الإمام الشيرازي بشهادة الآخرين قبل الأقربين، يُعدّ شخصية علمية متميزة وملهمة، فقد قدم (رحمه الله) منجزا فكريا بالغ الثراء، في حياته وبعد مماته، إذ بقيت أفكاره تتفاعل في ساحة العصر، وفي المجالات كافة، فقد كتب الامام الراحل في المجالات العلمية والدينية والتربوية، وفي العلوم الانسانية المختلفة، كالسياسة والاقتصاد والصحة والتعليم والاجتماع، وترك وراءه قرابة الألف وأربعمائة مؤلَّف، تبحث في شؤون الحياة كافة.
وكان الإمام الشيرازي ذا ملَكات وصفات متميزة هي الأخرى، لدرجة انه ترك تأثيرا كبيرا في القريبين منه والبعيدين عنه أيضا، بسبب إنسانيته العالية، وتوقّد ذهنه، وحماسته العالية في الانجاز المتواصل للأهداف التي يخطط لها ويؤمن بها.
وخير دليل على طبيعة شخصية الإمام الشيرازي، تأتي من الكلمات المعبّرة والقيّمة والبالغة الصدق والعمق، التي وصف بها سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، أخاه الإمام الشيرازي بعد رحيله الى جنان الله تعالى، حيث قال عنه سماحته: إن (هذا الأخ الأكبر كان بمنزلة الأب، بل كان هو الأب.. بل كان هو الأبّ!، وذلك حسب الحديث الشريف: الآباء ثلاثة؛ أب ولدك، وأب زوّجك، وأب علمك).
ولم تترك أبوّة الإمام الشيرازي وحدها تأثيرها في سماحة المرجع الشيرازي، بل هناك أمر آخر مهم يوازي في أهميته التأثير الأبوي، ألا وهو التعليم، فقد وصف سماحة المرجع الشيرازي أخاه الامام الشيرازي بـ (المعلم الأكبر)، كونه لازمه عددا من السنين، واستقى العلم والتربية منه، فكان تأثيره كبيرا وواضحا في شخصية المرجع الشيرازي.
وهكذا اجتمعت صفتان هما الأبوّة والتعليم في شخصية الامام الشيرازي، وكان تأثيرهما بالغا، لاسيما الجانب الأبوي الذي يغدقه الأب العالم العطوف على ابنه الذي يتطلع الى العلم بشغف، وظمأ الطلاب المتميزين الذين يجدون في أنفسهم طاقة عظيمة لخدمة الأمة، وهذا ما حدث بالضبط، عندما خلف سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي، أخاه الامام الشيرازي بعد رحيله الى الدار الأخرى، آخذا على عاتقه مسؤولية التوجيه والرعاية للأمة الاسلامية جمعاء، فصار سماحة المرجع الشيرازي خير خلف لخير سلف، وبذل أقصى ما يتمكن عليه من خدمة لأمته ومجتمعه.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (كان المعلم الأكبر والأجمع والأوسع لي، وعشت معه هذا الفترة الطويلة والقصيرة في آن واحد فلم أر منه إلا ما يراه الابن المحتاج إلى أبيه العالم البار العطوف).
تعبئة المجتمعات بالمؤسسات
من الواضح أن التأثير البالغ للإمام الشيرازي في المسلمين عموما، جاء كمحصلة منطقية لما بذله من جهود مضنية في الإطلاع، وتحصيل العلم والفكر، ودراسة أسرار الحياة والكون وقبل ذلك دراسة خصائص الانسان نفسه، وهذا أتاح للإمام الشيرازي ميزة أساسية جعلته قادرا على استغوار مجاهيل الأفكار والأشياء، ومعرفة بواطنها، ومن ثم الاستفادة منها عن طريق تحويلها الى مضامين وأفكار ايجابية، بأسلوب واضح وبسيط وعميق في ذات الوقت (السهل الممتنع).
وقد استمد الامام الراحل علمه ومعرفته الواسعة والشاملة، من إبحاره العميق والمتواصل في علوم أئمة أهل البيت عليهم السلام، فكان الامام الراحل يقضي الليل متواصلا بالنهار والاسبوع بما يلحق به والشهر بالشهر والسنة بالسنة، لكي يحصل على المزيد من المضامين والقيم الفكرية التي تبني ذهنه وشخصيته وتعمّدها بفكر آل بيت النبوية عليهم السلام.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في كلمته المذكورة نفسها على: (أن الفقيد الراحل كان شديد الإخلاص لله سبحانه وتعالى ولأهل البيت عليهم الصلاة والسلام).
