ما يعاني منه اليوم عالمنا من كثرة التعقيدات والتصادمات، ما هو إلا صراع بين الإخلاص والزيف، فمن يراعي حدود الله ويصدق ويخلص له، سوف يساعد على تخفيف أزمات المجتمع، وبالتالي العالم كله، تبدو القضية فردية، لكنها في نفس الوقت جماعية، العالم يعاني من هشاشة البنية الأخلاقية، بسبب ضعف الإخلاص...
يتأرجح الإنسان بين الإخلاص والخيانة تبعا لمسببات كثيرة، تقف في المقدمة منها البيئة التربوية والدينية الحاضنة، وتبقى قضية السلوك إخلاصاً أو خيانةً مرهونة بذات الإنسان، وربما تبقى خفية على الآخرين، فقد يخون أو يغش الإنسان أقرب الناس إليه من دون أن يتم اكتشافه، حتى الإخلاص يبقى قضية ذاتية في صدقها أو زيفها، فيمكن لأحدهم أن يبدي إخلاصه الظاهر فيما هو في حقيقة الأمر ليس كذلك.
الإخلاص هو فضيلة من الفضائل وخلق من الأخلاق الحسنة الحميدة، والتي يعبر فيها الشخص بالقول والفعل عن آرائه ومشاعره ومعتقداته ورغباته دون رياء أو نفاق أو مواربة. ويرتبط الإخلاص بالصدق، إذ أنه يعبر عن مدى تطابق القول مع الفعل.
ويشتق اللفظ الإنجليزي للكلمة Sincerity من اللفظ اللاتيني sincerus بمعنى نقي أو طاهر. كما أن الإخلاص في اللغة مشتق من خَلَص، بفتح الخاء واللام خلص يخلص خلوصاً وإخلاصاً، وهو في اللغة بمعنى صفا وزال عنه شوبه إذا كان في الماء أو اللبن أو أي شيء فيه شوب، يعني تغير لونه بشيء يشيبه أي يغيره فقمت وصفيتَه وأخرجت هذه الشوائب التي لوثته فيُقال: إنك أخلصته يعني صفيته ونقيته.
وفي الاصطلاح يعني الإخلاص صدق العبد في توجههِ إلى الله اعتقاداً وعملاً، قال الله : ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِين لَهُ الدّين﴾ سورة البينة الآية (5). ويقول تعالى : ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ سورة النساء الآية (146).
مجمل مشاكل الإنسان (الفرد والجماعة)، مرهون بطرفيّ معادلة الإخلاص والخيانة أو الغش، لاسيما أن كشف هذه الصفة ليس مضمونا، وكثيرا ما يكتشف بعض الناس أن أقرب الناس إليهم لم يخلصوا لهم وقد يصح العكس، فالرصيد الأخلاقي يستلزم من الناس جميعا، أن يلتزموا الإخلاص، أولا إلى الله تعالى، ومن ثم للناس بما في ذلك نفس الإنسان أو ذاته، فهو مطالَب بأن يكون مخلصا لنفسه أيضا، من خلال إخلاصه لله وللآخرين.
وليعلم من يحاول إخفاء نواياه، أو إلباسها بغير فحواها، بأنه حتى لو مرَّر غشّهُ وأظهره على أنه إخلاص، فإن ذلك قد يمر على البشر، لكن الله للخائن بالمرصاد.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم (تأمّلات):
(قد ننجح في غشّ من لا يعرف نوايانا وما يدور في أذهاننا، ولكن هيهات أن نغش الله تعالى).
نتائج خطيرة بسبب قلّة الإخلاص
قلّة الإخلاص أو انتفائه له أسباب، وله نتائج خطيرة على النسيج المجتمعي، من أسبابه انتشار النزعة المادية الاستهلاكية بين الناس، ولهاثهم وراء المكاسب بكل الطرق المتاحة حتى غير المشروعة منها، من دون التفكير بعواقب هذا السلوك الشائن، وما سينعكس منه على العلاقات الاجتماعية.
نتائج انتشار الغش أو ندرة الإخلاص تؤدي إلى نوع من الصراع المادي، وتحجيم القيم الأخلاقية، وتخلخل اللحمة الاجتماعية، وهي ظواهر خطيرة تؤدي بالنتيجة إلى إضعاف المجتمع، ونسف القيم وتدميرها والسماح بإدخال قيم وافدة لا أخلاقية لحمتها وسداها المادية والنفعية.
قناعتنا الشخصية بالمقابل وخبرتنا ونظرتنا له هي التي تزكّيه أو تجعلنا نتعامل معه بتوجّس وقلق مخافة عدم الإخلاص، وغالبا ما نمنح أنفسنا هذا الحق، أي حق التمييز بين المخلص والغشاش، لكننا نبعد أنفسنا عن هذا النقص حين يتعلق الأمر بعلاقتنا مع الله تعالى!
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إذا كنّا نتعامل فيما بيننا حسب قناعتنا الشخصية فلا نساوي بين من يخلص إلينا ومن يغشنا، فلماذا نستكثر على الله تعالى أن يعاملنا كذلك؟!).
