إن المشاركة الجماهيرية في التثقيف الديني ونشر القيم الاخلاقية هي التي تضمن الامن والاستقرار سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فالإسلام الذي نجد صورته الناصعة والمتكاملة في القرآن الكريم، وايضاً؛ في سيرة المعصومين، عليهم السلام، ليس كله أوامر ونواهي، وأحكام للحلال والحرام، بقدر ما يحمل في جزء كبير منه؛ الأخلاق والآداب...
{ادعُ الى سَبيلِ ربّكَ بالحِكمَةِ والمُوعظةِ الحَسَنة}.
ربما يخفي الانسان بعض منجزاته، او مكتسباته عن العيون لأسباب عدّة، منها؛ تفادياً من شرّ الحاسدين، او مكر الكائدين والمتربصين، إلا العطر الطيب فان الفطرة السليمة للنفس ونقائها تدفع صاحبها للانتشار بضوعها الفواح، ولعل هذا يفسّر لنا مدى اهتمام رسول الله، صلى الله عليه وآله بالعطر واقتنائه، ثم اتخاذه ضمن مثلث الحب في الحياة: "الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة".
كما الطيب تنبع محبوبيته من ذات نفس الانسان، فان القيم والأحكام والآداب الراعية لهذه النفس الانسانية لها محبوبية في النفس، كونها نابعة من الفطرة النقية التي فطر الله –تعالى-الناس عليها، و"كل مولود يولد على الفطرة"، فيكون مُحب للصدق، والأمانة، والعطاء، والوفاء، والجمال، وأن ميزان الأعمال لديه في الدنيا والآخرة هو؛ الحق، و{ما بعد الحق إلا الضلال}.
وعندما نتحدث عن نشر التعاليم والاحكام الاسلامية في العالم، فان الحديث لا ينصرف الى قضايا فئوية او جهوية بقدر ما هي مسؤولية الجميع، من مؤسسات، وجمعيات، واشخاص، وحتى أفراد داخل الأسرة، لذا نجد سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي –دام ظله- في كلمة له نشرت في مطلع شهر رمضان المبارك يدعو الى تحمل مسؤولية نشر الاسلام على نحو الوجوب العيني، "وهو واجب كفائي، ولكن حسب الظاهر لا يوجد من فيه الكفاية، فصارت اليوم من الواجب العيني على الجميع، كلٌ حسب قدرته، {لئلا يكون للناس على الله حجّة}،(سورة النساء، الآية 165)"، وحتى لا يأتي شخص يوم القيامة ويقول: "يارب لم أكن أعلم"!
هل المهمة مختصة بالحوزة العلمية؟
نظراً الى أن الاحكام الاسلامية التي يتحدث عنها الخطباء وأئمة الجمعة والجماعة، مبنية على قواعد علمية فان عامة الناس فهموا من الخطاب الديني بانه "وعظي وإرشادي" بالضرورة، وأن المتحدث عن الاسلام وأحكام الحلال والحرام لابد ان يكون خريجاً للحوزة العلمية قضى سنيناً من عمره في دراسة العلوم الدينية، هذا التصور امتد لعقود عديدة من القرن العشرين، ولم تتضائل هذه المساحة رغم انتشار الوعي والثقافة، وتطور وسائل الاتصال والنشر، فبقي المتحدث باسم الدين هو الرجل الذي يرتدي الزي الديني، وليس الموظف الحكومي، او طالب الجامعة، او الكاسب، او الفلاح، علماً اننا نجد –وهو من نافلة القول- أن افراد هذه الشرائح وغيرهم كثير بدأوا يخوضون بالسياسة و يحللوا الاحداث، و يصدروا الاحكام، وكذا الحال في المجال الاقتصادي نظراً الى التصاقهم بعجلة التجارة العالمية وأسعار النفط والعملة الصعبة، وحجم الاستيراد والتصدير.
