كيف يمكننا معالجة هذا الخلل الاجتماعي الأخلاقي؟، إننا لا نعيش وحدنا في هذا الكوكب، هناك من يتقاسمه معنا، ومن الأفضل لنا جميعا أن نختار أسلوب العلاقات المتحضّرة التي تتسم باللطف والبشاشة لتخفيف الهموم وتذليل المصاعب، هذا يستدعي منّا أن نكون متمالكين لأعصابنا، مستبشرين، وهذا ينعكس...
(من النادر أن تلقى أحداً يتقبّل النصيحة من أعماقه) المرجع الشيرازي
منذ أن اعتاد الإنسان على الآخرين وانتقل من العيش الفردي إلى الجماعي في تجمعات بشرية مختلفة، حاول أن يجعل علاقاته مع الآخرين مقبولة، وحرص بصورة تلقائية على جلب انتباه الآخرين وكسب محبتهم وإعجابهم، فهو لم يعد فردا يطارد الحيوانات الأضعف لتأمين غذائه، وانتقل من عصر الغاب إلى عصر الاجتماع والأخير فرض عليه نوعا من العلاقات الجمعية المتبادَلة.
المختصون في العلوم الاجتماعية، يعرّفون التفاعل الاجتماعي أو العلاقة الاجتماعية بأنها أية علاقة تنشأ بين فردين أو أكثر. وتشكل العلاقات الاجتماعية القائمة على الاستقلالية الفردية أساس البناء الاجتماعي والموضوع الأساسي للتحليلات التي يقوم بها علماء الاجتماع. وتبرز الاستقصاءات الأساسية في طبيعة العلاقات الاجتماعية في أعمال علماء الاجتماع مثل ماكس فيبر في نظريته لـ العمل الاجتماعي.
يُسهّل تصنيف التفاعلات الاجتماعية إجراء الأبحاث عن طريق الملاحظة وغيرها من الأبحاث الاجتماعية مثل "الجماعة المشتركة والمجتمع" والضمير الجمعي وما إلى ذلك، بيد أن المدارس المختلفة ونظريات علم الاجتماع وغيره من العلوم الاجتماعية تشكك في الأساليب المستخدمة في تلك الاستقصاءات.
يمكن أن نصف أشكال العلاقات والتفاعلات في علم الاجتماع وعلم الإنسان كما يلي: أولاً وبصورة أساسية هي سلوكيات شبيهة بسلوكيات الحيوانات, أي حركات الجسم المادية المختلفة. ثم هناك الأفعال - الحركات ذات المعنى والهدف- ثم هناك السلوكيات الاجتماعية أو الأفعال الاجتماعية، التي تتناول أشخاصًا آخرين (بصورة مباشرة أو غير مباشرة)، والتي تستلزم استجابة من عامل آخر. ثم هناك الاتصال الاجتماعي، وهو زوج من الأفعال الاجتماعية والذي يشكل بداية التفاعلات الاجتماعية.
هذا التعقيد في النسيج الاجتماعي تطلّب نوعا من الأساليب والطرائق التي تجعل من العلاقات الاجتماعية متينة، ويمكن من خلالها أن يتحول المجتمع إلى كتلة متوحدة تربطها روابط اجتماعية متماسكة، ولابد من عوامل وإجراءات وشروط تزيد من قوة ومتانة المجتمع، ويقع في المقدمة منها حالة الانسجام بين الأفراد، ومعرفة الفرد لكيفية كسب ودّ الآخرين وتقديم ما يلزم لتحقيق هذا الكسب.
هل يمكن إخفاء الأحزان والهموم؟
وفي مقدمة ما ينبغي على الفرد تقديمه للمجتمع، هو اللطافة والبِشْر عند ملاقاة الآخرين والتعامل معهم، باختصار أننا مطالبون بالخلق الرفيع في القول والسلوك، وهو ما يجعلنا أمام مسؤولية التعامل بلطف مع الآخرين وإخفاء همومنا وأحزاننا قدر المستطاع، من أجل تمتين الروابط الاجتماعية، وزيادة التماسك المجتمعي.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، نبّه على هذه النقطة، حين قال في إحدى كلماته التوجيهية القيمة:
(البِشر معناه إخفاء الأحزان والهموم الناشئة من المشاكل الكثيرة التي قد يواجهها الإنسان في الحياة، ومقابلة الناس بوجه طلق).
المشاكل الاجتماعية كثيرة ومعقدة، وعلينا كأفراد صالحين في المجتمع أن بذل كل ما يمكن كي نخفف ونقلل من وطأة تلك المشاكل على الآخرين، لسبب واضح، أننا جزء لا يتجزّأ من النسيج الاجتماعي، والضرر الذي يطول فرد آخر أو جماعة أو جزء من هذا النسيج لابد أن تكون لنا حصة من ذلك الضرر.
لهذا علينا كأفراد نعيش في محيط اجتماعي واحد أن نسعى لتقليل هموم ومشاكل الآخرين، وأقل ما يمكن أن نقدمه في هذا المضمار هو البِشر، ولطافة اللسان والسلوك الإنساني المتحضّر، بالإضافة إلى أهمية أن نقلل من هموم الناس، فمن يراك مهموما سوف تؤثر عليها سلبا ومن يراك مستبشرا سوف تساعده في نفض غبار الهموم عن قلبه، وهذه مهمة ينبغي أن تكون متبادَلة بين أفراد المجتمع.