وقد أبدى الامام الشيرازي حرصا كبيرا على العمل المؤسساتي، فبعد أن نهل من العلوم والمعارف في مجالات شتى، تصدى لقضية جوهرية تتمثل بنشر علوم أهل البيت عليهم السلام وايصالها الى أبعد نقطة ممكنة، وتقديمها لأوسع جمهور على مساحة المعمورة كلها، من اجل استقامة الانسان، وتنوعت المؤسسات التي أسسها او ساعد على تأسيسها الامام الشيرازي، لتقدم الارشادات الدينية والتربوية والفكرية والاقتصادية والتعليمية وحتى الصحية او تلك التي تتعلق بالبيئة والعولمة وما شابه.
ولم يألُ الامام الشيرازي جهدا في هذا السبيل، وكان يتحرك بمفرده وبمعاونة آخرين مؤمنين بأهداف الامام الشيرازي، التي تصب جميعها في نشر العلم والمعرفة الانسانية، بين اكبر عدد ممكن من المسلمين، فتم تأسيس وبناء عشرات المؤسسات التي تصدّت لهذا الدور الكبير، وسعت بإخلاص وجدية في تكريس الخير والصلاح، ونشر اللاعنف بين الجماعات والافراد على حد سواء، عبر أنشطة مخطَّط لها بصورة جيدة، يشترك فيها خطباء افاضل ومختصون بالاجتماع والاقتصاد والدين وغير ذلك.
وقد تحققت هذه الاهداف العلمية المعرفية بالفعل، كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي، إذ يقول: (إن الفقيد الراحل كان حريصا جدا على تعبئة المجتمعات الدينية بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية والتربوية وقد تصدى مباشرة - مع مجموعة من الإخوان أو بأمره أو بإجازته -للعشرات من المؤسسات من مسجد أو مكتبة أو دار نشر أو حسينية أو حوزة علمية وغيرها).
بركان من النشاط !
وهناك مزايا اخرى تتميز يها شخصية الامام الشيرازي، وهي في الحقيقة من الصفات التي تتميز بها رجالات العبقرية، حيث يعيش عمره كله، متواصلا في تقديم خدماته من اجل الامة، عبر نشاط متواصل لا يهدأ ولا يتوقف مطلقا، وهذا ما كان يميز الامام الشيرازي بالضبط، فقد كان (رحمه الله)، شعلة من النشاط، بل بركانا لا يتوقف من العلم والمعرفة، والسعي لنشرهما عبر الوسائل المتاحة كافة.
وهذا بالضبط ما لمسه سماحة المرجع الديني بنفسه، عندما كان يلاحظ النشاط العلمي المتواصل للامام الشيرازي، وهو يواصل حياته لحظة بلحظة في هذا المسار، ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي يقف وراء الثروة الفكرية التي خلفها الامام الشيرازي بعد رحيله، تاركا للانسانية أرثا كبيرا من الافكار والرؤى والعلوم في اكثر من الف وأربعمائة كتاب وكراس ومؤلَّف.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (الشيء الآخر الذي لمسته فيه بكل وجودي أنه كان بركانا من النشاط! وإنني في نفسي أعتبر تشبيهه بالبركان مجازا لا حقيقة).
من هنا يدعو سماحة المرجع الشيرازي في كلمته، الى التعلم من كنوز الامام الشيرازي الفكرية والعلمية والمعرفية عموما، فهي بحق ثروات لا تقدَّر بثمن، وبدلا من الفخر، علينا التعلّم اولا من هذه التجربة المتميزة التي تضم خيرة الافكار والمضامين التي من شأنها الارتقاء بحياة الانسانية جمعاء، وطالما نرى في الامام الشيرازي شخصية عظيمة وجليلة، إذاً علينا أولا أن نتعلم منه ومن تجربته العلمية الثرية، قبل الافتخار به، ونطبق كل ما يراه في افكاره، ونسهم بقوة في نشر كل ما يتمناه للمسلمين وللانسانية من ارتقاء وتقدم وازدهار.
وهذا بالضبط ما يوجّه به سماحة المرجع الشيرازي، مطالبا إيانا أولا أن نتعلم من الامام الشيرازي، وننهل من تجربته الغنية بالمعارف والافكار والمضامين الانسانية الكبيرة، قبل أن نفتخر بعلمه، فالتعلم من التجربة ومن الافكار العظيمة ينبغي أن يتقدم كل شيء، من اجل أن تتحول هذه الابتكارات والحلول الفكرية، وهذه التجربة الى منجز واقعي ملموس، يصب في صالح بناء الانسان والمجتمع والدولة في وقت واحد.
من هنا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (إذا فقدتم عزيزا، شخصا تعتبرونه عظيما وجليلا، بدل أن تفتخروا به تعلمّوا منه، وجملة الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام هي: أن يكونوا عبرة خير من أن يكونوا مفتخرا. الفقيد الراحل مفتخر لي بلا شك).
اضف تعليق