المراحل الحرجة التي مرّ بها العراق تكاد تكون سلسلة متواصلة، ولكن هنالك تباين في شدة تعقيدها وأخطارها، فهذا البلد لم يهدأ عبر التاريخ، لا من الناحية الداخلية، ولا من الجهات والدول الخارجية التي تستهدفه على مر التاريخ، ففي الداخل تعاقبت عليه حكومات يطبعها الاستبداد والعنف والنفعية الذاتية في الغالب...
(تحكيم الحلول الوسطى في مرحلة الاختلاف، أفضل خيار وأتقن حكمة)
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)
المراحل الحرجة التي مرّ بها العراق تكاد تكون سلسلة متواصلة، ولكن هنالك تباين في شدة تعقيدها وأخطارها، فهذا البلد لم يهدأ عبر التاريخ، لا من الناحية الداخلية، ولا من الجهات والدول الخارجية التي تستهدفه على مر التاريخ، ففي الداخل تعاقبت عليه حكومات يطبعها الاستبداد والعنف والنفعية الذاتية في الغالب، بالإضافة إلى الخلافات السياسية والاجتماعية.
أما خارجيا، فقد تعرض العراق كما نقرأ في صفحات التاريخ إلى هجومات وتجاوزات من أمم أخرى، طمعت في خيراته، فبذرت الفتن بين أهله ومكوناته، وتسبب في إلحاق أذى متعدد الجوانب للعراق، منه السياسي والاقتصادي والاجتماعي أيضا، لذلك تعرّض شعب العراقيون إلى سلسلة من التجاوزات الداخلية (الحكومات المستبدة)، والخارجية أيضا ومعظمها ذات طبيعة استعمارية.
توافرت فرص عديدة للعراقيين للإفلات من قبضة الخلافات المحتدمة على الصعيد الاجتماعي، وانفتحت آفاق للتقدم، ونوافذ نحو مواكبة ما يجري في العالم من تطورات هائلة، لكن هذه الفرص لم يُكتب لها النجاح، كونها بلا أسس ولا تخطيط ولا إرادة مخلصة، فتبقى قيد التمنيات، وتصبح محاولات فاشلة للخلاص من الخلافات المزمنة التي تعصف في النسيج الاجتماعي العراقي.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (العراقيون ومواصلة اليقظة):
(العراق بلد عاش الخوف والرعب والإهمال؛ من قبل الحكّام قرون مديدة. فقد عاش تحت وطأة ظالم، ثم انتقل إلى حاكم أظلم منه، ومرت الفرصة تلو الفرصة دونما اقتناص واستثمار، وإن حدث ذلك، فقد ذهبت أدراج الرياح...).
ما هو حجم مخاطر الاختلاف؟
من الأمور المثبتة علميا بحسب التخصص، أن الاختلاف والخلاف والصراع أمر لا يمكن القضاء عليه بشكل تام، كونه حالة كامنة في التكوين البشري، أي أن الخلافات لا مفر منها، لأسباب كثيرة، في المقدمة منها الطبيعة البشرية، لذا فإن أفضل السبل للتعامل مع هذه المعضلة، تكمن في بذل ما يكفي من الجهود المشتركة لتعطيل أو تذليل أو تخفيف الخلاف إلى أقصى حد ممكن.
فلكي تتجنب مخاطر النيران المستعرة، قد لا يمكنك إطفاءها، ولكن هل ستتركها تأكل الأخضر واليابس وتدمر كل شيء؟؟، بالطبع هذا نوع من الغباء، والتكاسل والجهل، فأقل ما يجب على الإنسان فعله هو تجنّب الضرر الذي قد تلحقه النيران به وبأهله وممتلكاته، وهو قادر على ذلك بالتعاون المشترك.
لذلك كلما ازداد الخلاف تعقيدا، تضاعفت مخاطره على الجميع، وفي هذه الحالة ليس أمام العراقيين سوى أن يستوعبوا هذه الخلافات، ويروضوها، أو يحيّدوها من خلال التعامل الوسطي معها، لاسيما أن صعوبة الخلاف تشتد ومخاطره تتكاثر كلما أصبحت دائرته أوسع وأكبر.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكّد على: (إنّ حصول الاختلاف أمرٌ طبيعيٌ بين البشر، فإنه من الممكن حدوث الاختلاف حتى بين الأخوين التوأمين، حيث يختلف تفكير هذا عن ذاك وأمّا في المسائل الاجتماعية، فالخلافات قد تشتدّ وخاصةً في هذه المرحلة وهي تسبّب ضرر الجميع).
لماذا على الجمع المختلِف أن يفكر بشكل سليم لتجاوز مخرجات الخلافات المؤلمة والمؤذية غاليا؟؟، إن الأمر لا يحتاج إلى توضيح وإيغال في الأسباب والنتائج، فكثرة الخلافات وتشعبها وعمقها، تؤدي بالنتيجة إلى انشغال تام بها، لاسيما إذا حدث بين أبناء الشعب الواحد أو العائلة الواحدة.
حين ينشغل الناس بمكافحة مشكلات داخلية سببها خلافات مستعصية، وأضرارها كبيرة، فإن هذا يساعد الآخر على اختراق هذه البنية الاجتماعية (شعبا كان أو أمة أو حتى عائلة)، فمن ينشغل بمكافحة الخلافات الداخلية، من الصعب عليه أن يجد الفكر الصافي والوقت الكافي لمراقبة المتربصين به.
