ما يلزم حكومات العالم أجمع، والحكومات الإسلامية على وجه الخصوص بإعادة النظر في سياساتها الاقتصادية، واعتماد المبادئ السليمة التي تجنب العالم الأزمات المعقدة والقاتلة، فإذا كان عالم اليوم قادته، علماؤه، حكماؤه، عقلاؤه، يشعرون بمسؤولياتهم حقّا، فما عليهم سوى الاتّعاظ من الرسائل التي ترسَل إليهم تباعا، وآخرها وباء كورونا...
لا توجد دولة في العالم يمكنها أن تحجز مكانا في صدارة الأمم، ما لم تمتلك اقتصادا متيناً متكاملا ومتوازنا، وهذا ما درجت عليه الحكومات الناجحة في التاريخ الإسلامي، فقد قال الإمام الصادق عليه السلام: الاقتصاد هو الكسب كله.
ومثل هذا النوع من الكسب لا يمكن أن يُنجَز إلا بشروطه، فالاقتصاد بحسب علمائه هو النشاط البشري الذي يشمل إنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك السلع والخدمات. ويُعرّف الاقتصاد أيضا بأنه مجال اجتماعي يركز على الممارسات والخطابات والتعبيرات المادية المرتبطة بإنتاج الموارد واستخدامها وإدارتها.
لغوياً يعني مصطلح الاقتصاد التوسط بين الإسراف والتقتير (جاء في كتاب مختار الصحاح: "القَصْدُ بين الإسراف والتقتير يقال فلان مُقْتَصدٌ في النفقة")، أي وسط في الإنفاق بين البخل والتبذير. والاقتصاد هو مصطلح يشمل مفاهيم كثيرة، منها المفهوم الذي تدرسه العلوم الاقتصادية (الاقتصاد)، وهذا الأخير يرتكز على النظريات الاقتصادية والإدارية لتنفيذها. وأحيانا يمكن اعتبار مصطلح اقتصاد بديلاً عن "الاقتصاد السياسي".
كما يشير المصطلح عن الاقتصاد بالمعنى الواسع أو الحالة الاقتصادية لبلد أو منطقة ما، وهذا يعني وضعها الاقتصادي (فيما يتعلق بالدورة الاقتصادية) أو وضعها الهيكلي. ضمن هذا المعنى، إن مصطلح الاقتصاد هو مرادف لكل من الأسلوب (النهج) أو النظام الاقتصادي.
مما جاء في أعلاه تظهر الأهمية القصوى للتجارب الاقتصادية الناجحة، بالأخص تلك التي تندرج ضمن الإرث التاريخي المتميز بالتفرّد، كما نجد في تجربة سياسة الإمام علي عليه السلام الاقتصادية، حيث تقوم على نظرية التوازن والربح المستمّد من العدالة في إطار التعامل الأخلاقي، فلا نجاح سياسي أو اقتصادي لا يتم تأطيره في إطار الأخلاق، ولا تشكل سعة أراضي الدولة أو عدد السكان الهائل عقبات إزاء السياسات الاقتصادية المتوازنة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يشير إلى ذلك في كتابه القيّم الموسوم ب (السياسة من واقع الإسلام)، فيقول سماحته:
(لننظر إلى الإسلام كيف جعل من الدولة الإسلامية البعيدة الآفاق، الشاسعة الأراضي، الكثيرة النفوس، أُمة غنية كاد أن يصبح الفقر فيها خبراً لكان).
كيف تقضي الحكومات على الفقر؟
وبسبب سعة الأراضي العائدة للدولة الإسلامية، هناك مصاعب جمة ينبغي أن تتولد عن ذلك، لكن الأمر يعود أولا وأخيرا إلى طبيعة الحكم، والنظرية الاقتصادية المعتمدة، وسياسة الحكومة ومبادئها وطرائق الأداء والتنفيذ، ولدينا نماذج متعددة في هذا الإطار منها تجربة الإسلام اقتصاديا في القارة السوداء، أو ما تسمى بقارة أفريقيا، حيث نجحت الحكومة الإسلامية في هذه القارة نجاحا اقتصاديا لا تزال تحتفظ به بطون التاريخ وتشيد به الدراسات والبحوث المنصفة.
حكومة الإمام علي عليه السلام اتخذت منهجا اقتصاديا لا تزال معالم نجاحه شاخصة أمام الجميع، فاستثمار الأرض والموارد البشرية والطبيعية، والعدالة في التوزيع والتكافؤ في الفرص، وسياسة المساواة بين جميع المواطنين تحت خيمة الدولة والحكومة، حفظت حقوق الجميع من دون استثناء.
ففي التجربة الاقتصادية للإمام علي عليه السلام (يعرف العالم، والمسلمون أنفسهم أنّ الحكومة الإسلامية تقضي على الفقر وترفع مستوى الفقراء لا بالنسبة للمسلمين فحسب، بل تنفي الفقر حتى عن الكفّار ماداموا تحت رعاية الدولة الإسلامية) كما جاء في المصدر المذكور لسماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).
وحين نتعمّق في تجربة الإسلام اقتصاديا ونبحث ذلك في قارة أفريقيا كنموذج لهذا الاستقصاء المحايد، وحين نقوم بمقارنة بين ما كانت عليه هذه القارة إبان التجربة الإسلامية وبين ما تعانيه اليوم في ظل العالم المتقدم من فقر ومجاعات وحرمان وانتهاك لأبسط الحقوق!!.
