التمسك بالأخلاق ليس أمراً سهلا، إنه يحتاج إلى نوع من الصراع الداخلي بين الإنسان وبين نفسه، فمتى تمكن الإنسان من مخالفة هواه، استطاع من قيادة نفسه بدلا من أن تقوده هي إلى الانحراف، ولعل من أصعب الصراعات تلك التي تدور بين الإنسان ونفسه، فهو مطالَب بضرب رغباته عرض الحائط...
الأخلاق هي منظومة قيم يعتبرها الناس بشكل عام جالبة للخير وطاردةً للشر، وفقاً للفلسفة الإيجابية وهي ما يتميز به الإنسان عن غيره، وقد قيل عنها إنها شكل من أشكال الوعي الإنساني، كما تعتبر مجموعة من القيم والمبادئ تحرك الأشخاص والشعوب كالعدل والحرية والمساواة، بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين.
كذلك يرى آخرون بأن الأخلاق هي السجايا والطباع والأحوال الباطنة التي تُدرك بالبصيرة والغريزة، وبالعكس يمكن اعتبار الخلق الحسن من أعمال القلوب وصفاتها، فأعمال القلوب تختص بعمل القلب بينما الخُلُق يمكن أن يكون قلبياً، وقد يكون ظاهرا أيضا.
ويمكن أن تُدرَس الأخلاق حيث يُقيَّم السلوك الإنساني على ضوء القواعد الأخلاقية التي تضع معايير للسلوك، يضعها الإنسان لنفسه أو يعتبرها التزامات ومبادئ يتصرّف في هدْيِها، وأيضا واجبات تتم من خلالها أعماله أو هي محاولة لإزالة البعد المعنوي لعلم الأخلاق، وجعله عنصرا مكيّفا، أي أن الأخلاق هي محاولة التطبيق العلمي، والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية، ومجردة.
الأديان ركَّزت بقوة على الأخلاق ودورها في الارتقاء بالفكر والسلوك الإنساني، ونلاحظ ذلك بشكل متواتر في تعاليم الإسلام، من خلال الإطلاع على النصوص القرآنية في هذا المجال، بالإضافة إلى ما تركز عليه الأحاديث والروايات الشريفة التي ترى في الأخلاق سبيلا إلى نقاء الإنسانية، جمعاً أو فرادى، ولهذا نقرأ: (إنّما بُعِثْتُ لأتمّمَ مكارمَ الأخلاق).
وهي المهمة النبوية الأعظم التي استطاع من خلالها إنقاذ المجتمع الجاهلي من كلّ الصفات الرعناء التي كانت تعد من واقع حالهم آنذاك، ولا نبالغ إذا قلنا أن بعض العادات والقيم السوداء، كان يتفاخر بها المجتمع الجاهلي ويجعلها فنارا له ويتباهى بها الناس آنذاك، وهي ليست من الأخلاق الإنسانية بشيء!.
ولعل المهمة الأرقى والأعظم للأخلاق، تكمن في كونها العامل الأساس المساعد على بناء مجتمع راقٍ، تسوده علامات ومؤشرات الخير، وهو ما نحتاجه اليوم في حياتنا، في ظل تهالك القيم وتضاربها، ومحاولة كنس الأصيلة منها ببدائل تنحو إلى المادية التي تنسف الأخلاق لدرجة أن بعض القيم ترى في الإنسان الخلوق (غبيّا) أو ضعيفا أو أبلهاً، وهي صفات حقيقة الإنسان الذي يرقى إلى مراتب عالية من الإنسانية، حيث الالتزام بالقيم التي ترتقي بالفرد والمجتمع الذي يعاني من الاضطراب وتصادم المصالح وهيمنة القيم المادية البائسة.
خطوات لتقوية علاقة الفرد بالمجتمع
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتاب (من عبق المرجعية):
(المطلوب من كل واحد منّا تقوية العلاقة مع المجتمع، وذلك عن طريق الالتزام بالأخلاق الإسلامية كالتواضع والوقار والبشر والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم).
التمسك بالأخلاق ليس أمراً سهلا، إنه يحتاج إلى نوع من الصراع الداخلي بين الإنسان وبين نفسه، فمتى تمكن الإنسان من مخالفة هواه، استطاع من قيادة نفسه بدلا من أن تقوده هي إلى الانحراف، ولعل من أصعب الصراعات تلك التي تدور بين الإنسان ونفسه، فهو مطالَب بضرب رغباته عرض الحائط، وعليه أن يعرف ويتدرّب جيدا على مقارعة تلك الرغبات التي غالبا ما تدخل في باب المحرمات، كالتطاول على حقوق الآخرين واللهو وهذا ما يجعل من الإنسان آلية خالية من المشاعر الإنسانية تسيّره نفسه ولهوهُ ورغباتهُ الغريزية.
لهذا فالإنسان في مجتمعنا المستهدَف بقيمه وأخلاقه، مطالب بإدارة الصراع الذاتي مع نفسه بجدارة وصبر ومطاولة، حتى يستطيع إلحاق الهزيمة بمطالب النفس، ومن ثم التأثير في أصدقائه وعائلته أيضا، مما يساعد على بناء وتكوين مجتمع أخلاقي عصيّ على الانجرار وراء الغرائز.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ينصح بالتالي: (حاول أن تخالف هواك في كل الأمور، فإن كنت لا ترغب في أمر رغم اعتقادك بصوابه، حاول أن تخضع له بكل رحابة صدر).