وهذا ما ينبغي أن يتنبّه إليه العراقيون اليوم، وهم يمرّون في أوضاع تنطوي على الكثير من الخلافات والتعقيد، سواء خلافات سياسية (بعد نتائج الانتخابات)، أو خلافات اجتماعية (المعارك بين بعض العشائر) كمثال، أو النواقص الكثيرة التي تعصف بحياة العراقيين، هذه كلها مشاغل (داخلية) تقلل فرص مواجهة الطمع الخارجي، كما أنها تزيد أصحابه جرأة لتحقيق مآربهم.
المعالجة بالحلول الوسطية
يجب أن تؤمّن أوضاعك الداخلية أولا حتى تكون قادرا على مواجهة من يخطط لإيذائك من الخارج، وهذا ينطبق على ما يحدث في العراق وعلى ما يتعرض له العراقيون، وهو يلزمهم جميعا بحتمية معالجة مشكلاتهم المختلفة عبر الحلول الوسطية التي تحتوي (الخلافات) وتمنع أو تقلل مخاطر مخرجاتها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(هذه المرحلة والرغبة في طيّها وتجاوزها لا تتحمّل الانغماس في الخلافات، فانغماس أهل دارٍ واحدة في الخلافات يسهّل على السارق سرقته والخروج بالمسروقات آمناً دون قوة رادعة أو رقيب، بل إن مثل هذا الخلاف يدفع بسارقين آخرين إلى الجرأة على مهاجمة أصحاب الدّار).
من هو الذي يتصدّر وضع الأمور في نصابها، وتقليل أو إنهاء ما يختلف عليه العراقيون ويتصادمون بسببه؟؟، إنهم عقلاء وحكماء وعلماء القوم حتما، فهؤلاء النخبة العقلية الفكرية الكبيرة، هي التي يقع عليها ثقل مواجهة الخلافات، وهي التي يجب عليها البحث عن الحلول الوسطية التي تطمْئِن الجميع.
نعم يحدث في العراق اليوم خلافات حادة وخطيرة، لاسيما السياسية منها عقب إعلان نتائج الانتخابات، فهناك جهات تضرّرت كثيرا، وأخرى بدرجة أقل، وغيرها ربحت، وهذه مخرجات تدفع باتجاه الخلافات، وهو أمر طبيعي، لكن حين يخرج عن الحد المسموح به في إطار قواعد اللعبة، فإنه قد يخرج عن المدار ويقود إلى صدامات لا يُحمد عقباها ولا يُستثنى منها أحد.
وهذا وضع لا ينفع العراقيين من بعيد أو قريب، على العكس من ذلك، فإن مثلا هذه الخلافات قد تعيدهم إلى مربع (الدكتاتورية) الذي خرجوا منه بشقّ الأنفس، فهل السماح بالعودة للأنظمة القمعية الجائرة أمر مقبول اليوم؟؟، كلا بالطبع، لذلك فإن جميع عقلاء وحكماء وعلماء العراق مدعوّون اليوم لمواجهة أي نوع من الخلافات داخل اللحمة العراقية الواحدة، وتوجيه الأحداث السياسية أو سواها باتجاه التهدئة والبحث عن الحلول الوسطية التي تقرّب بين الجميع.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إنّ زعماء العشائر الغيارى وذوي النفوذ الاجتماعي والروحي في العراق مكلّفون أكثر من أيّ وقت مضى أن يؤدّوا مهمّتهم الأبوية التي تقتضي عدم الانحياز إلى طرف دون آخر، وإلى ضرورة التهدئة وحلّ الأمور من أجل التفرّغ كلياً إلى عملية التطوّر والبناء).
ترتيب الأوضاع الداخلية وتنظيمها، وإيجاد الحلول المقبولة، يفوّت الفرصة على المتربصين بالعراق والعراقيين، لذلك ليس أمام المختلفين سوى التصالح والتقارب والتفاهم، وهذه كلها تدخل ضمن دائرة (الوسطية، أو تحكيم الحلول الوسطى)، لاسيما أن العراق (شعبا وبلدا)، يمرّان بتغييرات كبرى، على المستويين السياسي والاجتماعي، وهذا يتطلب أناة عالية، وحكمة بلا حدود، وعقلانية راسخة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، يؤكد ذلك في قوله:
(جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: «الصلح سيّد الأحكام» وقد قال سبحانه وتعالى قبل ذلك: «والصلح خير»؛ فهو خير من الانجرار وراء الخلافات، فتحكيم الحلول الوسطى في مرحلة الاختلاف والتغيرات الاجتماعية الكبرى، أفضل خيار وأتقن حكمة).
إن ما حقّقه العراقيون من خطوات كبيرة في طريق التخلص من الدكتاتورية، واللجوء إلى الحق الانتخابي، وحماية حرية الرأي، والسعي لتحقيق الإنصاف والعدالة الاجتماعية، ليس بقليل، فلا يصحّ على الإطلاق تهديم ما بُنيَ في هذه التجربة العراقية التي استغرقت سنوات طويلة وتضحيات كبيرة، لذا لا سبيل لنا كعراقيين سوى الصلح والتقارب والحوار والركون إلى الوسطية في معالجة الخلافات.
اضف تعليق