يمكن اللجوء إلى تجارب التاريخ من قبل قادتنا اليوم، والإطلاع على سيرة النموذج الناجح المتميز، والسعي لتمثّل أساليبه ومبادئه في القيادة والإدارة والتعامل مع الناس واحتياجاتهم، في إطار المبادئ الضامنة للحريات والحامية للحقوق والساعية نحو نشر العدالة الاجتماعية، حيث بناء الدولة الناجحة يتوقف على حماية الرأي الآخر...
يحتاج الإنسان إلى التجربة والتجريب باستمرار حتى يكون قادرا على التصحيح والتغيير، وصولا إلى الحالة أو النتيجة الفضلى التي يرومها، ولعل القادة بسبب من المسؤولية النوعية الملقاة عليهم، هم أحوج الناس إلى التجربة والتجريب، والتاريخ هو الوعاء الأوسع للتجارب السياسية وسواها.
كما يعرّفه مختصون، التاريخ هو القيام بدراسة تعتمد على حقائق الماضي وتتبع سوابق الأحداث، ودراسة ظروف السياقات التاريخية وتفسيرها، فمنهج البحث التاريخي هو مجموعة الطرق والتقنيات التي يتبعها الباحث والمؤرخ للوصول إلى الحقيقة التاريخية، وإعادة بناء الماضي بكل وقائعه وزواياه، وكما كان عليه زمانه ومكانه تبعا لذلك فالمنهج التاريخي يحتاج إلى ثقافة واعية وتتبع دقيق بحركة الزمن التي تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على النص التاريخي، لهذا وجب ارتباط المنهج بمستويات النقد في كل مراحله الممثلة في التفسير والتأويل والتنقيح والحكم نظرا لعنايته الجادة بالنص كرؤية واقعية ترتبط بالزمن والعصر.
نحن نتعامل هنا مع التاريخ على أنه مدرسة، نبتغي استخلاص الفوائد منه في مجال تطوير وتحسين القادة، فالدول والمجتمعات المتأخرة لا يمكن لها النهوض من دون قادة متميزين، ولكن كيف يمكن صناعة القائد الناجح، وهل يمكن لنماذج التاريخ القيادية أن تفيد وتساعد المسؤول على التميّز؟
بالطبع هناك نماذج قيادية في تاريخنا الإسلامي، تمكنت من تقديم تجارب مشرقة في الأداء القيادي السياسي والإداري والديني والاجتماعي، وليس أمام قادتنا اليوم إلى التحري والتبصّر والتفتيش في بطون التاريخ عن النماذج القيادية المتميزة كي تغترف منهم وتدعم وعيهم ورجاحة عقولهم وحكمتهم، فنحن كمسلمين نجد في تاريخنا القائد الأعظم على مر التاريخ.
إنه الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، الذي تمكن في عقدين من الزمن بناء أعظم دولة مكتملة قوية ومتطورة، قام نظامها السياسي على احترام حرية الإنسان وخياراته، وضمن له حقوقه كافة، حتى استطاع هذا النموذج أن يتصدّر التجارب السياسية في جودته، وكان القائد الأول مثالا للصبر والتحضّر والخلق الكريم.
ترسيخ السلوك الأخلاقي
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يتساءل في كتاب (من عبق المرجعية):
(هل رأيتم مثيلاً لسلوك نبيّنا صلى الله عليه وآله في التاريخ؛ يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة!).
السلوك الأخلاقي الأول الذي ثبّته الرسول (ص) في عقول قومه، وجعله من الثوابت الأخلاقية هو حرية الاختيار، ولكن هذه الحرية مقرونة بالتوعية والتوضيح والتثقيف، فقائد المسلمين كان يبذل كل ما في وسعه حتى يضع الحقائق الصحيحة في نصابها، وكان يفسر ويشرح ويبيّن للناس جميع الأمور العصيّة على الفهم أو الإدراك، وبعد تقديم هذه الخطوة (الإفهام والتوضيح)، بعدها يكون الإنسان حرّا في ما يرغب به من خيار فكري أو سياسي أو حتى ديني.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول عن ذلك:
(كان الرسول صلى الله عليه وآله يهدي قومه وينصحهم ويوضح لهم طريق الرشد ويميزه عن طريق الغي ثم يترك الاختيار لهم).
مثل هذه التجارب الثرية يمكن أن تقدّم دروسا كبيرة لقادتنا اليوم، إذ عليهم نشر حرية الرأي والاختيار بعد الشرح والتفصيل، حتى ينشأ لدينا جيل واع يحترم ذاته، ويشعر بأنه يعيش في إطار نظام سياسي متطوّر يحمي الحريات ويحرص على حقوق المواطنين، أو حتى غيرهم من البشر.