وقد نلجأ إلى المجاملة في التعامل مع من لا نثق بهم، فنحن في داخلنا نتخوّف من سلوكهم تجاهنا وعلاقتهم بنا، لكننا لا نجهر بذلك، ونبقى في حالة عدم إعلان لما نتوقعه من عدم إخلاصهم لنا، لكننا في حال تطلب الموقف نوعا من الحسم، فإننا نتعامل معهم وفق ما نتوقّع منهم، فلماذا نستكثر على الله تعالى أن يعاملنا بالمثل.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(لو أقسمت لك ألف يمين على أني مخلص لك ولكنك لم تكن مقتنعاً بصدقي لما ترى من سلوكي أو ما تخبره من نواياي، أ فتعاملني معاملة من تعتقد إخلاصه؟ كلا أبداً! قد تتظاهر معي وتجاملني وتعاملني بالمثل، ولكنك في المنعطفات والمواقع الحسّاسة تعاملني حسب قناعتك).
الثقة رابط أساس للعلاقات الاجتماعية المتينة
ويضيف سماحته (دام ظله): (إن كنت شاكّاً بي، فإنك لا تودعني أسرارك، ولو سألتك عن السبب فستحول مجرى الكلام, بل قد تنفي وجود سرّ عندك، بينما الحقيقة هي أنك لا تثق بي، فإذا كانت هذه موازيننا في تعامل بعضنا مع بعض ونرى أنها حقّ، فلماذا لا نعطي الله الحقّ نفسه، فنتوقّع أن يعاملنا معاملة المخلصين ونحن لم نخلص له في نوايانا؟!).
إننا غالبا ما نحسن الظن بأنفسنا، ونصرّ على أننا نتعامل بالشكل الصحيح مع الآخرين، لكن هذا الظن يأتي في إطار قناعتنا الفردية فقط، فقد لا نكون مخلصين لأنفسنا أو للآخرين بالفعل، لكن عقلنا وأنفسنا تصور لنا بأننا لم نخطئ، وأننا نتصرف التصرف الأخلاقي اللائق مع الناس!
هذه الهواجس الفردية قد نظن أن تبعاتها قليلة أو محصورة في نطاق ضيق، لكننا في حقيقة الأمر نسهم في إفساد مجتمع كامل، صحيح أن سلوكنا يبدو ذا صبغة فردية، لكنه في الحقيقة ينعكس على المجتمع من خلال نقله إلى الآخرين، وشيئا فشيئا تصبح القيم المسيئة مقبول عنها ونعتمد عليها في علاقاتنا الاجتماعية، هذا هو خطر غض الطرف عن الفارق الأخلاقي الكبير بين الإخلاص والغش.
في مجتمعاتنا اليوم مشكلات لا حصر لها، منها الاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي وسواه، كل هذه النتائج تترتب على كيفية تعاملنا مع معادلة الإخلاص والتزييف أو المخادعة، فالمجتمع حين يقوم على قيمة الإخلاص في علاقاته الاجتماعية والتعاملية وغيرها، هو مجتمع ناجح منضبط، قليل المشاكل، تحكمه القيم النبيلة.
على خلاف من يُظهر شيئا ويُبطن آخر، فالمجاملات يجب أن لا تكون على حساب القيم الأخلاقية للمجتمع، كما أن القبول بالسلوك الخائن لا يجدي نفعا، ولا يسهم في معالجة المشكلات الاجتماعية، لاسيما في ظل فوران الموجة المادية المستعرة في عموم دول وأصقاع العالم.
صحيح جدا أن نساوي بين المخلص والغشاش أو الخائن، فما بينهما تناقض لن يقبل التلاقي أو التقارب، والخائن يجب أن نصفه بهذه الصفة ونتعامل معه على أساسها، مع إبقاء باب التصحيح مفتوحا له، مسترشدين بالنظرة الإلهية لهاتين الصفتين، لأن الله تعالى لا يساوي بين من يخلص ومن يخون، وحريّ بنا أن نتعامل هكذا وأن نسعى إلى تعميق القيم الأخلاقية الرشيدة وصيانتها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إن الله لا يساوي بين الخائن والمخلص، فهل يستوي من يعمل وهدفه منافع دنيوية, أعم من أن تكون مالاً أو شهرة وسمعة أو شيئاً آخر, ومن يكون عمله خالصاً لله وحده، ولا يفكّر في ذاته وذاتياته؟).
ما يعاني منه اليوم عالمنا من كثرة التعقيدات والتصادمات، ما هو إلا صراع بين الإخلاص والزيف، فمن يراعي حدود الله ويصدق ويخلص له، سوف يساعد على تخفيف أزمات المجتمع، وبالتالي العالم كله، تبدو القضية فردية، لكنها في نفس الوقت جماعية، العالم يعاني من هشاشة البنية الأخلاقية، بسبب ضعف الإخلاص، هذا ما يجب أن يعرفه الجميع إن أرادوا صنع عالم خالٍ من الأزمات.
اضف تعليق