لابد من وضع ظاهرة التنمّر اللفظي تحت مجهر البحث والرصد، لاسيما أساليب التحاور والتلاسن المباشر، أو عبر وسائل الاتصال المتطورة، المهم في مواجهة هذه الظاهرة هو صناعة لغة تفاهم متحضّرة، يحترم فيها الطرفان (القائل والمستمع) بعضهما، مع إتقان جيد لفن الإصغاء، وتهذيب تام للمفردات واهتمام بالمعاني، لأنها يمكن أن تتحول إلى مفردات عنيفة تتشح بالتنمّر...
التنمر مفردة مشتقة من اسم (النمر)، وهو حيوان متوحش يبطش بفرائسه بشراسة، وأخذ استعمال هذه اللفظة بالتساوق مع انتشار العنف على مستوى عالمي، سواء بين الدول، أو بين مكونات وأفراد المجتمعات، مما جعل الحاجة إلى إيجاد الحلول الناجعة للتنمّر اللفظي ماسّة.
لماذا انتشار هذا النوع من التنمّر؟ وما تأثيره على متانة النسيج المجتمعي؟
الأسباب كثيرة، أهمها طبيعة الثقافة والبيئة التي يعتاد عليها الفرد والمجتمع، وحزمة القيم والعادات التي تحكم علاقاتهم، وانطلاقا من ذلك، تبدأ مشاريع المعالجة بالقيم والثقافات والأفكار، وهي مهمة كبار العلماء والمفكرين في عموم العالم، إذ يؤكد هؤلاء على أن الطريق الأضمن والأدقّ، لتطور الإنسان، يكمن في تهذيب هذا النوع من العنف، عبر تحسين التعبير بالكلمات.
ثم متى يمكن أن يتفوق القبح على الجمال، مع أننا نقرّ بأن الانتقال من القبح إلى الجمال، يعني انتقالا من الشر إلى الخير، ومن العنف والشراسة إلى اللين والرحمة، وطالما أن التطور يعتمد على فعل الخير، فإن الأخير لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الإرشاد، والتوجيه عبر جمال التعبير، سواءً بالقلم أو بالكلام الملفوظ.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم، الموسوم بـ (العلم النافع):
(يعتبر القلم والبيان في هداية الناس وإرشادهم بمثابة إناء الإرشاد وظرفه ووعائه).
ويعدّ هذا الأمر الشرط الأول الذي يجب أن يتوافر في مضامين الإرشاد، بمعنى أن الكلام الجميل، يمكنه أن يؤثر بطريقة أسرع وأفضل في القضاء على الكلام القبيح، وهو كلام ينتمي إلى الشر والعنف، مما يؤدي إلى موجة من الاحتقان، تزعزع التعاون والانسجام والتماسك الاجتماعي.
منْ يتصدى لهذه المهمة، أي كبح التنمّر اللفظي عليه أن يفهم هذا الجانب بدقة وعمق، وأن يستعدّ جيدا، لاستخدام المفردات الناعمة، ذات المعاني التي تشجع على التعاون والتقارب وعدم التضارب، أو التعامل في الحياة على أنها حلبة تصادم ومغانم واكتناز.
وبهذه الطريقة يتحقق الهدف الأهم في سعي الأفراد والمجتمعات نحو التطور، ويشترك في هذا ثلاثة أطراف هم، العلماء المرشدون، الحكومة بوصفها الراعي والمسؤول، وأخيرا الوسط الاجتماعي الذي يحتاج الى الإرشاد، والتخلّص من وباء التنمّر اللفظي الذي يمهّد للتنمر الفعلي الجسدي.
أساليب التوصيل وجذب الانتباه
الأسباب التي تدفع إلى اعتماد الكلام اللين، واضحة ومعروفة المخرجات، لذلك يرى العلماء أن الكتابة والخطابة والنصح، هي وسيلة فعالة ومتاحة لتغيير القبح وإحلال الجمال، وهذا يتطلب شروطا في غاية الأهمية، حتى يتم ضمان النتائج المأمولة، فالهدف هو محاصرة العنف بالكلام وتقليله إلى أدنى حد ممكن.
أما الشرط الأهم من بين جميع الشروط، لتحقيق عملية التوصيل وجذب الانتباه، وتحقيق الإرشاد التام عبر الكلمات المكتوبة، يكمن في الطريقة التي يتم لها رصف الكلمات على شكل جمل، ومدى ما تحتوي عليه الكتابة من بلاغة وجمال الكلمات، فكلما كانت الكتابة أكثر عمقا ووضوحا، كانت أكثر تأثيرا في الوسط المستهدَف، بحيث نحصل على نتائج باهرة تلحق الهزيمة بالتنمّر اللفظي وسواه.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(كلّما كانت الكتابة أجمل كلما كان التأثير أفضل وأحسن).
