف الأمر على حبه لنفسه، وتفضيلها على الآخرين، بل سوف يتطور هذا الحب الذاتي والمغالاة النرجسية، إلى سحق الآخرين، وإلحاق الأذى بهم، وظلمهم، والتجاوز على حقوقهم، والانشغال التام بتأمين أهدافه ذات الطابع المادي، حتى لو تم تأمين هذه المصالح على حساب حقوق الناس وإلحاق الظلم بهم والتنمّر عليهم، وبهذا سوف يواجه مشكلات كبيرة، ومصاعب جمة ومصائب لا حدود لها.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيّمة موجودة في كتاب (نفحات الهدى):
(كلّ إنسان في الأعمّ الأغلب، يوقّر ذاته ويحترمها ويراها أولى من كلّ شيء، مع أنّ كلّ البلايا والمصائب وكلّ ظلم وتجاوز يأتي من حبّ الذات).
تتطور هذه الحالة النرجسية أكثر فأكثر، ويزداد منسوب الأنانية في سلوكه وتصرفاته، ومع مرور الوقت تتضخم ذاته، فينظر إلى ذاته وكأنه فوق البشر، وأعلى شأنا بهم، وشيئا فشيئا يضع نفسه في مقابل الذات الإلهية، وهذه من أسوأ النتائج التي تترتب عليها أمراض الذات وتضخمها، فمن يضع شخصه وذاته في مقابل الخالق سبحانه سوف يرتّد خائبا منتكسا، ليسقط في الحضيض بسبب أمراضه الذاتية المتضخمة.
النهاية البائسة للفرد الأناني
وانطلاقا من هذا الوهم الذاتي بالقوة والكبر، يبدأ هذا الإنسان المريض بوضع ذاته في مقابل المجتمع كله، ضاربا القيم والأخلاقيات والتقاليد والثواب عرض الحائط، معتبرا نفسه الأفضل والأقوى والأعلى شأنا بين الجميع، وهو مرض خطير يحيل حياة الإنسان إلى سلسلة من الانتكاسات النفسية والمادية، وصولا إلى نهايته البائسة المحتومة.
هؤلاء المرضى المعقَّدون، بسبب أمراض الذات التي تطيح بهم، لا يترددون بسحق الجميع من أجل بلوغ مآربهم غير المشروعة، فهو لا يتورع عن الظلم، ولا يرى في التجاوز على الآخرين مثلبة، بل يرى كل الأهداف التي توصله إلى مصالحه مشروعة، وهو في هذه الحالة يؤمن بمبدأ الظالمين والطغاة الذي يرون أن (الغاية تبرر الوسيلة).
فيقومون بسحق الناس ظلما وقهرا وتعذيبا، وينتهكون حرماتهم، ويأكلون حقوقهم ولا يرون في ذلك مشكلة أو معصية أو خطأ، بل يؤمنون بأنهم يقومون بالفعل الصحيح لبلوغ غاياتهم التي هي في مجملها غايات غير مشروعة، كونها من محارم الله تعالى.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الطامّة الكبرى عندما يؤثر الإنسان ذاته في مقابل الحقّ سبحانه وفي مقابل الأخلاق والمجتمع والفضائل، فأكثر الناس ـ مع الأسف ـ يرى الله ويرى ذاته معه؛ وينظر إلى المجتمع والأخلاق ويرى ذاته معهما؛ ولذلك تراهم في الغالب يسحقون كلّ شيء من أجل ذواتهم).
هؤلاء المصابون بحب الذات، ينتهجون كل الأساليب المحرمة بسبب حبهم لذواتهم، وامتطائهم لرغباتهم، عبر الأساليب التي لا تنسجم مع الحق، ولا تحترم حقوق الناس، ولا يعنيها الحرام بأي شكل كان، لأن غايتهم الأولى كيف يحصلون على المال والقوة والسلطة والوجاهة، حتى لو حصلوا عليها عن طريق ظلم الناس، أو ابتزازهم واستغلال عوزهم.
