منذُ أن يُخلق الإنسان، ويُضاف فردا إلى التعداد البشري، تبدأ معه حاجته إلى السعادة، ولذلك تعدَّدَ العلماء والأكاديميون والمفكرون والفلاسفة وتعمَّقوا في لغز السعادة، كما أن الناس جميعا لا يترددون بإعلان حاجتهم لها وبحثهم عنها في كل الأوقات والأعمار، الطفل يريد أن يكون سعيدا والشاب والكهل والشيخ...
(جميع الملذّات تتحوّل إلى مرارة وتفاهة، ما لم تقترن براحة الروح وطمأنينة النفس) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
منذُ أن يُخلق الإنسان، ويُضاف فردا إلى التعداد البشري، تبدأ معه حاجته إلى السعادة، ولذلك تعدَّدَ العلماء والأكاديميون والمفكرون والفلاسفة وتعمَّقوا في لغز السعادة، كما أن الناس جميعا لا يترددون بإعلان حاجتهم لها وبحثهم عنها في كل الأوقات والأعمار، الطفل يريد أن يكون سعيدا والشاب والكهل والشيخ، الجميع لديهم رغبة عارمة للعثور على السعادة وبلوغها بكل السبل المتاحة.
هناك من يصل غايته، وهنالك على العكس من ذلك، إذ تجده دائخا حائرا ساهما ومحتارا، لأنه لم يعرف كيف يحصل على سعادته ومتى؟
لماذا هذا البحث الدائب؟، ولماذا هذا الإصرار على بلوغ السعادة؟، الجواب سهل وبسيط يتعلق بالإنسان نفسه، فمن يفتقد للراحة النفسية والاطمئنان، لا يمكن أن يكون سعيدا، لأن السعادة ليست سلعة تُشترى وتباع، إنما هي صناعة نفسية روحية دينية، يصنعها الإنسان بنفسه بعد أن يقرر ويتعلّم الخطوات التي تقوده إلى السعادة، ومن ثم راحة النفس واطمئنانها.
لا يوجد شيء آخر غير السعادة يجعل الإنسان مرتاحا ومستقرا، كما أن الثروات الهائلة وكل العناوين الأخرى كالسلطة والقوة والجاه والسلاح تعجز عن توفير السعادة للإنسان، هناك طريق محدد و وحيد يمكن أن يأخذ بيد الإنسان نحو طريق السعادة، إنه ببساطة شديدة، الإيمان، والتديّن المتكامل.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (يا أبا ذر):
(إنّ الراحة وطمأنينة النفس الإنسانية أفضل مقياس لتحقّق السعادة، لأنّ جميع مصاديق السعادة الأخرى تعود في نهاية المطاف إلى راحة النفس واستقرارها واطمئنانها؛ فإنّ الثروة والشباب، وتناول الطعام اللذيذ والتمتع بكل اللذائذ الأخرى، تتحوّل جميعها إلى مرارة وتفاهة، ما لم تكن مقترنة براحة الروح وطمأنينة النفس).
الاستقرار النفسي والاطمئنان الروحي
نظام حياة الإنسان إيجابا أو سلبا، يرتبط بشكل وثيق براحته النفسية واطمئنانه الروحي، فيمكن أن يكون مستقرا مرتاحا متوازنا ومتميزا في كل أهدافه ومشاريعه، ويمكن أن يحدث العكس تماما، كل شيء مرتبط بالسعادة، والأخيرة يمكن الوصول إليها، لكن ليس الأمر بهذه السهولة، فراحة النفس واطمئنان الروح غير متاحة إلا لمن يعرف الطريق إليها!!
كما أن جميع الأوضاع التي يعيشها الإنسان ترتبط بهذا الاشتراط، وهو الحصول على الراحة النفسية وطمأنينة الروح، أما إذا انعدم ذلك، وفشل الإنسان في العثور على سعادته، فإن كل اللذائذ التي تكون طوع يديه لا تمنحه لحظة سعادة واحدة، لا المال، والطعام، ولا المشرب، ولا الملبس، والممتلكات بكل أنواعها، قادرة على منحه لحظة سعادة، لأن جميع اللذات مرتبطة بوجود الراحة النفسية والروحية.
ولتكن بين يديك أعظم الملذات التي يمكن أن تشتريها بأموالك، مثال ذلك بإمكانك الحصول على أشهى الأطعمة وألذها بأموالك، ولك ما فائدة الطعام اللذيذ حين يغيب عنك الاستقرار النفسي والروحي؟؟
ينطبق هذا المثال على جميع الملذّات الأخرى، فلنقل أنك قادر على نوال كل لذيذ في الدنيا، ولا يصعب عليك ذلك، لأنك قادر على وصولها بأموالك أو سلطانك، أو ذكاءك، أو علمك، أو كل المزايا التمكينية الأخرى، فطالما أنك تفتقد للسعادة، لأنك لم تهتدي إلى الوسائل والطرائق الصحيحة التي تقودك إليها، فسوف تبقى تشعر بالنقص، طالما أنك تفتقد لراحة النفس وطمأنينة الروح.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يضرب مثلا حول هذه النقطة فيقول:
(لو أنّ شخصاً ما قُدّم له في بيته ألذّ الطعام، ولكنه في الوقت ذاته كان مديناً بمبلغ كبير من المال، وكان يتوقّع أن يطرق الدائن بابه في أيّ لحظة، فهو يحذر ويخاف من أن يذهب بماء وجهه، فيا ترى هل يشعر بلذّة حين يتناول ذلك الطعام؟، بينما إذا أُخبِر في تلك الأثناء أنّ شخصاً ما قد سدّد عنه دينه، ثم إنّه بعد ذلك انشغل بتناول مجرد الخبز اليابس والماء، ثم سئل عن نوعي الطعام؛ أيّهما ألذ: الطعام الأوّل مع القلق، أم الخبز اليابس مع راحة البال؟!).
