q
العالم يتغير بسرعة، وهو تغير كثيرا، ومنطقتنا العربية -الاسلامية هي الساحة الاكثر هشاشة والاشد اضطرابا والاكثر فقرا والاقل سلاما، وهي متخمة بالتحديات والازمات بما يتطلب حسابات جديدة لمواجهة اعبائها، اغلب الظن ان منطق الحلول والتسويات صارت اكثر الحاحا، من ذي قبل، لمعظم دول العالم...

يعقد مئات الملايين من البشر آمالهم على المفاوضات النووية التي تجريها ايران مع مجموعة دول 5+1، بأمل احياء الاتفاق الشهير، وسواء عُدلت بعض بنوده أو بقيت كما هي، الا ان متغيرات كثيرة حصلت خلال هذه المدة، اثرت على التفكير والسلوك السياسي لدى جميع الاطراف المعنية، وجعلتها متشككة من نوايا بعضها أو مجتمعة لكنها مضطرة للحوار والتعامل المباشر لدواعي كثيرة ابرزها الحاجة الى الامن وضمان المصالح في بيئة متغيرة.

حسابات السياسيين والستراتيجيين ليست كحسابات الناس العاديين، فهناك عشرات الملايين من الايرانيين، وامثالهم على امتداد جغرافيا المنطقة وخارجها، ينتظرون اخبارا سعيدة من فيينا، الاخبار الايجابية تعني تراجع حدة التوتر، والتخلي عن الجزء الاكبر من سياسة العقوبات، وانخراطا ايرانيا ايجابيا في حوارات دولية واقليمية لبناء منظومة الامن والسلام في منطقة ملتهبة أساسا، تلتهمها نيران الحروب والنزاعات، وتدمرها الازمات والمشاكل بما لم يسبق ان مرت به في تاريخها الحديث.

الانعكاس الايجابي لصفقة نووية ايرانية دولية جديدة، سيحرك من جديد المفاوضات الايرانية -السعودية التي تستضيفها بغداد، وفي كلا المكانين، فيينا وبغداد، هناك سباق محموم بين ارادتين ومسارين، ارادة الاتفاق وتغليب منطق السلم وتلبية الاحتياجات المتبادلة، ومنهج العناد والشكوك ونسف الاتفاقات والتفاهمات، وتغليب مسار القوة والتهديد بالحرب او التلويح بها.

اذا نجح المسار الاول، سينسكب دلو ماء بارد على جميع الصقور والاصوليين والنافخين برماد الحروب في عموم الساحة العالمية، اما اذا نجح دعاة الحرب والتشدد في تأجيج منطق الصراع والقوة والتحريض، فان عشرية سوداء من الاضطرابات المحلية والصراعات والحروب ستحل على رؤوس المغلوبين من ابناء هذه المنطقة وربما خارجها ايضا.

المرحلة الراهنة حرجة داخليا وخارجيا لجميع الاطراف الاقليمية والدولية، فمامن دولة لا تعاني من مشكلات اقتصادية وبيئية، والمخاطرة السياسية صارت مخيفة بسبب الازمات الاجتماعية والنفسية والسياسية التي تهدد الاستقرار والامن.

فيما مضى كان الذهاب الى الحرب هو البديل الحتمي لفشل المفاوضات، الان لم يعد بديل المفاوضات سوى المفاوضات نفسها، حتى لو امتدت لسنوات، فما كان ممكنا تحقيقه بالحرب الصلبة، صار ممكنا تحقيقه بالادوات الناعمة، فلم الحرب وتداعياتها المهلكة؟ ومن هي القوة التي بامكانها ان تكسب حربا دونما ثمن باهظ؟

المثال الافغاني نموذج صارخ على فشل منطق القوة، لكن ذلك لا يعني ان عقول الساسة ومزاجهم صار اكثر هدوئا وعقلانية ،فمنطق القوة والهيمنة والاستحواذ، وصراع الستراتيجيات والمخاوف يلقي بثقله على صناع السياسات، علاوة على روح المجازفة وأحيانا بدافع الهرب من التحديات الداخلية، كل ذلك قد يدفع الى التهور، امريكا المجهدة داخليا وخارجيا، تريد اتفاقا مع ايران يحفظ لادارة بايدن تماسك رؤيتها وسعيها للابقاء على امريكا قطبا أوحدا يقود العالم، ويمنع الطموح الصيني من تجاوز سقوف المنافسة الاقتصادية الى السيطرة على الممرات البحرية والبرية، في عودة متجددة الى ستراتيجيات التطويق والقضم والمحاصرة التي مارستها القوى الكبرى ضد بعضها.

الروس المشغولون بالنظرية الاوراسية وبافكار الكسندر دوغين لايستطيعون المناورة كثيرا خارج حدود مساحات تحركهم التاريخية، وهي مناطق الشرق الاوربي والبحار القريبة شمالا وجنوبا، الاتحاد الاوربي صار اكثر قناعة بان أمنه وسياسته الدفاعية لابد ان تكون اكثر استقلالية واقوى ذاتيا من الاعتماد على القوة الامريكية. الدول الاقليمية الطامحة جربت تكاليف المغامرة العسكرية والتدخل المباشر ولم تحقق امرا ذي قيمة.

العالم يتغير بسرعة، وهو تغير كثيرا، ومنطقتنا العربية -الاسلامية هي الساحة الاكثر هشاشة والاشد اضطرابا والاكثر فقرا والاقل سلاما، وهي متخمة بالتحديات والازمات بما يتطلب حسابات جديدة لمواجهة اعبائها، اغلب الظن ان منطق الحلول والتسويات صارت اكثر الحاحا، من ذي قبل، فمن سوريا الى اليمن، ومن مضيق هرمز الى ساحل المتوسط، بانت هشاشة الدول وضعفها وتقهقرت فكرة المشاريع الكبرى، بل ماتت او هي تحتضر معلنة الحاجة الى مقاربات سياسية اكثر عقلانية واقل ايديولوجية غير ذلك سنشهد سرعة كبيرة لبناء احلاف أمنية وستراتيجيات دفاعية لا تخدم مشروع السلام الواقعي، انما توفر غطاء لتمدد اسرائيلي كبير تحت مظلة التطبيع المرفوضة شعبيا والمقبولة رسميا في اكثر من بلد عربي واسلامي.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق