اليوم هناك العديد من الدول الإسلامية تعاني من ضعف التنمية، وتميل إلى سياسات قمعية تنتهك الحقوق، وتحرم الأمة من مواردها، الأسباب معروفة، على الحكام والساسة قراءة تجارب الحكم الإسلامي في حلقاته المشرقة، هناك فرص متاحة للتصحيح على أن يتم إطلاق الخطط التنموية الكفيلة بمعالجة معضلة الفقر
مع وجود الموارد الطبيعية الهائلة في الأرض، بات الكلام عن الفقر أمرا مثيرا للاستغراب، وكل الباحثين والخبراء المختصين، يرجعون النسبة المتزايدة للفقر في العالم، إلى سوء إدارة الموارد الطبيعية والبشرية على حدٍّ سواء، وحينما يتعلق الأمر بالدول والحكومات، فإن الخلل الحكومي هو رأس الداء في استفحال الفقر!.
البنك الدولي عرّف الدول منخفضة الدخل أي الفقيرة، بأنها تلك الدول التي ينخفض فيها دخل الفرد عن 600 دولار، وعددها 45 دولة معظمها في أفريقيا، منها 15 دولة يقل فيها متوسط دخل الفرد عن 300 دولار سنويا. فيما يضيف برنامج الإنماء للأمم المتحدة معايير أخرى تعبر مباشرة عن مستوي رفاهية الإنسان ونوعية الحياة "Livelihood” التي يعيشها.
وتعد الرفاهية دليلا وسعَّ من دائرة الفقر بمفهوم نوعية الحياة لتضم داخلها 70 دولة من دول العالم، أي هناك حوالي 45% من الفقراء يعيشون في مجتمعات غير منخفضة الدخل، أي هناك فقراء في بلاد الأغنياء، فهناك دول صناعية تمتلك ثروات هائلة وموارد بشرية كبيرة لكنها تعاني من الفقر، فما هو السبب؟
خلال النصف الثاني من القرن العشرين كثر الحديث عن الفقر والفقراء في أدبيات الأمم المتحدة، بالتوسّع من الظاهرة الاجتماعية في المجتمع الواحد إلى الظاهرة العالمية بتصنيف البلدان إلى غنية وفقيرة، وبتحديد مقاييس ومؤشرات للفقر في مستوى البلدان وكذلك الأفراد مع مراعاة النسبيّة، فالفقير في اليمن لا يُقاس بالمقاييس نفسها التي يقاس بها الفقير في أمريكا الشمالية مثلا.
أسباب الفقر كثيرة، منها ندرة الموارد في الدولة الفقيرة، وضعف بنيتها العلمية والاجتماعية، أي أن هناك أسبابا ذاتية تطول عوامل التنمية نفسها، وهذا يؤدي إلى فقر الشعب وضعف الدولة، لكن ليس هذه الأسباب ذات وجود دائم للفقر، فهناك دول غنية تتوافر فيها الموارد لكنها تعاني من نسب مرتفعة للفقر.
ضعف التخطيط والموارد المهدورة
جلّ الأسباب تتركز هنا على سوء إدارة الدول من قبل حكوماتها، وضعف التخطيط، وكثرة الموارد المهدورة، وغياب العدالة في التوزيع، سواء في فرص العمل، أو في مجال توزيع الثروات بصورة عادلة، وقد فشلت أنظمة إسلامية غنية بمواردها، بل وتمتلك تاريخا جيدا في السجل السياسي والإداري، ومع ذلك كان الفشل في مكافحة الفقر علامة من العلامات الفارقة في هذه الدول.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتاب (من عبق المرجعية):
(كاد الفقر ألاّ يرى لنفسه مجالاً في الدولة الإسلامية، حتى إذا رأى الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه فقيراً واحداً يستغرب منه، ويعتبره ظاهرة غير طبيعية لا تتلاءم مع المجتمع المسلم).
هذا الاستغراب لوجود فقير واحد في دولة مترامية الأطراف من قبل الحاكم، كان يجب أن يمثل درسا لجميع الحكام الذين تعاقبوا على الحكم فيما بعد، وحتى في الحاضر مع توافر الثروات الهائلة في كثير من الدول الإسلامية، إلا أننا لا نزال نلاحظ وقوع نسب كبيرة تحت خط الفقر، وهو أمر يثير الاستغراب حقا، لاسيما أن تاريخنا السياسي والاقتصادي يؤكد السياسة الناجحة في الإرث التاريخي المشرق للمسلمين.
فكانت الدولة حريصة على تقليص مساحة الفقر وتعمل بجهود منتظمة على الحدّ من تأثيراته، وكانت الخطط مستمرة للتقليل من أثر هذه المعضلة بالتخطيط والالتزام بعدالة التوزيع والمساواة، ورفع المستوى المعيشي على نحو متصاعد لجميع المواطنين، بغض النظر عن الانتماء الديني، فالمسلمون وغيرهم من الأديان طالما كانوا في ظل الدولة فإنهم مشمولون بإجراءات العدالة الاجتماعية.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد وجود وفعالية هذه السياسة الاقتصادية في قوله:
(إن الحكومة الإسلامية كانت تقضي على الفقر، وترفع مستوى الفقراء، لا بالنسبة إلى المسلمين فحسب، بل تنفي الفقر حتى عن غير المسلمين ماداموا تحت رعاية الدولة الإسلامية).