الربا على سبيل المثال فعل محرّم وغير مقبول بسبب النتائج الكارثية التي يُلحقها بالمجتمع، ولكن من يحب ذاته ويخطط لتحقيق مآربه الخاطئة، يمتطي كل الأساليب التي تصل به إلى ما يبتغي، فلا يتردد في المراباة ولا يرتدع عن هذا الفعل، ولا يجد مشكلة في استغلال حاجة الناس المعوزين، والفقراء، والمحتاجين.
استثمار شهر رمضان قبل فوات الأوان
فيتركّز كل همه على تحصيل الأموال، عن طريق الربا أو سواه كالسرقة والاحتيال، وخداع الناس، المهم لديه كيف يحصل على الأموال ويضاعف رصيده في البنوك، لأن المال قوة وسلطة، وهذا النوع من البشر الذين يحبون ذواتهم، لا يترددون قيد أنملة في استغلال الناس أبشع استغلال لكي يصلوا إلى غاياتهم الشريرة.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(الذي يفعل الحرام بأكله الربا أو بظلم الناس مثلاً إنّما يفعل ذلك من أجل ذاته.. فهو يريد لها المال.. يريد لها التقدير والظهور والوجاهة والزعامة وتحقيق كلّ رغباتها ولو عبر الطرق غير الشرعية).
وهكذا يبلغ مريض الذات إلى أقصى درجات الظلم والعناد، ويصل إلى حالة إغفال وجود الله تعالى، فنجده في هذه الحالة مستعدا للقيام بأي عمل حتى لو لم يكن مشروعا، لكي يبلغ غاياته، وينسى أو يتناسى الله تعالى، وأنبيائه، ويبدأ يشعر بنفسه وكأنه هو الإله، ولا يرى في ذلك مشكلة، ولا تسمح له ذاته بفرز الخطأ عن الصحيح.
وهكذا لا تشكل أحكام الله تعالى أي شيء عنده، بل يتجرأ عليها ويسحقها، ولا يبالي بها، لأن ذاته المريضة أصابته بعمى البصيرة التي لم تعد تُبصر ولا تفرق بين المعصية والفضيلة، وبين الخطأ والصحيح، فما يحقق له مآربه هو الشيء الصحيح وما عاده خطأ حتى لو كان صحيحا، أما حقوق الآخرين فتصبح بالنسبة للمريض ذاتيا في خبر كان.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إذا لم يكن الإنسان يرى الله وينكر ذاته تراه يسحق أحكام الله ولا يبالي، ويولّي ظهره لله ولأنبيائه ويتّخذ نفسه إلهاً من دون الله).
إذا هما حالتان متناقضتان، فأما أن يحب الإنسان ذاته ويسحق من أجلها كل شيء، أو يكون على العكس من ذلك، ناكرا لذاته وهذا هو أساس كل فضيلة، لأن الذي يكون مستعدا لإنكار ذاته، فإنه لن يتقرّب من الرذيلة ولا يُدخلها في حساباته مطلقا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إن نكران الذات وحبّ الله أساس كلّ فضيلة، فكما أنّ الإنسان الذي يحبّ ذاته يرتكب كلّ رذيلة من أجلها، كما في الحديث النبوي الشريف: (حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة)، فكذلك يكون معرفة الله والقيام له ونكران الذات أساس كلّ فضيلة. فمن ينكر ذاته يترفّع عن الرذائل).
في الختام لابد من التذكير أن حب الذات مرض يمكن معالجته في حال يتنبّه إليه الإنسان قبل فوات الأوان، ولعل شهر رمضان المبارك، خير فرصة لمراجعة الإنسان لسلوكياته وطريقة حياته، وقناعاته التي قد يكون الكثير منها على خطأ، لهذا من المستحسن استثمار هذا الشهر الفضيل لمعالجة الذات قبل فوات الأوان، وهو علاج قيد بنان الإنسان إذا عقد العزم والنيّة للقضاء على مرض حب الذات.
اضف تعليق