ويأتي لنا سماحته بمثال من القرآن الكريم، واكتنازهِ بحسن البيان وجمال التعبير، والمجاز، والاستعارة، والتورية، والسجع، وأحيانا حتى القافية، حين تكون واحدة في نهاية الآيات القرآنية المباركة، او متقاربة، بعيدا عن دقة الوزن، المهم هنا هو احتواء كلمات الإرشاد على جماليات البيان، لكي تتغلب على الألفاظ العنيفة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، يؤكد ذلك في قوله:
(انظروا إلى القرآن وكلام الرسول صلّى الله عليه وآله وأهل البيت سلام الله عليهم، أوَليس كلّ ذلك قدوة لنا؟).
من هو المعني بتهذيب الكلمات؟
ربما يقول شخص ما، إن القرآن ومضامينه تمثل نصوصا للهداية، فلماذا هذا التأكيد على جمال التعبير؟؟، وهذا يذكّرنا بأن الغذاء اللذيذ إذا لم يكن شكله جميلا، ولم يكن الإناء الذي يقدَّم فيه جميلا، فلا احد يتذوقه او يقترب منه، هكذا هو الحال بالنسبة لجمال الكتابة، إذ لابد أن تكون الكلمات راقية واضحة جميلة، حتى تتم عملية الإرشاد، وفق ما مخطّط لها للقضاء على التنمّر اللفظي.
لهذا السبب يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على:
(أنّ القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، فلماذا يهتمّ بجمال الأسلوب والتعبير؟ نقول في الجواب: إنّ ذلك جزء من عملية الهداية. وهكذا الحال بالنسبة لكلام المعصومين سلام الله عليهم).
هناك من لا يعبأ بجمال الكلمة، بل يهتم بمعناها، وهنا سوف يتكون التناقض بين الشكل والمضمون، فيهبط مستوى التوصيل والتأثير في الإرشاد، إذ يوجد من يظن بأن الأمور الصحيحة، ينبغي أن تكون محط قبول الناس وإقبالهم، بغض النظر عن الكيفية التي تتم بها عملية التوصيل، ويهمل الجانب الجمالي وأهميته الكبيرة، لكن الواقع يثبت أن البلاغة والبيان، وجمال الكلمات، وتهذيبها، له الأثر الكبير في دحر التنمر اللفظي.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إنّ الجمال مهمّ ومطلوب لهداية الناس، فلا يكفي أن يكون المطلب صحيحاً، بل لابدّ من جمال الأسلوب والتعبير أيضاً). ولذلك عندما تكون الكتابة جميلة، فحتى الآخرون من خارج الأمة أو المجتمع، يُقبلون على ما تقدمه من أفكار ومبادئ، ويتفاعلون معها ويستسيغونها، ويأخذون بتداولها دونما تردد.
ويضيف سماحته: (كثير من علماء المشركين والنصارى واليهود، اهتدوا عبر جمال التعبير في القرآن الكريم).
وإن دلّ هذا على شيء، إنما يدل على الدور الجمالي للكلمات، وبالعكس من ذلك، حين تسود لغة العنف، وتتنمر الكلمات، فسوف ننتقل من الألفاظ إلى الأفعال العنيفة، وسوف تكون الخسائر في متانة النسيج المجتمعي، وترتفع نسبة الجريمة، وتتضاعف المشكلات الاجتماعية والأسرية، مما يؤدي بالنتيجة إلى إضعاف المجتمع، وتهتزّ ومرتكزات الدولة.
ولابد من القول، استنادا إلى الوقائع الاجتماعية، بأنه لا توجد أساليب بديلة أمام المعنيين بالهداية، والإرشاد سوى تعلّم الكتابة الجميلة والأسلوب الجميل والتعبير المؤثر، حتى يكون تأثيرهم أكثر في الآخرين، بل قد يصبح تأثيرهم بصورة مضاعفة، وهذا ما تدل عليه بالفعل حالات الإقبال الكبير من الناس، على الكلمات الجميلة التي يحصلون عليها، عبر الكتابة أو عبر الاستماع والمذاع على حد سواء.
في هذا الإطار يركّز سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أن المعنيين بهداية الناس وتثقيفهم - وهو أمر ينبغي أن يعتني به الجميع بعد المعنيين من النخب- (بحاجة إلى تعلّم وتمرين، لأنّ القدرة على التعبير الجميل لا يأتي هكذا عفواً، بأن ينام الشخص ـ مثلاً ـ في الليل ويستيقظ في اليوم التالي وقد أصبح أديباً)!
خلاصة القول، لابد من وضع ظاهرة التنمّر اللفظي تحت مجهر البحث، والرصد، لاسيما أساليب التحاور والتلاسن المباشر، أو عبر وسائل الاتصال المتطورة، المهم في هذا الشأن، صناعة لغة تفاهم متحضّرة، يحترم فيها الطرفان (القائل والمستمع) بعضهما، مع إتقان جيد لفن الإصغاء، وتهذيب تام للمفردات واهتمام بالمعاني، لأنها يمكن أن تتحول إلى مفردات عنيفة تتشح بالتنمّر، أو هادئة مسالمة عنوانها السلام والرحمة والوئام.
اضف تعليق