الصوم ليس إجراءً ماديا يمتنع فيه الإنسان عن الأكل والشرب، فهذا الجانب المادي هو جزء من قائمة طويلة يستلزمها الصيام الصحيح، حيث هنالك النوع الأكثر مشقّة على الصائم، إنه الجانب الروحي الذي يفرض على الإنسان أن يتحكّم بنفسه كامل التحكم، ويصدّ جوارحه كافة عن الانزلاق في المحرمات كافة...
الصوم ليس إجراءً ماديا يمتنع فيه الإنسان عن الأكل والشرب، فهذا الجانب المادي هو جزء من قائمة طويلة يستلزمها الصيام الصحيح، حيث هنالك النوع الأكثر مشقّة على الصائم، إنه الجانب الروحي الذي يفرض على الإنسان أن يتحكّم بنفسه كامل التحكم، ويصدّ جوارحه كافة عن الانزلاق في المحرمات كافة، فحواس الإنسان الخمسة ينبغي أن لا تذهب في اتجاه خاطئ، كالنظر مثلا، وكذلك بقية الحواس التي يجب أن تكون تحت سيطرة الكائن البشري بشكل تام.
درجة المقدرة على التحكم بالنفس والجوارح، هي التي تمنح الإنسان مرتبة أعلى أو أدنى من مراتب الصيام، لاسيما أنّ هذا الشهر المتميز من بين شهور السنة الاثني عشر اختص بالله دون الشهور الأخرى وسمّي بـ (شهر الله)، لما يتميز به من أجواء وخيرات ومحفّزات قادرة على بناء الذات والحياة معاً، لذلك فإن الإنسان المؤمن عليه أن يقدّر القيمة العليا لهذا الشهر وأن يستثمره لصالحه أقصى الاستثمار.
ليس في مدارج صقل النفس فحسب، وإنما بنقل هذا الشعور والفعل الإيمان لكل من نؤثّر عليهم كأفراد العائلة مثلا، أو الأصدقاء المقرّبين، وكل من يكون لنا احتكاك معهم في الدراسة أو العمل أو أماكن الترفيه وسواها، علينا أن ننقل تجربة الصيام الناصعة لهم، بل نحن مسؤولين عن التأثير الجيد للصيام في الآخرين، وعدم تضييع هذه الفرصة التي يحصل فيها الإنسان على الرحمة الإلهية والتغيير والتطوير والتطهّر من الدنس.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب (من عبق المرجعية):
(إنّ شهر رمضان هو شهر الله سبحانه وتعالى، اختصّ به دون باقي الشهور، فهو شهر لتنظيم حياة الإنسان، والتغيير نحو الأفضل، والتطهّر من كل دنس، والطاعة لله سبحانه).
للصوم مراتب تبدأ من الأقل لتصل إلى القمة، بحسب التزام الإنسان ومدى قدرته على تجنّب إلحاق الأذى بالآخرين وبنفسه أيضا، فمن يتسبّب في أذى إنسان آخر بأي شكل من الأشكال، وبأية درجة كانت، فإن الأذى لا يقتصر على الشخص المُلحَق به بل يعود أيضا على الإنسان القائم به؟
مثال ذلك المسؤول الذي يستغل نفوذه وصلاحياته في غير مكانها، وبعيدا عن الشرعية والقانون، مثل هذا المسؤول سوف يحصل على مغانم معنوية ومادية تأتي إليه عبر طرائق غير مشروعة، لأنها سوف تُلحق الأذى بأناس آخرين هم أحقّ بالمسؤول منها، وفي الوقت الذي يظن المدير أو المسؤول بأنه استفاد من قراراته الجائرة ماديا أو معنويا، فهو قد ألحق الضرر بسمعته، وربما يطوله القانون الوضعي أيضا، بالإضافة إلى ما ينتظره من حساب (يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون).
العلاقة التصاعدية بين المسؤولية والصوم
لذلك كلّما ارتفع مستوى المسؤولية، أصبح الالتزام أكثر بالصيام وكبح الجوارح، وكف نوازع النفس، والعمل بقوة على إنصاف الناس، لاسيما الفقراء منهم، أولئك الذين لا حول لهم ولا قوة، بل على الإنسان المسؤول بالأخص وعامة الناس أيضا عدم التفكير بالحرام أساساً، أي أن مجرد التفكير باضطهاد الآخرين والتجاوز على حقوقهم ليس في صالح المسؤول أو سواه، فكيف إذا تحوّل التفكير إلى فعل مؤذٍ يضاعف من مشاكل ومصاعب المجتمع؟؟
في شهر رمضان تكمن البداية بالكف عن الحرام، من المسؤولين والقادة ومن كل المستويات والشرائح والطبقات الأخرى، أي أن هذا الشهر هو نقطة انطلاق التصحيح الفردي والمجتمعي، ومن الأفضل للإنسان أن يتدرّب تدريبا يوميا ليس على عدم ارتكاب المحرمات فحسب، بل وعلى عدم التفكير بها أصلاً.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكّد على:
(إنّ هناك فريقاً من الناس لا يتورّعون عن المعصية ويكفّون عنها وعن المحرّمات فحسب، بل يتورّعون عن التفكير فيها أيضاً).