ولأننا مجتمع يعاني من مشكلات اجتماعية كثيرة، فإننا نفهم تمام الفهم، أن ضعف وهُزال القيم هو الذي أدّى إلى هذا الضعف والتحلّل من روابط وضوابط الأخلاق، فصار التركيز على حيازة الأخلاق أمرا لا يجوز التخلي عنه أو إهماله، حتى الطموحات المشروعة لا يجوز أن تُجرى خارج إطار الأخلاقيات المثبتة اجتماعيا، لهذا الكلّ مطالَب بتقديم ما ينبغي من جهود جبارة تقوده نحو التحلّي بالأخلاق التامة الكافية لحمياته من الانزلاق إلى الفتك بحقوق الآخرين تحت أي مبرر كان.
كيف نحوز على الأخلاق الرصينة الحامية لنا، هذا أمر ليس متاحا لمن لا يبذل ما يكفي من التدريب والإصرار والمثابرة على حيازة الأخلاق، يأتي ذلك بالتخطيط والتدريب والصبر والمطاولة، وسوف تكون النتيجة بناء منظومة أخلاق ذاتية تدرأ مخاطر الانزلاق إلى الحرام بكل أشكاله!.
لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أن الأخلاق: (تحتاج إلى التفرّغ والجدّ والمثابرة من أجل بلوغ المراتب العالية فيها).
تجاوز العوائق المحبِطة
وهناك عوائق كثيرة تحاول أن تثبط الإنسان الذي يسعى إلى بلوغ المراتب العليا للأخلاق، وهذه مشكلة مجتمعية يواجهها كلّ من يسعى لتدريب نفسه على الأخلاق الحميدة التي تحميه من الولوغ في المحرّم من الأقوال والأفعال، هذه المشكلة يمكن تلخيصها بمحاولات المقربين ممن يسعى للأخلاق، فيحاولون ثنيه عن هذا السبيل، لاسيما إذا تعلّق الأمر بالابتعاد عن القيم المادية التي استشرت اليوم في مجتمعنا.
فهناك لفيف من البشر، ومنهم مسؤولون في دوائر رسمية مختلفة المهام، يدفعون نحو ترسيخ قيم خطيرة تدفع نحو تبرير الاختلاس والسرقة المغطاة بأغطية تبريرية مختلفة، هؤلاء يسعون إلى توريط أكبر عدد من الناس المسؤولين معهم، وفقا لمبدأ (حشرٌ مع الناس عيد)، لهذا يسعى هذا النوع من البشر المنحرف إلى تعميم سلوكه ونشر القيم المنحرفة التي تورّط أكثر عدد من الناس معه.
التنبّه لهذه الأساليب الخبيثة يجب أن يكون من أولوياتنا كأفراد نسعى إلى الأخلاق والقيم الأصيلة، ونهدف إلى بناء مجتمع محصَّن من التجاوز على حدود الآخرين، وأكثر ما يحتاجه الساعي إلى الأخلاق الحصينة، هو التمسك بالصبر والصمود أمام جميع المحاولات التي تهدف إلى ثنيه عن مواصلة طريقة الأخلاقي الكبير.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إذا صبر الإنسان أو صدق في قوله وعمله أو وفى بالوعد في الموارد التي تتزاحم مع مصالحه الشخصية فإن معظم الناس يحاولون ثنيه، ولذلك يحتاج الالتزام بالأخلاق والفضائل والرقي فيها إلى صبر وصمود وتركيز ومثابرة).
في آخر المطاف، سوف يشعر الإنسان الذي دأب على حيازة الأخلاق، وعمَّق في دخائله منظومة القيم الأصيلة الصالحة، بأنه بات قاب قوسين أو أدنى من هدفه العظيم، ولعل البادرة الأولى تظهر عنده في سلامة القلب ونقائه ونظافته، وهذا مؤشر حاسم على تثبيت الأخلاق كمَلَكَة في أعماقه وضميره وأفعاله كلها، لينتهي به الأمر إلى الشعور بتلك السعادة العظيمة بعد بلوغ مرتبة الأخلاق العليا، وربط سلوكياته ومبادئه وأعماله بهذه المَلَكة الكبرى.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(لا يلمس المرء نتيجة سعيه لحيازة الأخلاق إلاّ عندما يصبح ذا قلب سليم, وتصبح الأخلاق والفضائل ملكات لديه، عندها يشعر بلذّة الأخلاق والوصول إلى مراتبها العالية).
في الخلاصة نصل إلى حاجتنا الفردية والجمعية للأخلاق، فنحن نعيش في مجتمع لا يزال يعاني من اختلال القيم، وتتضارب فيه المصالح الداخلية والخارجية، لهذا نحن في أحوج ما يكون لتطوير وتثبيت منظومة أخلاقية تدعمها قيم أصيلة تحمي الجميع من الانحراف، وتساعد بقوة على بناء مجتمع أخلاقي مستقر مزدهر وناجح.
اضف تعليق