فإننا سوف نكتشف مدى النجاحات الكبيرة التي حققها الاقتصاد الإسلامي في هذه القارة (السوداء التي لا تزال حتى اليوم ـ رغم كل التقدم الاقتصادي في مختلف الميادين في العالم ـ ترزح تحت وطأة الجوع والفقر والبؤس، والتي يموت فيها المئات والألوف. هذه القارة التي تربض على مخازن الثروة الضخمة، والتي يسرق الطغاة في العالم ثرواتها دون أن يعطوها خبزاً وقمحاً يسدان الجوع. هذه القارة كانت ـ قبل أكثر من عشرة قرون ـ تنعم بالغنى والثروة نتيجة حكم الإسلام عليها) كما جاء في قول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).
لقد كانت السياسة الإسلامية الناجحة اقتصادية في قارة أفريقيا ولا تزال درسا متميزا ينبغي أن يدرسه قادة اليوم، لاسيما الحكومات الإسلامية التي تعاني من قلة الخبرات في هذا المجال، فعليها دراسة تجربة الإسلام في أفريقيا وتدقق في المبادئ والتفاصيل الدقيقة وتلتزم المبادئ التي قامت عليها السياسات الاقتصادية آنذاك، وتسعى للاستفادة منها وتطبيقها في واقعنا الاقتصادي اليوم.
ماذا نقل المؤرخون عن أفريقيا؟
فقد نقل المؤرخون: (إن والي أفريقيا في العهد الإسلامي ـ وبالضبط في عهد أبي جعفر الإمام محمد الباقر عليه السلام خامس أئمة أهل البيت عليهم السلام مفتتح القرن الثاني الهجري ـ بعث رسالة إلى العاصمة الإسلامية يستفسر عن الصدقات والزكوات المتضخمة عنده ماذا يصنع بها؟
فصدر الجواب: أصرفها على الفقراء والضعفاء.
فكتب: عملنا ذلك وزادت صدقات كثيرة فماذا نعمل بها إذن؟
وصدر الجواب: اجعل من يعلن في البلاد على رؤوس الناس: ألا من كان محتاجاً فليأت الوالي وليأخذ حاجته من الصدقات. واجعل من يبحث عن الفقراء وأهل العوز، فلعل هناك بعض من يمنعه الحياء أن يأتي الوالي..
فكتب الوالي إلى العاصمة الإسلامية: فعلنا ذلك وزادت الصدقات.
فصدر الجواب: اصرفها في عامة مصالح المسلمين.
فهل رأت أفريقيا مثل ذلك في كل تاريخها وبعد الإسلام؟
وهل رأى العالم أو قرأ أو سمع نظاماً اقتصادياً يستطيع أن يقتلع جذور الفقر عن الناس حتى يكون من بواعث العجب والدهشة رؤية فقير واحد في طول البلد الإسلامي وعرضها، ولو كان ذاك مسيحياً غير مسلم؟ وهل استطاع العالم المعاصر، والتجارب الاقتصادية الكثيرة من وضع نظام اقتصادي كهذا؟
والجواب على ذلك كله: النفي طبعاً).
هذا ما ورد في كتاب سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، المذكور سابقا، وهو يوضّح بالدليل القاطع ذلك الفارق الكبير بين ما كانت عليه أفريقيا في ظل السياسة الاقتصادية العادلة والناجحة، وبين ما حكمت به حكومات استعمارية أو تابعة فاشلة، بعيدة كل البعد عن مبادئ العدل والتوازن والإنسانية، مما أبعدها عن النجاح، وهذا بحد ذاته درس للحكومات الإسلامية المعاصرة، ولحكومات العالم أجمع، وما عليها سوى الاقتداء بهذه التجربة الاقتصادية الناجحة.
لاسيما إذا بحثنا واطلعنا على النتائج المزرية التي تمخّضت عنها السياسات الفاشلة في قارة أفريقيا، بعد أن تكالبت عليها دول استعمارية لم يهمها سوى الاستحواذ على ثروات أفريقيا وخيراتها، أو في الحكومات الأنانية الفردية الذليلة التي أرهقت المواطن الأفريقي وأفقدته حقوقه، وأبعدته عن تجربة الإسلام الاقتصادية المتميزة في الأداء والنتائج المحفوظة في سجل التاريخ.
الباحث والمتحري المهتم والمنصف سوف يصل بعد المقارنة بين ما كانت عليه أفريقيا في ظل حكومة الإسلام وسياسياته الاقتصادية، وبين ما أصبحت عليه من أوضاع وانتهاكات وسرقات، إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت من أفريقيا تغوص في مستنقع الفقر المدقع، مع أنها متخمة بكنوز وثروات لا حدود لها.
فعلى الرغم من أن (الحضارات اليوم قد بلغت قمتها، والأنظمة الاقتصادية ذروتها، لا تكاد تجد بلداً واحداً إلا والفقر قد نشر أجنحته السوداء، والفقراء ملأ الأرض، والجوع والحرمان شملا الشرق والغرب والجنوب والشمال) كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).
وهذا ما يلزم حكومات العالم أجمع، والحكومات الإسلامية على وجه الخصوص بإعادة النظر في سياساتها الاقتصادية، واعتماد المبادئ السليمة التي تجنب العالم الأزمات المعقدة والقاتلة، فإذا كان عالم اليوم (قادته، علماؤه، حكماؤه، عقلاؤه)، يشعرون بمسؤولياتهم حقّا، فما عليهم سوى الاتّعاظ من الرسائل التي ترسَل إليهم تباعا، وآخرها (وباء كورونا)، والعودة إلى الضمير والعقل والمبادئ لبناء نظام عالمي متوازن في إطار سياسي اقتصادي عادل.
اضف تعليق