أي أننا يمكن أن نعثر على هذا النموذج الأرقى من مراتب ودرجات الصيام، فهناك من المؤمنين من بلغ المرتبة الأعلى من مراتب الصيام، وحصل على مرتبة (صوم خاص الخاص)، الذي يمثّل المرتبة الأعلى وقد بلغها مؤمنون تمكنوا من ردع نفوسهم وتنظيف قلوبهم، وتمكنوا من محو التفكير بالحرام محوا كاملا من عقولهم وأذهانهم، من خلال الصيام التام عن جميع المفطرات المادية والحسّية والشعورية وبلغوا بذلك ما يستحقونه من درجة تليق بهم.
ليس سهلا على الإنسان عموما، وحتى المؤمن أن يبلغ هذه الدرجة، كونها صعبة البلوغ لصعوبة شروطها، فهي تكاد تبلغ بالإنسان إلى أعلى مكانة يستحقها إنسان، حيث ينعدم التفكير بالمحرّمات بشكل تام، وهنا سوف تسمو روح الإنسان، ويتنزّه قلبه، وتصفو جوارحه، وتحلو كلماته، وتُصقَلُ نواياه وتشذَبُ أفعاله من كل خطأ ودنس، ويكون سيدا على نفسه وقائدا لها وليس العكس.
متى نبلغ مرتبة عدم التفكير بالحرام؟
متى ما بلغ الإنسان، لاسيما المسؤول عن جمع غفير من الناس خارج حدود المسؤولية العائلية، مرتبة قيادة النفس وتوجيهها، يكون قد بلغ القدرة على عدم التفكير بالحرام، وبلوغ هذه المرتبة تعني أننا نقف أمام إنسان عظيم لم تستطع الغرائز أن تسحبهُ إلى فخاخها، ولا نوازع النفس إلى ميولها، إنه بفصيح القول إنسان غلبّ نفسهُ وهزم غرائزه وأمسك بلجام جوارحه وقادها كما يريد هو.
فوصل بذلك إلى مرتبة صوم يحلم بها المؤمنون جميعا، إنها مرتبة (صوم خاص الخاص)، وهذا الإنجاز العظيم لا يعرف قيمته ويجرّب سعادته ويعرف نتائجه، إلّا من يصل إليه بالقول والفعل، وهناك في محافل المؤمنين شخصيات مؤمنة وبعضها تعود لمسؤولين كبار، تمكنوا من بلوغ هذه المرتبة، ففازوا بكل ما يمنحه هذا الشهر الكريم من مجزيات طيبات لمن يستحقها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنهم يصومون عن المفطرات العامة، وتصوم جوارحهم عن ارتكاب الذنوب، كما تصوم جوارحهم عن التفكير فيها، وهذا صوم خاص الخاص، وهو أعلى مراتب الصوم وأقسامه).
وحين يتم التركيز على قضية استثمار شهر رمضان بصورة صحيحة، سواءً من قبل المسؤول أو غيره من الناس، فهذا يتأتى من حاجتنا كمسلمين إلى تصحيح مساراتنا الخاطئة في الحياة، في السياسة أو الاقتصاد أو الإدارة وغيرها، حتى على صعيد سلوك الفرد، يجب أن يتم استثمار شهر رمضان لإعادة النظر بالسلوك والتفكير والكلام والقرارات والمعاملات المختلفة مع الآخرين.
نحن نعاني من مشاكل خطيرة متعددة المجالات، في السياسة هناك أخطاء قاتلة، وفي الاقتصاد هناك تأخّر كبير على الرغم من أننا نمتلك ثروات تفوق ما يمتلكه الأمم والدول الأخرى، لكننا لا نزال نتخلف عنهم بسبب سياساتنا الاقتصادية والإدارية المغلوطة، هذا سببه الأفراد القادة والمسؤولين، لذلك عليهم باستثمار فرص التصحيح الممكنة في هذا الشهر المبارك.
فما أن يكفوا عن التفكير بالحرام سوف ينتهي كل شيء، ولا يصح أن يظن بعضهم بأنه غير مشمول بالتصحيح وينزّه نفسه من الخطأ، ويعفو ذاته من مهمة المراقبة والتوجيه، فالجميع مشمولون بهذه المهمة، ونعني بها مهمة بلوغ درجة من الصوم كافية لمنح الإنسان المسؤول وغيره القدرة على أن يكون عنصرا صالحا وفاعلا في عملية البناء بمختلف مجالاته (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، العلمية .... وسواها).
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(شهر رمضان المبارك هو شهر بناء الذات وتغيير النفس، وهذا الأمر مطلوب من الجميع، يستوي في ذلك أهل العلم وغيرهم، ومهما يبلغ المرء درجة في هذا الطريق فثمة مجال للرقي أيضاً).
وبهذا نجزم أننا لو أعطينا هذا الشهر الكريم حقّهُ، وعرفنا منزلته عند الله تمام المعرفة، فيقيناً أننا سوف نكون قادرين على بلوغ مرتبة من الصيام تؤهلنا للنجاح، وهذا يعني أننا وصلنا إلى الهدف الأهم في حياتنا، وهو بناء الذات وبناء الأمة والدولة معا.
اضف تعليق