حب التملّك غريزة خُلِقَت مع الإنسان، من بين الكثير من الغرائز التي تساعد الإنسان على مواصلة الحياة، كالخوف مثلا، فالبشر خُلقوا وهم يخشون أي شيء يتهدّد حياتهم، كما أنهم متشبثون بما يملكون ويمتلكون أشد التشبث، وكلا الغريزتين في صالح الإنسان بشرط استخدامهما بشكل متوازن...
(السيطرة على النفس تحتاج إلى ترويض قد يستغرق عقوداً من السنين)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
حب التملّك غريزة خُلِقَت مع الإنسان، من بين الكثير من الغرائز التي تساعد الإنسان على مواصلة الحياة، كالخوف مثلا، فالبشر خُلقوا وهم يخشون أي شيء يتهدّد حياتهم، كما أنهم متشبثون بما يملكون ويمتلكون أشد التشبث، وكلا الغريزتين في صالح الإنسان بشرط استخدامهما بشكل متوازن، فالخوف إن زاد عند حده يتحول إلى جُبْن مبالغ به، أما إذا كان الخوف واقعيا عقلانيا فهو يحمي الإنسان من الخطر، مع احتفاظه بشجاعته وتوازنه.
حب التملك إنْ تجاوز حدّه أصبح طمعا واستئثارا وأنانية، وهذه من الصفات المدمّرة للإنسان والمجتمعات، لذلك يجب أن يكون الإنسان مبادرا على الدوام بالإنفاق من الممتلكات التي يحتاجها لنفسه وعائلته، وليس من الحاجيات الفائضة عن الحاجة، التربية الصالحة للنفس تلزم الإنسان بعدم المبالغة بالتملك، وتطالبه بالإنفاق المستمر للمعوزين، بشرط أن يكون ما يُنفقه ليس فائضا لديه وإنما مما يشكل جزءا من احتياجاته.
هذا لا يعني أن الإنفاق مما يفيض عن الحاجة غير صحيح، كلا هو يدخل في إطار الإنفاق أيضا، ولكن درجة أو مقدار الثواب التي يحصل عليها أقل مما لو ينفق مما لا يفيض عن حاجته، والسبب أن تربية النفس الصالحة تعتمد على الإنفاق مما لا يفيض عن حاجة الإنسان، ويدخل ضمن ضرورات ديمومة الحياة له ولعائلته.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (العلم النافع):
(إنّ الإنسان إذا أنفق الرديء أو ما فاض من ماله فهو وإن كان إنفاقاً لبعض المال وقد ينفع من أنفق عليه، غير أنّه لا يمكن أن يصل بصاحبه إلى ساحل البرّ والإحسان، بينما لو كان إنفاق الإنسان ممّا يحبّ ولا يستغني عنه، فهذا بعينه هو الذي يربّي النفس تربية صالحة).
نحن نعيش في عالم ينحو نحو الفردية والأنانية، ويذهب الناس إلى تأمين ما يحتاجونه لضمان حاضرهم ومستقبل أولادهم، من دون التفكير بأن هناك من يقاسمهم الأرض وخيراتها، وهؤلاء لهم الحق في أن يعيشوا بكرامة وأمان ودونما إذلال، ولذلك تزداد وتيرة الاستحواذ عالميا، وبشكل متواصل، ولا يتنبّه من تقع عليهم مسؤولية التوازن لما يجري، أو أنهم يعرفون المخاطر التي تحيق بالعالم ويغضّون البصر، فالمهم لديهم أن يؤمّنوا ممتلكاتهم وحياتهم، وليذهب الآخرون إلى الهاوية.
كيف نحمي أنفسنا من الأنانية؟
هذا التفكير ليس سليما، ولا يضمن حياة جيدة للمستأثرين والمستحوذين، بل يعرّضهم إلى نفس الأخطار التي يواجهها المعوزين، لذلك يجب أن يتعب ويكدح الجميع في تربية أنفسهم التربية الصالحة التي تحميهم من الأنانية والانحدار المادي وتضمن لهم مخرجات إيجابية مضمونة ومؤكّدة، وهذا هو الخلاص الذي يجب أن تؤمّنه البشرية لنفسها، ونعني به السيطرة على النفس وتربيتها بشكل صحيح، والمبادرة للإنفاق مما يحتاجه الإنسان وليس مما يفيض عن استخداماته.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لا شكّ أنّ هذه التربية لا تتحقّق فيما لو كان هناك فقير جائع وأعطيتَه أرغفةً من الخبز لا تحتاج إليها، وإن كان هذا إنفاقاً أيضاً ويعدّ عملاً صالحاً تثاب عليه، ولكن إن استطعت أن تعطيه أرغفة الخبز مع حاجتك إليها فهذا يعني أنّك بلغت مرحلة عالية من تربية النفس).