ربما يكون ابناء الجيلين السابقين محقين باعتمادهم على أهل العلم والحوزة العلمية في الدفاع عن قيم الدين ونشرها وتثقيف الناس عليها فهو الهمّ الوحيد آنذاك، أما اليوم فان الهمّ ليس الحرام والحلال وحسب، اذا لم نقل بتجاوزه من البعض، بل ظهر همٌ جديد يهدد الاخلاق والآداب والفطرة السليمة، حتى بات الناس يشكون ويتحسرون على أيام زمان، وعلى أيام الصدق والأمانة والمروءة والإيثار والثقة العالية والايمان، ثم إن هذا الهمّ بات يهدد جميع شرائح المجتمع، بمن فيهم الشباب والمراهقين.
لنأت بأبسط مثال من حياتنا اليومية فيما يتعلق بالعلاقات بين الجوار، فاذا اصاب هذه العلاقات تصدّع ما لاسباب مختلفة، هل ننتظر إمام الجامع او المسجد ليعتلي المنبر بعد الصلاة ويخطب ويتضمن حديثه ما فرضه الإسلام من حُسن الجوار، وكيف أن رسول الله أوصى اصحابه بحسن الجوار بشكل مؤكد ومفصّل حتى قال أحدهم: "ظننا أننا نورثه"؟ وكذا الحال في انتشار ظاهرة عدم الثقة في البيع والشراء، وحالات الغبن الفاحش.
قضايا الاسعار، وطريقة البيع، ومختلف اشكال التعامل البيني في المجتمع تشوبها الكثير من اللغط والالتباس بما يبعده عن الآداب والأحكام الاسلامية، وهو ما يقضّ مضاجع الناس اليوم وبشكل ملحوظ، حتى بات الصدق والأمانة عملتان نادرتان، والغش والتدليس ونكث العهود ونقض الوعد من الامور الطبيعية التي لا يستغربها أحد، فمن المسؤول عن وجود هذه الظواهر الشاذة وغير الطبيعية في المجتمع؟
ثمة قاعدة يعتمد عليها المعنيون بأمر الأمن والاستخبارات في الدولة، وهي مشاركة المواطنين في الجهد الاستخباري لمساعدتهم على ضبط الأمن وكشف الثغرات التي يتسلل منها العدو، وطالما يتحدث الخبراء والمسؤولون واصحاب المراتب حول هذه القضية داعين الجميع للإسهام في هذا المشروع الحيوي الذي يضمن مصير الجميع.
فاذا صدق الأمر على الأمن العام، وكذا الأمر بالنسبة لسيادة القانون، فان المشاركة الجماهيرية تصدق ايضاً على أحكام الدين وقيمه الحقّة، فهي قاعدة النظام العام في الحياة، فما الذي يدفع الانسان لأن يلتزم بالقانون لولا الوازع الديني والاخلاقي بالحفاظ على مصالح وحقوق الآخرين، قبل الخوف من الغرامة والعقوبة، وكذا الأمن، حيث ليس من المروءة والوجدان أن يترك الانسان أهله وابناء مدينته نهباً للقلق والاضطراب ويذهب هو بحثاً عن الملاذ الآمن.
إن المشاركة الجماهيرية في التثقيف الديني ونشر القيم الاخلاقية هي التي تضمن الامن والاستقرار سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فالاسلام الذي نجد صورته الناصعة والمتكاملة في القرآن الكريم، وايضاً؛ في سيرة المعصومين، عليهم السلام، ليس كله أوامر ونواهي، وأحكام للحلال والحرام، بقدر ما يحمل في جزء كبير منه؛ الأخلاق والآداب، والقوانين الإلهية، والعقيدة، والعِبر من تاريخ الأمم التي سادت ثم بادت بسبب انحرافها وطغيانها.