وأمر طبيعي أن مثل هذه الإجراءات العادلة سوف تصنع الأجواء الجيدة في العلاقة بين الحكومة والشعب، وهذا ما لا يدركه حكام اليوم وحكوماتهم، ولم يتعلموه أصلا، وإن عرفوه فلا يعملون به، وهذه إشكالية تعاني منها الدول الإسلامية، وتجعلها ضمن الدول المتأخرة على الرغم من أن مواردها وثرواتها الطبيعية والبشرية تؤهلها لأن تنضم إلى الدول الغنية، لكنها مع ذلك تعاني من الفقر بسبب غياب عدالة التوزيع وعدم وجود الخطط التنموية التي ترتفع بالاقتصاد والدخل الفردي والجمعي.
ماذا يحدث حين تسود العدالة؟
هذا يؤدي بالنتيجة إلى سوء العلاقة مع الحكام والحكومات، لدرجة أن جل ما يسعى إليه الحاكم هو حماية عرشه من السقوط، فيتحول إلى الحكم الدكتاتوري القمعي، ويحيط نفسه بالجيوش والحمايات ويلجأ لعسكرة المجتمع مع اختلاق الأزمات الخارجية والداخلية، لكن النتيجة معروفة سلفا ينبئنا بها التاريخ!
على العكس من ذلك حين تسود العدالة والتوزيع السليم ووفرة الموارد من خلال التنمية الصحيحة المستدامة، فإنها تنتج علاقة منسجمة بين الشعب والحكومة، ويكون العرش في مأمن، والمسؤولون الحكوميون يعيشون حياتهم دون الحاجة إلى حماية أو عسكرة لا حاجة لها في وجود العدل الاجتماعي التنموي.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد ذلك في قوله:
(إن الحكومات الإسلامية الحقيقية كانت تعمر طويلاً، وذلك للحبّ المتبادل بين الأمّة وبين الحكومة، ولم يكن الرئيس يحتاج يوماً ما إلى (أمن) و(استخبارات) و(حرس) وما أشبه، حتّى يحميه من الناس).
ومع أننا نستعرض تجارب الدول الإسلامية السياسية والاقتصادية، إلا أننا للأسف نواجه تجارب الحاضر الفاشلة التي أنتجتها حكومات أساءت استخدام الثروات والموارد وافتقدت للخطط التنموية الصحيحة، مع هدر دائم للموارد، لكن قانون الإسلام بتعاليمه وقواعده أثبت نجاح الحكومات التي التزمت به وخير مثال معاصر دولة سنغافورة التي ترأسها رئيسة مسلمة استطاعت أن تجعل من الفرد السنغافوري صاحب أعلى دخل سنوي وصاحب أغلى جواز في العالم.
يُضاف إلى ارتفاع مستوى الدخل، زيادة في الوفرة المالية، واستمرار في الدفق التنموي المتصاعد، مع قلة مضطردة في معدل الجرائم، والانشغال التام بالعمل والتنمية وإطلاق المشاريع الاقتصادية الكبيرة والمتوسطة وحتى الصغيرة، وهو ما تحتاجه اليوم الدول الإسلامية الثرية بمواردها والفقيرة بحكامها وسياساتهم الفاشلة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إذا استعرضنا التاريخ الإنساني المشرق وجدنا أن قانون الإسلام هو الأفضل في كيفية إدارة المجتمع في شتّى حقول الحياة؛ ففيه السياسة الحكيمة، إلى جانب الاقتصاد السليم، إلى جانب انخفاض نسبة الجرائم، بدرجة لم يشهد تاريخ العالم منذ العصور الغابرة وحتى هذا اليوم لها نظيراً، بل ولا قريباً منها).
وحين تكون هناك سياسة اقتصادية ناجحة، لابد أن تكون هناك أسس لهذا النجاح، في مقدمتها ديمومة مشاريع التنمية التي تعضّد الاقتصاد وتجعله مستقرا ومتناميا، مع بث قيم التكافل، وإطلاق خطط الضمان الاجتماعي التي تكفل حياة كريمة للجميع، مع حماية حكومية تامة من تداعيات الفقر، وهذا ما عاشه المسلمون في ظل حضارة إسلامية تفوقت على جميع الحضارات.
كما أكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(لم ير التاريخ قبل الإسلام، ولم تسجّل الحضارات بعد الإسلام، حتى اليوم، ضماناً اجتماعياً بعمق الضمان الاجتماعي في الإسلام).
اليوم هناك العديد من الدول الإسلامية تعاني من ضعف التنمية، وتميل إلى سياسات قمعية تنتهك الحقوق، وتحرم الأمة من مواردها، الأسباب معروفة، على الحكام والساسة قراءة تجارب الحكم الإسلامي في حلقاته المشرقة، هناك فرص متاحة للتصحيح على أن يتم إطلاق الخطط التنموية الكفيلة بمعالجة معضلة الفقر بصورة جذرية وفعالة.
اضف تعليق