الأديان منذ أن بزغت الحاجة لها، أكدت على التكافل والتعاون والتقارب لتذليل مصاعب الحياة، وتوفير حياة كريمة للجميع، مع أن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج للإنفاق ولا لمن يبادر به، فهو سبحانه غنيّ بذاته، ولكن رحمة بالبشر جاءت التعاليم الإسلامية لكي تبث الرحمة والتعاون والتكافل بين الناس.
إن الامتحان الذي يتعرض له الإنسان في قضية الإنفاق كبير، وفيه الكثير من المصاعب والعقبات، وأكبر نفس الإنسان التي تسعى لمنعه من الإنفاق ومساعدة الناس، وهذا يتعلق بمدى سيطرته على نفسه، وبدرجة حكمته وعقليته، وبالمواظبة على ترويضه لنفسه، وتعويدها على الإنفاق الأفضل وقد سبق تفسيره في أعلاه.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إنّ الله لا يحتاج إلى الإنفاق ولا إلى المنفق، لأنّه تعالى قادر على إغناء الناس فلا يكون فقير واحد محتاج للإنفاق، ولكنّه سبحانه جعل هناك فقيراً وآخر غنيّاً، ومحتاجاً ومنفقاً، لكي يكون هناك امتحان وتربية).
قيادة الإنسان لنفسه وليس العكس
بعض الناس لا تعنيه آراءنا هذه، ولا تدخل ضمن اهتماماته، لأنه موغل في المادية من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، لدرجة أن الأموال والمكاسب والمغانم أعمت بصره ودمّرت بصيرته، وهذا خطأ كبير يرتكبه الإنسان بحق نفسه، وبحق البشرية كلها، إذ يجب التنبّه إلى أن الأموال والمغانم المادية ليست كل شيء في حياة الناس.
وهناك يوم حساب قادم، لا ريب فيه، حيث يُسأل الجميع عمّا قدّموه من أعمال صالحة تعينهم على الفوز بالرضوان الإلهي، فضلا عن دورهم في صنع حياة متوازنة تساعد الناس على اعتماد الفضائل وترسيخها، على العكس مما يغطس في ملذات الدنيا ومادياتها، غير مبالٍ بما يتسبب به للآخرين من تجاوزات وانتهاكات، والحل لكسب المخرجات الإيجابية يكمن في قيادة الإنسان لنفسه وليس العكس.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(وهذا لا يتحقّق من خلال تقديم الطعام الزائد عن الحاجة الذي لا تجد النفس رغبة فيه، بل لابدّ أن يكون الإنسان محتاجاً لذلك الطعام الذي يقدّمه وراغباً فيه ومع ذلك يقدّمه لغيره، وهذه الحالة هي التي تساهم في تربية النفس وتُعَدّ من الفضائل؛ لأنّ المراد من الفضائل والأخلاق تربية الإنسان نفسه، وأن يكون هو القائد لها المسيطر عليها وليس العكس).
مما يساعد الإنسان على دعم خاصية الإنفاق في ذاته وتوجهاته، أنه يميل إلى صنع النفس الصالحة، أكثر من ميوله إلى الشر، وهذا الأمر يشكل له قاعدة أو نقطة انطلاق وشروع نحو بناء النفس الصالحة، مع أنه هناك كثير من الناس يظنون بأنهم ليسوا بحاجة إلى ترويض النفس، أو أنهم قادرون على بلوغ هذا الهدف بسهولة.
لكنه ليس هدفا سهلا مطلقا، بل هو من أصعب ما يرغب الإنسان بالوصول إليه، لأن النفس بطبيعتها تحب الراحة والملذات والسلطة والامتيازات، وإذا لم يضع الإنسان حدودا لنفسه فإنه سوف يكون ضحية لها، بل أول ضحاياها، لهذا يجب أن يعرف الإنسان بأن مطلب ترويض النفس ليس هينا ولا سهلا، وعليه أن يكون مستعدا جيدا لبلوغ مرامه العصيب.
وهذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(كلّ إنسان يحبّ أن يكون صالحاً إلاّ القليل من ذوي النفوس السيّئة، والكثير قد يتصوّر أنّ بلوغ هذا الأمر شيء سهل وأنّه لا يحتاج إلى مثابرة وترويض؛ مع أنّه أصعب وأعمق شيء ولا ينال بسهولة).
إذاً في خلاصة القول، لابد من مدخلات جيدة في التفكير والسلوك والعمل، حتى يستطيع الإنسان قطف ثمار المخرجات التي ستأتي كنتيجة لمدخلاته، وكل أعمال الخير تدخل في هذا الإطار، ومن بينها (الإنفاق)، فهو يُسهم في بناء إنسان جيد وأمة جيدة، ولأنه صعب التنفيذ بسبب العقبات التي تضعها نفس الإنسان كمعرقلات، لهذا يجب أن يتقن الناس طريقة وأسلوب وأدوات ترويض النفس والسيطرة عليها لكسب المخرجات الجيدة.
اضف تعليق