فالعنف والكراهية والقهر، التي طالما حاربها الإسلام في منظومته الاحكامية والاخلاقية، نلاحظ وجود بصمات مؤثرة لها في حياتنا الى درجة ان يشكك البعض بقدرة الاسلام على حل هذه المعضلة النفسية، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالمرأة والطفل بعد ظهور حالة "العنف الأسري" في معظم بلادنا الاسلامية.
"كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم"
هكذا يوصينا الإمام الصادق، عليه السلام، ويحمّل الجميع مسؤولية الدعوة الى الاسلام بالسلوك الحسن والتطبيق العملي، وهو مطلب عام ومستمر على طول الخط، بيد أن الواقع الاسلامي يستدعي تعبئة عامة وجدّية في هذا المجال لمواجهة التحديات الثقافية والفكرية، وعندما يُقال أن رحى الحرب والصراع في العالم تدور حول الافكار والثقافات فهذا يعني أن شظايا هذه الحرب تطال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما أشار اليه سماحة المرجع الشيرازي في كلمته من تعرض الإسلام والعقيدة والمقدسات لجملة من الاتهامات والتشكيكات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مما يستدعي الرد عليها "بالقول والتبليغ والبلاغ المبين"، ولا يكتفي بإطلاق الكلمات العابرة لإبراء الذمة.
وبما أن الإسلام الذي يحرص على كيانه وقيمه وتاريخه، علماء الدين، وفي مقدمتهم سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي، من خلال مشاريعه الثقافية والخيرية، ومؤلفاته، ومن خلال مواقفه ورؤاه بعيدة المدى، ليس له دولة حقيقية تجسده بشكل كامل، فان المطلوب تكريسه في الواقع وفي الحياة من خلال التطبيقات العملية على الارض ليتحول التسامح والتكافل والتعاون، وايضاً مسائل عقدية مثل؛ التوحيد والولاية، وكيفية التعامل مع من هم ضد هذه العقيدة، كل هذه وغيرها تتحول الى ثقافة عامة يمارسها الشاب والشابة في الجامعة، والرجل في السوق، والمرأة في بيتها وبين ابنائها، وحتى الطفل الصغير، وجميع شرائح المجتمع.
ولكن هنا يقفز سؤال محوري!
كيف يمكننا تحقيق كل ذلك؟
دائماً نسمع الاطباء والمختصين ينصحوننا بأن نكتسب المناعة والقوة البدنية أمام الامراض من خلال اختيار الطعام الصحي، والتعرّض الى اشعة الشمس صباحاً، مع الخروج من البيت صباحاً لاستنشاق الهواء الطلق والتزود بالأوكسجين، ومن دون ذلك فان الصحة والسلامة لن تأت الى بيوتنا وداخل غرف نومنا، بل العكس تماماً؛ كما نلاحظ، ربما نكتسب الامراض الخطيرة مثل هشاشة العظام، وارتفاع مستوى ضغط الدم والسكري، وظهور السمنة وغيرها من الاعراض المرضية.
إن التعاليم والاخلاق والآداب موجودة في كتب الحديث والتاريخ والسيرة بشكل مفصل ومسهب بالامكان التعرض لها كما نتعرض لأشعة الشمس الساطعة، كما يمكن ايضاً التزوّد بالمعارف والعلوم من أهل الاختصاص من علماء الدين والخطباء وطرق ابوابهم ومزاحمتهم في المجالس، بل "يجب على من يقدر أن يتعلم ما يريد قوله، وكيف يقول، أي البلاغ المبين"، ليكون خطابه وتبليغه لله وللإسلام مؤثراً ونفاعاً.
وبذلك نُسهم في نشر الاسلام في محيطنا الاجتماعي، وفي بلادنا، بل وفي جميع البلاد التي نعيش فيها بالعالم، عندما نكون صورة ناصعة وشفافة لما نحمل من قيم ومبادئ سامية تترك أثرها في نفوس الآخرين، وفي نفس الوقت تضمن لنا المَنعة والحصانة لنا ولابنائنا من التأثيرات الخارجية.
اضف تعليق