فالرسول صلى الله عليه وآله، إبان الرسالة النبوية واجه الكثير من الاعتداءات، وردّ هجمات المعتدين، ولكن لم يحدث أن أُجبِر أحداً من المهزومين أمام المسلمين بالدخول قسرا في الإسلام، فكان الأسرى من جيوش المعتدين لهم كامل الحرية في خياراتهم الدينية، وهذا يمثل قمة الحرية الفكرية الشخصية التي ينبغي أن يعمل بها ويحرص عليها قادتنا اليوم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(لقد ردّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله عشرات الحروب والاعتداءات التي شنّها أهل الكتاب دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام).
ويضيف سماحته: (لم يسجّل التاريخ حالة واحدة أجبر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله ذميّاً على اعتناق الإسلام، والتاريخ حافل بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسجّل وحفظ الدقائق عن حياته).
حرية الرأي وأحقيّة الصوت المعارض
هذا يؤكد لبعض القادة المتجبرين، أو المتطرفين، بأنهم على خطأ، وأن حرية الرأي والفكر والاختيار قام بها قائدنا الأكرم والأعظم، وسيرته وقيادته هي التجربة السياسية الأكثر ثراءً على مرّ التاريخ، وحريّ بقادة اليوم أن يدرسوا هذه السيرة السياسية والأخلاقية العظيمة، ويغترفوا من نبعها، ويتعلموا كيف يصبحون قادة ناجحين، حريصين على بناء الإنسان والدولة معها، كما فعل ذلك النموذج التاريخي الأعظم للمسلمين وللبشرية التي وضعته على رأس أفضل مئة شخصية على مر التاريخ.
وقد يتساءل بعض قادة اليوم عن العوامل والشروط التي يمكن أن تجعل منهم قادة متميزين، وهنا لابد من التأكيد على أهمية اختيار النموذج التاريخي، ودراسة سيرته جيدا، وفهم الكيفية التي سيَّر بها دولته وأمته، وربما لا يقرّ بعض قادتنا بأن حرية الرأي وحق الاعتراض على الحكم، تعد من أهم العوامل التي تثبّت أركان الدولة القوية المستقرة العادلة.
لهذا كل قادة المسلمين اليوم، تقع عليهم مسؤولية الإخفاق، كونهم أصحاب القرارات وصنّاعها، وما يعاني منه المسلمون في دولهم وأنظمتهم من حالات تخلف وتراجع وضعف، ما هو إلا نتيجة لقمع الرأي ومحاصرة الحريات، ورفض الأصوات المعارضة لهم، وليعودوا لسجل التاريخ كي يعرفوا جيدا كيف تعامل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله مع الرأي المعارض؟!
وهناك من دخل في مدرسة الرسول (ص)، وتتلمذ على يده سياسيا وقياديا، وشكل نظاما سياسيا يعدّ من أعظم الأنظمة السياسية في تاريخنا، إنه الإمام علي عليه السلام، هذا القائد العظيم الذي سار على نهج أستاذه، واحترم المعارضين وسمح بحرية الرأي والاختيار وعضّد العدالة الاجتماعية، ونشر المساواة بين الجميع، حتى أقرب الناس إليه عوملَ بمساواة وعدالة لا مثيل لها عندما لم يفرّق قائد الدولة بينه وبين المواطنين الآخرين في العطاء والاستحقاق.
ومن الدروس العظيمة التي يمكن أن يستقيها قادتنا اليوم من تاريخ الإمام علي عليه السلام وسيرته النموذجية، تعامله مع حق المعارضة وحرية الرأي، فعلى الرغم من أن الأكثرية المطلقة قد بايعت قائد الأمة الإمام علي عليه السلام، إلا أنه دعا كل من لديه اعتراض عليه أن يتقدّم ويعلن اعتراضه بحرية تامة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لقد بايعت الأكثرية المطلقة من الناس الإمام عليّ سلام الله عليه، ومع ذلك يصعد المنبر ليبحث إن كان هناك معارض له، وما هو سبب معارضته! فهل تجدون لهذا نظيراً في التاريخ؟!).
هكذا يمكن اللجوء إلى تجارب التاريخ من قبل قادتنا اليوم، والإطلاع على سيرة النموذج الناجح المتميز، والسعي لتمثّل أساليبه ومبادئه في القيادة والإدارة والتعامل مع الناس واحتياجاتهم، في إطار المبادئ الضامنة للحريات والحامية للحقوق والساعية نحو نشر العدالة الاجتماعية، حيث بناء الدولة الناجحة يتوقف على حماية الرأي الآخر، والسماح للصوت المعارض أن يجد المساحة الكافية، والتصرّف بحرية كما حدث في نماذجنا القيادية التاريخية المتفرّدة.
اضف تعليق