لهذا يدعونا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) إلى هذا النوع من العلاقات قائلا:
(لنجعل وجوهنا مستبشرة بحيث لو رآنا المهمومون لقلّلنا من همومهم، لا أن نضاعفها لهم، وهذا التصرّف يؤثر في الناس أكثر من القول).
أمر طبيعي أن تزداد تعقيدات حياتنا مع كل تطور جديد، فالحياة قبل مئة أو خمسين سنة ليس كحياتنا اليوم، وبعد خمسين سنة سوف تكون مختلفة أيضا، لذلك كلما يزداد التطور التكنولوجي والعلمي يزداد تعقيد الحياة، وينعكس ذلك على العلاقات الاجتماعية، وفي حال عدم التنبّه إلى ذلك سوف تصبح الحياة عصيبة، ويتحول الأفراد إلى عدوانيين غير قادرين على الاندماج الاجتماعي.
تعقيد مجالات الحياة ينعكس على السلوك الفردي، وهذا يزيد من مسؤولية الفرد والجماعة كي يقلل من الضجر والتبرّم، وهذا يمكن أن يتحقق بالمعاملة الحسن للآخرين، بشاشة الوجه، لطافة الكلام، وحسن السلوك، هذه ركائز ينبغي أن تقوم عليها العلاقات الاجتماعية المعاصرة، إننا في ظل الازدياد البشري الهائل أصبحنا إزاء محنة علاقات مشوبة بالتعقيد والجفاف والخشونة، علينا أن ننتبه إلى ذلك.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يتساءل حول هذه النقطة في قوله:
(كيف يتمكّن الإنسان أن لا يضجر ولا يتبرّم ولا تظهر عليه آثار الاستياء مع أن في مجتمعه وبيئته الأذواق المختلفة والسلوكيات المتباينة، ناهيك عن الأحقاد والعداوات والمشاحنات والمشاكسات؟).
عليك أن تلقى العالم كلّه بالبِشْر
كيف يمكننا معالجة هذا الخلل الاجتماعي الأخلاقي؟، إننا لا نعيش وحدنا في هذا الكوكب، هناك من يتقاسمه معنا، ومن الأفضل لنا جميعا أن نختار أسلوب العلاقات المتحضّرة التي تتسم باللطف والبشاشة لتخفيف الهموم وتذليل المصاعب، هذا يستدعي منّا أن نكون متمالكين لأعصابنا، مستبشرين، وهذا ينعكس على من يشاركنا ويجعله أكثر إيجابية في حياته.
لذا ينصح سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(من المهم جدّاً أن يسيّطر الإنسان على نفسه ويتمالك أعصابه، ويلقى بالبِشر كل العالم).
ويجب أن نعلم جميعا، أن اللطف والبشاشة تدخل في إطار التدريب، أي أن الإنسان يجب أن يصنع البيئة التي تساعده على أن يكون بشوشا، وهذا لن يتحقق للإنسان إلا إذا كان قادرا على ضبط نفسه، وتعليمها وتدريبها على الأخلاق الرفيعة، وهذا من شأنه صنع مجتمع متعاون منسجم قليل المشاكل والتعقيد، وهو ما تحتاجه المجتمعات التي تتطلع إلى التفوّق المستمر.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الإنسان الذي يلقى الآخرين بالبِشر هو إنسان ضبط نفسه وربّاها حتى بلغت هذه الدرجة).
ومن الأهمية بمكان أن نعلم جميعا بأن ما قد يحققه الإنسان في نصف ساعة من الكلام، يمكنه أن يحققه في دقيقة واحدة من البِشْر والبشاشة في التعامل مع الآخر، وهذا من نستشفّه من كلام المرجع الشيرازي حين يقول: (قد تحاول أن تزيح الهمّ عن صدر أخيك من خلال كلامك معه لمدّة نصف ساعة ولا ترى استجابة، ولكن قد يكون لمقابلتك الطيّبة معه ولقائك إيّاه بالبِشر الأثر الفاعل في تحسن حالته، مع أن هذا الموقف قد لا يستغرق دقيقة واحدة).
من الصفات الحميدة التي يتحلى بها الإنسان، أن يخفف هموم الآخرين، وأن يكون مصدر بشاشة ونبل ومساعدة لهم، وفي كل الأحوال لن يكون هنالك خاسر في هذه الحالة، فالجميع يربحون بسبب تكون منظومة علاقات اجتماعية متماسكة تقوم على نشر الطاقة الايجابية بين الجميع من خلال البِشْر واللطف والكلام المحبّب.
وهذه صفات لا يتحلى بها إلا كبار النفوس والقلوب، ومن يسعى لبناء مجتمع متناغم منسجم متجانس متعاضد، يمكنه بلوغ هذا الهدف حين يكون الإنسان بشوش الوجه مستبشرا، متعاملا بمحبة وإنصاف ونبل مع الآخرين.
نجد ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ما أعظم الشخص الذي ينكر نفسه ويقاومها رغم كل ذلك ويظل ضاحك الوجه باسماً!).
في أعلاه مجموعة نصائح تساعد الناس على حيازة السلوك الإيجابي، ونقل الفرد والمجتمع من السلبية إلى الإيجابية، مع الإقرار بندرة من يتقبلوا النصيحة، لكن لا يمكن للتماسك الاجتماعي أن يتحقق إلا بالبِشر واللطف، ولا يوجد مجتمع أو فرد مستثنى من هذا الاشتراط، حسن معاملة الآخرين، فمن يسعى لبناء مجتمع متميز، عليه أن يصنع فردا يتميز بالإيجابية، وإبداء البشاشة وحسن السلوك، ولطف الكلام.
اضف تعليق