ما التديّن الحقيقي وكيف نصل إليه؟
هذا المثال يقرّب لنا كثيرا كيفية بلوغنا للسعادة، وعلينا أن نفهم هذا المثال، ونجيب عن سؤاله بدقة، فلا شك أن أفقر الأطعمة وأقلّها تكون ألذ مع توافر راحة النفس واستقرار الروح، أما حين يضعونك عند مائدة تحتوي على أشهى الأطعمة، وأنت مفتقد للنفس المرتاحة والروح المستقرة، فإنك سوف تشعر بأنه أسوأ طعام، بل سوف تصل درجة شهيتك إلى الصفر ولا تتناول لقيمة واحدة.
يصحّ هذا المثال على جميع الملذات التي يمكن أن يصل إليها الإنسان بوسائل كثيرة، فلا يمكن أن يعيش الإنسان أجواء اللذة بعمقها وميزتها أيّا كان نوعها، إذا لم يكن مسلّحا بالتديّن الحقيقي الذي يقوده إلى السعادة الحقيقية، حين يكون قنوعا راضيا لا ينقم ولا يسخط على واقعه وحياته، بل سيجعله التديّن في حالة تصالح مع النفس لا تنفصم عراها مطلقا، وينعم بالاستقرار النفسي الروحي العميق.
لذلك يجيب سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، عن سؤال المثال الذي طرحه سابقا بالقول:
(من المؤكّد أنّ اللذّة التي يستشعرها أثناء تناول الخبز اليابس أعلى بكثير من أيّ طعام لذيذ آخر، إذ لا لذّة تُستشعر مع الخوف والقلق والاضطراب).
إذاً نعود إلى سؤال العنوان، متى وكيف تصبح سعيدا؟؟، إن أقرب الطرق وأكثرها صدقا ودقة، هو أن يحصل الإنسان على ثروة (التديّن)، ولا عجب في ذلك، فكل الأدلة تدل وتؤكد بأن هذه الثروة هي (أم الثروات) جميعا، وهي منبعها، وهي التي تقود الإنسان إلى الثراء الحقيقي في جميع المجالات، لأنها سوف تجعل منه إنسانا في غاية السعادة التي لن تغادره مطلقا، كونها أصبحت تعيش معه، وصارت جزءاً من شخصيته وعقليته وتفكيره وسلوكه.
ولكن هناك نقطة مهمة يجب مراعاتها في هذا الجانب الذي يتعلّق بالتدين، فالأخير كلّ موحَّد لا يقبل الانتقائية، بمعنى لا يصح أخذ جانب معين من التدين، وترك آخر لأنه لا يتوافق مع يريح الإنسان، أو أنه يتطلّب التزما وتحسّبا بدرجة معينة، التدين الذي يمنح الإنسان سعادته، هو الذي يفهم الدين جيدا ويطبق أحكامه دونما تجزئة أو انتقاء، فالتجزئة في الدين تشوّه التدين الصحيح.
لذلك يجب على من يختار التديّن طريقا لبلوغ السعادة، أن يفهم الدين وأن يتعامل معه باهتمام كبير وصادق وحقيقي يستحقه، في هذه الحالة يكون الإنسان المتدين قد عرف طريقه إلى الراحة النفسية والانتعاش الروحي الدائم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(معنى التديّن: أن تراعَى جميع جوانب الدين، دون الالتزام الجزئيّ به. فالدين الذي ينتهي إلى منتصف الطريق لا يُسمّى ديناً، ولا يعالج أمراً، ومن ثم فإنّ ثمرة الدين وفائدته ونتائجه الإيجابيّة إنّما تتّضح وتتبلور حينما تحظى جميع مسائل الدين بالاهتمام اللازم).
الكيفية التي تمكّن الإنسان من الحصول على الاستقرار النفسي والروحي وبلوغ السعادة، أصبحت واضحة، أما التوقيت بكلمة متى يحتاج الإنسان إلى السعادة؟، فالجواب واضح وقد ورد في صدر هذا المقال، حيث ذكرنا أن الإنسان تُخلَق معه الحاجة إلى السعادة منذ أن يطأ عالمه الجديد قادما إليه من رحم الأم، فها قد بات واضحا لمن يسعى للسعادة وأصبحت الخطوات ميسّرة، فهل هناك الاستعداد والإصرار الكافي والدائم لبلوغ هذا الهدف؟؟، الأمر متروك للإنسان نفسه....
اضف تعليق